يزداد الاهتمام بما بات يعرف بـ “بنوك البذور” Seed bank في سائر أنحاء العالم، وهي مراكز علمية مجهزة بوسائل لصون وتخزين البذور من أجل الحفاظ على أنواع النباتات المهددة بالاندثار لأسباب عدة، وبدأت هذه البنوك تنتشر، خصوصا مع تطور العلوم الوراثية وتكنولوجيا حفظ الحبوب، إضافة إلى أن جينات الحبوب المخزنة بطرق مدروسة من شأنها أن تساعد الباحثين لاحقا في تطوير محاصيل قادرة على مواجهة تغير المناخ.

وهناك عشرات بنوك البذور حول العالم، لكن أشهرها وأكبرها والأكثر شهرة “بنك البذور” في منطقة سفالبارد Svalbard بالنرويج، والذي تم افتتاحه في العام 2008، ويعرف باسم “خزنة البذور العالمية” Global Seed Vault ، وهي تضم بذور ملايين من أنواع النباتات، وهي ملك لمن يودعها فيه، ويستطيع في الوقت عينه استرجاعها حين الحاجة إليها.

 

لينينغراد وأول بنك بذور

 

فكرة تخزين بذور النباتات وحفظها لحين الحاجة إليها ليست جديدة، فهي ترقى إلى نهاية القرن التاسع عشر مع تقدم علم النبات، واشتهر عالم الوراثة الروسي نيكولاي فافيلوف Nikolai Vavilov (1887-1943) بجهده في جمع بذور نباتات من حول العالم وتخزينها في أول “بنك بذور” في مدينة لينينغراد (سان بطرسبورغ حاليا).

ولكن مدينة لينينغراد تعرضت لحصار في الحرب العالمية الثانية استمر 28 شهرا، لكن العلماء ماتوا جوعا ولم يأكلوا تلك الحبوب ليتفادوا الموت، وسمي بعد ذلك البنك بـ “معهد فافيلوف للصناعة النباتية” تخليدا لذكرى العالم الذي توفي في 1943.

وكانت جهود عالم النبات الروسي أساس الأبحاث لحفظ أنواع النباتات حتى إذا تعرض العالم لكارثة طبيعية، أو من صنع يده (كحرب نووية شاملة) يمكن لمن يتبقى إعادة شكل الحياة على الأرض.

 

بنك جديد في الرباط

 

وفي منطقتنا العربية، يعتبر بنك البذور في مدينة حلب السورية، واحدا من أهم البنوك في الشرق الأوسط، كونه يضم أنواعا من البذور يمكنها أن تساعد الباحثين في تطوير محاصيل بإمكانها مواجهة التغيرات المناخية، ولكنّ الصراع الذي تشهده سوريا والحروب حالت دون إمكانية الوصول إليه طوال السنوات الأربع الماضية.

في التاسع والعشرين من أيلول (سبتمبر) الماضي، أَطْلَق “المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة” International Center for Agricultural Research in the Dry Area المعروف باسم ICARDA وهو الذي يدير بنك البذور في حلب، “بنك شقيق” في منطقة تربل اللبنانية، يحوي الآن 30 ألفا من البذور المكررة. هذا إلى جانب بنك جديد في الرباط بالمغرب، مما يوفر آلاف البذور لتكون في متناول الباحثين.

ويقول رئيس الموارد الوراثية في محطة بحوث مركز ICARDA في الرباط أحمد العامري لمجلة “نايتشر” Nature: “إن الوضع في سوريا لم يسمح لنا بمواصلة الأنشطة الأساسية لدينا، وأنا سعيد أننا في ICARDA أثبتنا أنفسنا للعودة إلى وَضْعنا الطبيعي مرة أخرى”.

تعمل بنوك البذور كحسابات مصرفية للجينات النباتية، ويقوم جامعو البذور بإيداعها، ويمكنهم بعد ذلك سحبها لسدّ النقص في المحاصيل المفقودة في النزاعات، أو نتيجة الكوارث، لإدخال صفات جديدة في المحاصيل، مثل مقاومة الآفات، أو الحرارة، والبحث في تطوُّر النباتات عبر العصور.

 

بنك حلب ذات قيمة خاصة

 

وتعتبر مجموعة البذور لـ ICARDA، التي تم الاحتفاظ بها كليًّا في وقت سابق في بنك البذور في حلب، ذات قيمة خاصة، نظرا إلى أنها تهدف إلى تجميع البذور من المناطق الجافة في العالم. ويتضمن هذا الهلال الخصيب، الذي يمتد عبر أجزاء من شمال أفريقيا والشرق الأوسط، والقوقاز وغرب آسيا، والذي يُنظر إليه باعتباره مهد الزراعة الحديثة. تحتوي المجموعة على العديد من الأقارب البرية للمحاصيل الحديثة، مثل القمح، والشعير، والعدس وغيرها.

ويقول العامري، ودائما لمجلة “نايتشر” Nature إنّ المركز يوفر للباحثين والمربين حوالي 20 ألف عينة في المتوسط كل عام، وأغلب المواد تذهب إلى الولايات المتحدة في المؤسسات الموجودة في ولايات “سلة خبز البلاد”، مثل جامعة كنساس، وجامعة داكوتا الشمالية. والعديد من الأصناف البرية من المناطق القاحلة لها صفات يمكن أن تساعد المحاصيل لمواجهة التحديات التي يفرضها تغيُّر المناخ، بما في ذلك المقاومة للجفاف، والحرارة، والآفات، والتكيف مع الملوحة.

وتنقل “نايتشر” Nature عن ماريسيليس أسيفيدو المدير المساعد لعلوم تسليم المكاسب الوراثية في مشروع القمح في جامعة كورنيل في إيثاكا نيويورك قوله “إن بنك الجينات في ICARDA يؤوي بذور القمح، التي هي نتاج لآلاف السنين من التكيف والانتقاء الطبيعي”، مضيفا: “لم يتم استخدام واستكشاف سوى كمية صغيرة فقط من التنوع الوراثي للقمح”.

وعلى الرغم من أن معظم الموظفين غادروا موقع ICARDA في حلب في عام 2012، إلا أن القبو هناك في حالة سليمة، وفقا لعملية التفتيش الأخيرة منذ ثلاثة أشهر، ولكن لم يعد إدخال وإخراج البذور يتم بسهولة.

تمت مضاعفة جميع البذور تقريبا في بنك ICARDA سابقا، وإرسالها إلى البنوك في أماكن أخرى، وعلى وجه الخصوص إلى قبو “سفالبارد” العالمي فائق التأمين للبذور في النرويج – المعروف أيضا باسم “قبو يوم القيامة” – الذي أُنشئ لتقديم نُسَخ احتياطية من البذور المحفوظة في بنوك البذور في كافة أنحاء العالم، ولكن هذا الكنز الدفين ليس متاحا للعلماء بسهولة. وعلى النقيض من ذلك، فإنّ المقصود من مجموعة ICARDA أن تكون أساسا “نشطة”، وبعبارة أخرى، متاحة للمزارعين، والباحثين، والمربين.

 

التمويل قضية أساسية

 

ويقول مايكل فان سلاجارين، الذي عمل مع ICARDA منذ عام 1988 إلى عام 1994 إنّ اختيار تربل كموقع “خطوة رائعة”، مشيرا إلى أن تربل تقع في وادي البقاع في لبنان، الذي يوفر تدرُّجا للظروف المناخية من المناطق شبه الصحراوية إلى المناطق عالية الأمطار، مما يجعله مثاليا لاختبار كيف تنمو البذور في النظم الإيكولوجية المختلفة.

قد تجلب هذه الخطوة المخاطر أيضا، إذ يطلّ بنك الجينات على سلسلة جبال لبنان، التي تشكل جزءا كبيرا من حدود لبنان مع سوريا، وليست بعيدة عن الصراع. كما يستضيف وادي البقاع اللاجئين الفارِّين من الحرب الأهلية.

يفكر فان سلاجيرين مليا في احتمال أن يمتد النزاع إلى لبنان. ويقول: “يجب عليك أن تتساءل كيف أراحوا بَالَهُم”. ويُلاحظ أنه عندما أُنشئ ICARDA في عام 1977، كان مقره في لبنان، ولكن تم نقله إلى سوريا بسبب الحرب الأهلية اللبنانية.

ويقول العامري إن العديد من الأعضاء الذين عملوا لسنوات طويلة كانوا أقرب للتقاعد عندما غادر ICARDA سوريا، وبالتالي لم ينتقلوا إلى تربل، ولا يزال التمويل قضية أساسية، رغم أن ICARDA يتلقى مساعدة مالية ملحوظة مع الانتقال من مختلف الوكالات، بما في ذلك “اتحاد البحوث الزراعية الدولية” CGIAR، وهو مشارَكة عالمية تهدف إلى التخفيف من حدة الفقر والجوع.

إنّ القدرات الحالية لبنوك البذور في تربل والرباط – 100 ألف، و35 ألف بذرة، على التوالي – لن تصل إلى ما يكفي لمضاعفة كل البذور التي يصل عددها إلى 141 ألف بذرة، وهو ما يمثل نحو 700 نوعا من الأنواع المحفوظة في حلب، ناهيك عن الاحتفاظ ببذور جديدة.

لم تعطِّل الاضطرابات السابقة في لبنان محطة تربل الخاصة بـ ICARDA. يقول العامري بثقة: “لقد مررنا بعشرين عاما من القتال، ولم تكن لدينا أدنى مشكلات”، ومع ذلك، يتحدث الرجل المغربي بحزن عن السنوات التي قضاها في العمل بسوريا، قائلًا: “لقد استمتعنا بحياتنا في حلب، إنها واحدة من أجمل الأماكن التي يمكن العيش فيها، لديها شعب رائع وبيئة جيدة للبحوث في ICARDA”.

 

 

 

 

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This