ينفرد وطننا الصغير لبنان، بمميزات عديدة على الرغم من مساحته الصغيرة، خصوصا لجهة التنوع البيولوجي، وبالمقابل، فإن قدرة الباحثين اللبنانيين على التعرف على هذا التنوع وتوثيقه ومتابعته، تواجهها العديد من المشاكل المادية واللوجستية، إلا أن هؤلاء الباحثين يستمرون بإدهاشنا باكتشافاتهم التي تلقى أصداء عالمية على الرغم من العوائق، بينما محليا، لا تنال إلا النذر اليسير من الاهتمام وضمن مجتمع متخصص ومحدد.
في هذا السياق، خص البروفسور في الجامعة الأميركية في بيروت والأخصائي في الأسماك Ichthyologist وعلوم البيولوجيا البحرية Marine Biologist ميشال باريش موقعنا greenarea.info، باكتشاف هام على المستوى العالمي، توصل إليه بعد دراسات ميدانية موسعة، ونشرت نتائج هذا البحث في الدورية العلمية العالمية “استكشاف الأسماك في المياه العذبة” Ichthyological Exploration of Freshwaters في الثالث من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وتصدر هذه المجلة العلمية كل ثلاثة أشهر، وتعنى بالدراسات الميدانية في مجال الأسماك في المسطحات المائية العذبة، ومنها الأنهار والبحيرات والسواقي.
البحث
قبل الدراسة الحالية، اعتبرت سمكة “الشبوط اللبناني” the Lebanese spring minnow واسمها العلمي Pseudophoxinus libani المتواجدة في المياه العذبة من الأنواع المتوطنة Endemic (أي الموجودة بشكل حصري وتحديدا في بحيرة اليمونة الجبلية الموسمية)، وتعتبر هذه السمكة الوحيدة الموجودة في هذه المنطقة الجبلية، وكان قد أعلن عن انقراض هذا النوع منذ 22 عاما من قبل وزارة الزراعة اللبنانية، إلا أن عينات جديدة جمعها فريق علمي يترأسه البروفسور باريش، من بعض ينابيع الموجودة في منطقة اليمونة عام 2007، أظهرت سمكة مطابقة بالصفات الجسدية “المورفولوجية” Morphological لسمكة “الشبوط اللبناني”، وكان قد تمت دراسة الصفات الجزيئية Molecular بالتعاون مع الباحث جورغ فرايهوف Jörg Freyhof من “المركز الألماني لأبحاث التنوع البيولوجي التكاملية” German Centre for Integrative Biodiversity Research (iDiv) وفقا للفحص الجيني المعياري العالمي والمعروف أيضا بـ DNA Barcodes، الذي يصنف أنواع الكائنات الحية وفقا للجين المعروف بـCytochrome Oxidase Identification أو COI، وبالتحديد لهذه السمكة والأسماك الشبيهة بها في منطقة الشرق الأوسط والدول المحيطة بالبحر المتوسط.
وتوجد سمكة أخرى موجودة طبيعيا في نهر الليطاني والعاصي وحتى الوزاني، ومعروفة بالإسم العلميP. kervillei ، وقد توصل باريش وفريقة إلى أن السمكتين من نوع واحد، وليس هذا فحسب، بل إن هذه السمكة لم تنقرض وأن سمكة P. libani هي من الأنواع الشائعة في نهر العاصي ومصارف نهري الليطاني والوزاني.
في التفاصيل
يتواجد هذا النوع من الأسماك (من عائلة الشبوطيات Cyprinidae) في ينابيع المياه العذبة، ويقسم إلى مجموعتين لجهة النشوء والتطور، والتي تتوافق مع التوزيع الجغرافي، أولها في أواسط الأناضول وقد درست بشكل مكثف، أما المجموعة الثانية فتتواجد في بلاد الشام وأعالي نهر الفرات.
إلا أن أول من اكتشف ووثق P. libani هو العالم لورتيه Lortet في العام 1883 في بحيرة اليمونة، واعتبرتها وزارة الزراعة اللبنانية منقرضة من المناطق اللبنانية منذ العام 1985 (Khouzami et al. 1996)، إلا أن عينات التقطها باريش وفريقه في العام 2007 في منطقة اليمونة، تم التعرف عليها كـ P. libani وتمت مقارنتها بهذا النوع من الأسماك المشابهة في الأنهر المجاورة، ليثبت باريش أن السمكتين هما نوع سمكة واحدة وهي P. libani وليست منقرضة، وعلى العكس فهي شائعة.
وتوجد هذه الأسماك في معظم المياه العذبة المجاورة لنهري الليطاني والعاصي وهي عبارة عن ينابيع وروافد للنهرين، كما تتواجد وفقا للبروفسور باريش في نهري الأولي والوزاني، وأجريت مقارنة من الناحية الشكلية، والقياسات الجسدية والصفات الجزيئية بين العينات من المناطق المختلفة، والتي بلغ عددها 123 عينة وهي 33 عينة من ينابيع من حوض اليمونة، و60 عينة من نهر الليطاني ومحيطه، و30 عينة من نهر العاصي ليتوصل الفريق العلمي الذي يترأسه باريش إلى هذه النتائج الهامة.
بحيرة اليمونة
تعتبر بحيرة اليمونة موطن P. libani الأصلي منذ اكتشاف هذه السمكة في سنة 1883، وهذه البحيرة معزولة عن نهر الليطاني بسبب الإرتفاع، وتتراكم فيها المياه لتشكل هذه البحيرة الجبلية المؤقتة بطول حوالي 3 كلم وعرض 2 كلم، وتقع على ارتفاع 1650 متر (Lortet، 1883) ، وكانت هذه البحيرة تتواجد لخمسة أشهر في السنة (Abdul-Al, 1944و Joannon, 1969) ، وكانت P. libani نوع السمك الوحيد المتوطن الأصلي في هذه البحيرة.
خلال موسم الجفاف، تتجمع الأسماك في البرك الصغيرة والينابيع المجاورة، وكان يتم صيدها واستهلاكها من قبل السكان المحليين منذ ان استوطن الإنسان هذه الجبال (وفقا لـ1881 Lortet ، وGruvel 1931)، وتتكاثر هذه الأنواع بسرعة كبيرة في فصل الربيع وتستعيد أعدادها في غضون أشهر قليلة (وفقا لـ Lortet, 1883)، وفي العام 1937، تم افتتاح نفق اصطناعي من قبل الفرنسيين للسماح باستنزاف المياه نحو سهل البقاع الخصب الواقع شرق جبل لبنان (Joannon, 1969)، واختفت بحيرة اليمونة تقريبا منذ ذلك الحين، إلا أن عددا قليلا من الينابيع الصغيرة والبرك لا تزال تحتفظ بمياه دائمة.
خواص مميزة
تتميز P. kervillei عن P. libani بشكل رئيسي بموقع الزعنفة الظهرية، وعدد الحراشف على الخط الطولي للسمكة، كما أن هناك اختلافا في مواقع الزعنفة الظهرية والحوضية في الأسماك بين نهري الليطاني والعاصي، إلا أنها تتداخل في السمكتين، ولم يجد باريش اختلافا عدديا Meristic في أعداد الحراشف على سبيل المثال، حيث تراوحت أعدادها بمعدلات بين 42 و 55 بين الأسماك في المواقع المختلفة التي تتواجد فيها، منها حوض بحيرة اليمونة، أو الليطاني أو العاصي، ما يثبت بأنه لا يوجد إلا نوع واحد في المنطقة، كما لم يجد الفريق البحثي للبروفسور باريش أي مميزات لم تكتشف من قبل.
وفي دراسة شاملة سابقة على الأدلة الجزيئية barcode على كافة الأسماك المشابهة في حوض البحر المتوسط وعددها 498 نوعا من أسماك المياه العذبة، والتي شارك فيها فرايهوف وباريش وزملاؤهما، أثبت الباحث غايغر وفريقه البحثي في 2014 Geiger et al. (2014) بأن ثمة معضلة في تصنيف هذين النوعين من الأسماك P. libani وP. kervillei بناء على الأدلة الجزيئية molecular evidences.
واستنتج باريش أن “الأسماك التي تم جمعها من اليمونة لا تختلف عن الأسماك التي جمعها لورتيه وغيره من الباحثين خلال القرنين الماضيين، كما أنه ليس هناك أي دليل بأن الأسماك الموجودة اليوم في حوض بحيرة اليمونة، تم إدخالها إلى المنطقة من الليطاني، وبذلك تكون هذه الأسماك نجت من عملية تصربف مياه البحيرة”، وأضاف: “بذلك يكون النوعانP. libani و P. kervillei نوعا واحدا، وبناء عليه، تم إلغاء اسم P. kervillei علمياً بشكل عالمي بالإضافة إلى إعتماد P. libaniاسماً علمياً وحيداً لهذه الأسماك، تبعاً لمبدأ “الأولوية في التسمية المعتمد عالمياً”Principle of Priority in Zoological Nomencalture.
الخلاصة
ظل تصنيف سمكة “الشبوط اللبناني” the Lebanese spring minnow غير واضح منذ اكتشافها، وقد تأثر ذلك بمجموعة من العوامل، منها الحفظ السيء للعينات المجموعة، عدم توافر العينات في المتاحف الطبيعية، وتداخل في التقسيمات “العددية (meristic أي عدد الحراشف مثلا)، و”الجسدية” Morphometric للأسماك، وحقيقة أنها اعتبرت منقرضة.
وقد سمح اكتشاف عينات جديدة وتطور البيولوجيا الجزيئية، والدراسة التي نفذت في مختبرات “الجامعة الأميركية في بيروت” AUB في حل هذا التساؤل، وقد أظهرت هذه الدراسة أيضا أن الاستنتاجات المتسرعة قد تكون مضللة، وأن هناك حاجة لدراسات علمية حاسمة في المناطق قبل إعلان أي أنواع منقرضة.
وأكد باريش أن شح المياه وتلوث الانهار وجفافها، والاستهلاك المفرط للموارد، والعنصر البشري، والإمتداد العمراني، تؤثر كلها سلبيا وإلى حد كبير على الأنواع الفريدة المتواجدة في المنطقة وعلى التنوع البيولوجي.