تؤكد الأرقام والتجارب أن المدارس الرسمية لا تتفوق في نتائج الشهادة الرسمية فحسب، وإنما في مجال الابتكار والريادة أيضا، هذا ما أكدته تجربة ثانوية قرنايل الرسمية في المتن الأعلى، وقد حملت بعضا من هموم ومشكلات عجزت الدولة عن معالجتها، ولا سيما منها أزمة النفايات الماثلة عند كل شارع وساحة في أكثر من منطقة، وتمثلت في تشجيع إدارة الثانوية التلامذة على تخطي أطر التعليم القليدي، ونتج عن ذلك فوز فريق الطلاب التابع للثانوية عن مشروعهم الأخير، وهو عبارة عن تحويل الغاز الحيوي الناتج عن النفايات إلى طاقة كهربائية جائزة Young Entrepreneur 2016 من جامعة MUBS، وقيمتها المادية 700 دولارا أميركيا، فضلا عن منحة دراسية بقيمة 35 بالمئة من تكاليف الدراسة خلال السنة الأولى، كما فاز التلامذة بجائزة مباراة العلوم، وهي جائزة “البيئة والموارد الطبيعية” the Environment and Natural Resources Award في نسختها 13، بين 130 مدرسة مشاركة و175 مشروعا مختلفا.
إدارة الثانوية
وعن هذه التجربة، قالت مديرة الثانوية لينا هلال لـ greenarea.info: “نرى أن كل شخص من موقعه إن كان طالبا، أستاذا، ربة منزل، مهندسا، صحافيا، ناشطا أو طبيبا… إلخ يستطيع أخذ دور في إيجاد حل لمشكلة ما، فلا شك أن الجهد والصرخات ستتحول إلى هدير لتصل إلى المكان المناسب، إن كان من تلوث الهواء والماء والتربة، والمأكولات، فليس الحل بحبة دواء مسكن، وإنما بحل شامل ومتكامل”.
وأضافت:” نحن كثانوية رسمية نفتخر بأن لدى هذه المدرسة صورة جميلة واستطعنا تحسينها أكثر، ونقلناها إلى مستوى أعلى يلبي طموحات الطلاب، وقد اتفقنا منذ ثلاث سنوات حتى الآن على رسالة ورؤية وقيم نعمل على أساسها، وهدفنا بناء طالب بتفكير علمي منطقي، وتنمية الإبداع الفعال لشخصية طلابنا بعيدا عن التلقين ليصلوا إلى اتخاذ مواقف مبنية على المنطق والعلم”.
الذهب الأسود
وقالت هلال: “إن تدوير النفايات وأفضل تسميتها بـ (الذهب الأسود)، من شأنه أن يخفض الفاتورة الصحية والاستشفائية، وإذا ما تمكنا من تأمين حلول لمشكلة النفايات، فيمكننا حل مشكلات أكبر ستواجهها حتما أجيال المستقبل، ويمكن تحويل النفايات من مشكلة إلى نعمة، خصوصا وأنها باتت مشكلة عامة طرقت باب كل شخص منا”.
وأضافت هلال: “لا أريد أن أقلل من قيمة الفكرة والجهد الذي قام به الفريق، ولا نعتبر أننا اجترحنا معجزات، فالفكرة ليست جديدة، ولكن نحن نطلق طاقات طلابنا على قاعدة التقييم العلمي المنطقي، وثمة توافق على الأفكار الناجعة، لمواجهة مشكلة عامة، وربحنا الجوائز لأن توقعاتنا النظرية توافقت مع النتائج العملية، مع التنويه بالعمل الجماعي المبذول والبعد عن الفردية والشخصانية”.
مشروع الدكتور جبور جبور
وأشار المهندس في مجال الالكتروميكانيك ناجي هلال لـ greenarea.info إلى أن “الفكرة بدأت من (جمعية العناية بالبيئة والإنسان) في المتن الأعلى، وكان قد أجرى التجربة ضمن مشروع متكامل رئيس الجمعية الدكتور جبور حبور، وقد صمم ما يسمى “هاضمة” نضع فيها نفايات المواد العضوية مع سماد حيواني، وبالتخمير غير الهوائي تتحول إلى غاز الميثان، والسماد ضروري لعملية التفاعل الكيميائي”.
وأضاف: “لقد تفاعل الطلاب مع حاجة البلاد، درسوا عدة أفكار، وتشاوروا معي في حلول معينة، خصوصا وأنني اتابع هذا الموضوع مع البلديات، فقمنا بتصميم نموذج صناعي مصغر pilot project، أي تجربة صناعية أولية لمشروع متكامل، عبر انتاج الغاز الحيوي من تفاعل النفايات العضوية مع السماد العضوي، وتحويله إلى مولد خاص مجهز للتعامل مع هذا الغاز الذي يتم تصفيته (filtration)، وينتج من التفاعل السماد العضوي المعقم الغني بالآزوت للزراعة فضلا عن إنتاج الكهرباء، مع بعض الإضافات، مثل مصدر للغاز لتسريع العملية لتأخذ مدة أقل، أي حوالي أسبوع، وللوصول لإنتاجية مهمة نحتاج لمئات الأطنان، أي لمنطقة كاملة أو اتحاد بلديات، فمثلا لو أردنا إنتاج KVA 100 من الكهرباء نحتاج لـ 200 طن من النفايات العضوية المفروزة، وتعطى للدواجن كغذاء لإنتاج السماد العضوي، وفرز ما تبقى من المواد العضوية مع سماد الدواجن، واستعمال الغاز الطبيعي، أو عمل توصيلات لتسخين المحتوى من غاز الميثان الناتج، بهدف تسريع العملية لتأخذ وقتا اقل، وبهذا نستفيد من الدواجن ومنتجاتها، فضلا عن السماد المعقم والكهرباء”، وأشار إلى أن “هذا النشاط هو التفاتة ثقافية وعلمية اكثر مما هو صناعي، ولكننا أكدنا بالعلم والتجربة أن النفايات ثروة يمكن الإستفادة منها، فهذا المشروع مستدام يساعد في التخلص من مشكلة مزمنة، فنحن نقلل من التلوث، وننتج كهرباء وسمادا عضويا ودواجن، ونقلل من الأمراض، فضلا عن تأمين فرص عمل لجيل المستقبل”.
أما عن المولد، فقال هلال: “اشتريناه من السوق اللبناني، وأي مولد يمكن تعديله للقيام بهذه العملية، ويحتوي الغاز مخلفات أخرى، لذا فهو بحاجة للفلترة حتى لا يتسبب بصدأ واهتراء المولد”، أما عن الانبعاثات، فقال” انبعاثاته تقل عن أي مولد آخر، كل البلديات متشجعة ولكن التكلفة كبيرة، فالمشروع كبير ويجب أن يكون بعيدا عن الناس حوالي 4 كيلومتر، وسعة الهاضمة 10 طن على الأقل، ويكلف المشروع بشكل كامل حوالي مليوني دولار، ولكن المشروع على المدى المتوسط والإستراتيجي يضمن الإستدامة والإنتاجية، أما المشروع المصغر فكلف 600 دولارا تم تمويله من صندوق المدرسة بشكل كامل”.
وعن تجارب مماثلة، قال هلال “في صيدا انطلقوا بمشروع مشابه لكن بمجموعة من المولدات ومواد مختلفة، واستخدموا مياه الصرف الصحي مع مكونات جبل النفايات، وانتجوا الموز والكلفة الأولية كبيرة لجهة تجهيز المعمل، ولكنها لا تقارن بالكلفة البيئية والإقتصادية التي كانت تدفع سابقا للشركات العاملة في مجال النفايات وجمعها وكنسها ومعالجتها غير المستدامة”.
الطلاب
“كان العمل عمل فريق واحد”، قال الطالب فارس أبو الحسن (17 عاما) في صف البكالوريا العلمي وأحد أفراد الفريق، وأضاف: “تعاونت مع زملائي والمهندس هلال ومعلمة الفيزياء والإدارة لحل مشكلتين كبيرتين، وهما مشكلة النفايات والكهرباء، كان دوري عمليا، بإعداد توصيلات الجهاز، وأنوي التخصص في مجال الهندسة”.
وقال العضو الثاني في الفريق كمال هلال (17 عاما): “لقد درسنا أفكارا كثيرة، بالإضافة إلى زميلي وائل سري الدين الذي غادر المدرسة إلى مدرسة أخرى، وقد وجدنا أنها يمكن أن توصلنا إلى آفاق كبيرة، وهناك مشكلة ثالثة تمكنا من حلها بالإضافة إلى المشكلتين اللتين أشار إليهما زميلي فارس وهي الإستغناء عن السماد الكيميائي بإنتاج مصدر طبيعي معقم وهو السماد العضوي (دوبالين)”.
وقال وجيه جمال الطالب الثالث (17 عاما): “كان دوري المساعدة في تصميم الجهاز، وكان أدوارنا تكامليا، واجهتنا مشاكل عدة ولكن تمكنا من معرفة إمكانياتنا والتخلص من النفايات المتراكمة، خصوصا إن تم توسيع المشروع على مستوى قضاء أو اتحاد بلديات، وسيكون بديلا لمولدات الكهرباء الملوثة للجو، وأقل كلفة صحيا وماديا على أهلنا، فضلا عن إنتاج كهرباء إضافية، وسنحاول تطوير المشروع”.
المشرفة على المشروع
وقالت المشرفة على المشروع ومدرسة الفيزياء في الثانوية رندة عبلا أنها “فخورة بدعم الجهاز الإداري في المدرسة ومشاركة الطلاب بهذا المشروع الرائد”، وأضافت: “حفزنا الطلاب على التفكير بمشاريع تستطيع المدرسة تنفيذها، لحل مشكلة معينة، وبما أن مشكلة النفايات كانت في أوجها، أردنا حلا لا يتضمن حرقها كون الأمر ضار للغاية، وتوجهنا للحل الأفضل، وقد واجهتنا مشاكل عدة، منها مثلا تقطيع النفايات، بإضافة شفرات خاصة، وإضافة الغاز لتسريع العملية بهدف تحللها بشكل أسرع، وتمكنا من تجاوز المشكلات، وكان دوري الإشراف والتنسيق بين الطلاب في مراحل التصميم والتنفيذ والمشاركة بكافة المباريات، وقد نجحنا بالجدية والتعاون بين فريق العمل”.
أما ناظرة عام الثانوية راوية ضو، فقالت: “نعمل كفريق لإنجاح أي مهمة، ودوري تنسيقي وميداني ولوجستي، وتوفير المواد، وكوني أتابع دراستي في جامعة MUBS فقد كنت صلة الوصل بين الجامعة والثانوية في موضوع الجائزة والمنح”.
إهمال الدولة
بالمقابل، قالت هلال: “لم تحصل الثانوية خلال 15 عاما حتى على مقعد دراسي، ولا نستطيع استقبال اكثر من 180 طالبا بسبب التقصير من جهة الدولة بالتجهيزات والتقديمات والكادر التعليمي والإداري، كل مجهودنا فردي، وهذا الواقع له تأثير إيجابي بعدد الطلاب المعقول وإدارتهم بجهاز إداري وتعليمي متكامل”، وأشارت إلى أن “ثانويتنا من المدارس القليلة التي لم تحصل في زمن التكنولوجيا على أي جهاز كمبيوتر، وعند استلامي الإدارة كان هناك 23 جهازا تالفا، لم تعطنا الوزارة الإذن بذلك، وتمكنا من استصلاح 6 منها، ولدينا مجلس أهل ناشط جدا، تمكنا بمساعدته من الحصول على قرض من أحد البنوك لـ10 أجهزة، واستطعنا تجهيز قاعة كمبيوتر بالتمديدات الكهربائية وخلافها”.
وأضافت: “توجهنا للقطاعات المدنية لتجهيز مختبر للفيزياء، وللمعلوماتية وألواح ذكية، ما يترتب قيامنا ككادر إداري بدور العلاقات العامة أيضا، بالإضافة لمهامنا الكثيرة والمجهدة”، وأشارت هلال إلى أنه “وصلنا كتاب بتسلم مجموعة من أجهزة الكمبيوتر عددها خمسة، ونتابع منذ سنتين مع الوزارة لنعرف مصيرها ولم يقنعنا أي جواب، بالمقابل فإن المدارس المحيطة استلمتها”.
كما أن الثانوية تتابع أنشطة بيئية، منها: عملية فرز لكافة المواد البلاستيكية النظيفة، ووضع مستوعبات في كافة الصفوف والملاعب لاستقبال البلاستيك، مع تخصيص غرفة لاستقبال البلاستيك، وبالتعاون مع مؤسسة خاصة وعدت الثانوية بكراسٍ نقالة مقابلها، ليستخدمها طلاب ذوي الاحتياجات الخاصة، أو التبرع بها لدور مسنين أو مستشفيات مجاورة، فضلا عن مشروع تحسين البيئة المدرسية بزرع حديقة قرب المدرسة وتشجير مستشفى الجبل في قرنايل.