قضايا التعدّي على الأملاك العموميّة الأكثر شهرة تطال المساحات البحريّة، إلّا أن الأخطر ما يحصل في المشاعات المتروكة على سلسلتي جبال لبنان الشرقيّة والغربيّة، التي تشكّل نحو 22% من مساحته. في هذا الإطار، تشهد منطقة رأس بعلبك – السهل البقاعيّة صراعاً بين البلديّة والدولة اللبنانيّة ممثّلة بوزارة الداخليّة من جهة، والدولة نفسها وإنّما ممثّلة بوزارة الزراعة هذه المرّة وأحد أكبر متعهّدي البقاع من جهة أخرى، على خلفيّة قرار صادر عن وزارة الزراعة أتاح للمتعهّد حسّان بشراوي الاستفادة من الأملاك العموميّة لمنفعة خاصّة. فبدأت المواجهة متأخرة، بعد ثلاث سنوات، ظاهرها استعادة هذه الأملاك العموميّة، أما باطنها فهو تصفية حسابات سياسيّة تفاقمت بعد الانتخابات البلديّة الأخيرة
في البقاع الشمالي، وعلى مقربة من المشروع الأخضر الذي تحوّل يابساً وقاحلاً بفعل إهمال وزارة الزراعة، الوصية عليه قانوناً، قرّرت هذه الأخيرة منح جوزف حسّان البشراوي (نجل أحد أكبر متعهّدي الأشغال في بعلبك حسّان بشراوي) وعلاء أكرم مهنا، ثمانيّة عقارات تمتدّ على مساحة 340 ألف متر مربّع، تعود ملكيّة اثنين منهما لبلديّة رأس بعلبك، و6 للجمهوريّة اللبنانيّة من ضمن المشاعات المتروكة.
وذلك بحجّة إنشاء محميّة حرجيّة ومثمرة. عملياً، تخلّت الدولة، بموجب قرار وزير، عن أملاك عموميّة، يعود حقّ الانتفاع منها لكامل المواطنين.
ماذا يحصل في رأس بعلبك؟
السبت الماضي، تدخّل مطران بعلبك ودير الأحمر للموارنة حنا رحمة، «باسم المسيح»، لفضّ اعتصام نظّمه نحو 100 شخص من رأس بعلبك على الطريق الدوليّة، كاد أن يتحوّل دموياً، بعد أن حُيّد عن أساسه وحوّل مذهبياً، وصراعاً مارونياً (يشكّلون 10% من البلدة) – كاثوليكاً (90% من أبناء البلدة)، واتهم رئيس البلدية دريد رحّال، الذي جلس قربه مطران الكاثوليك في بعلبك الياس رحّال، المطران رحمة بالتدخّل بالمشاعات وعقارات البلدة وتوتير أجوائها طائفياً، طالباً الاهتمام بشؤون أبرشيته حصراً. فيما دعا أنصار رئيس البلديّة الكاثوليكي، المتعهّد الماروني البشراوي بالعودة إلى مسقط رأسه الأساسي، الأمر الذي استخدم في إطار محاولة تهجير الموارنة.
فيما الخلاف يعود إلى قرار وزير الداخليّة والبلديات نهاد المشنوق القاضي بجرف نحو 2000 شجرة، من العقار البلدي رقم 6710 (مساحته 27 ألف متر مربّع) يشغله المتعهّد حسّان بشراوي بموجب قرار حماية استحصل عليه من وزارة الزراعة، ويسمح له بزراعته بالأشجار المثمرة، وهو أحد العقارين اللذين تطالب البلدية باستعادتهما بعد أن أنشأ فيهما بشراوي وفي 6 عقارات جمهوريّة أخرى، بساتين أشجار مثمرة بصفتها «محمية».
بحسب مصادر الداخليّة، لا تعدّ عمليّة إنشاء المحميّات الحرجيّة والمثمرة أمراً شائعاً في البقاع، وتكاد تكون هذه الحالة وحيدة، منذ نحو ثلاث سنوات، مشيرة إلى أن القانون يعطي وزير الزراعة صلاحيّة إنشاء المحميّات للحفاظ عليها من التعدّيات واليباس والحرائق والمشاحر، لكن شرط أن لا تتحوّل إلى مساحة تجاريّة للمنفعة الخاصّة. إلّا أن ما يحصل، ليس إلّا شكلاً من أشكال التعدّيات على الأملاك العموميّة.
جذور المشكلة
أنشأ بشراوي بساتينه بقرار صادر في 7/5/2013 عن وزير الزراعة، آنذاك، حسين الحاج حسن، يحمل الرقم 412، يفرض بموجبه الحماية الإجباريّة على 23 عقاراً، تقدّر مساحتها بنحو مليون و460 ألف متر مربّع، في منطقة رأس بعلبك – السهل، سرعان ما ألحقه بقرار ثانٍ يحمل الرقم 923 صادر في تاريخ 27/9/2013، نتيجة احتجاجات الأهالي على منحه حقّ الانتفاع من هذه المساحة له حصراً، يفرض فيه إنشاء جمعيّة بيئيّة لإدارة هذه المساحة، قبل أن يعود عنهما ويلغيهما بموجب القرار رقم 1059 الصادر في تاريخ 13/11/2013 لتعذّر تأسيس الجمعيّة.
رغم ذلك، استمرّ البشراوي في أعماله، بموجب قرار قضائي صادر عن المحكمة الجزائيّة في بعلبك نتيجة دعوى رفعتها بلدية رأس بعلبك عام 2014، اعتبر وجوده في الأرض قانونياً، قبل أن يستحصل في عام 2016 على قراري حماية جديدين لثمانية عقارات تقدّر مساحتها بـ340 ألف متر مربّع (مشغول منها 200 ألف متر مربّع)، من وزير الزراعة أكرم شهيب، الأوّل يحمل الرقم 463 صادر في 26/5/2016، ويفرض الحماية الإجباريّة على العقارين 5949 و5904 من منطقة رأس بعلبك – السهل، مستنداً إلى المادة 92 من قانون الغابات التي تتيح له فرض مثل هذه الحماية من دخول المواشي على المناطق التي يرى من الضروري حمايتها، سواء كانت ملكاً للدولة أو للبلديات أو للقرى أو للأفراد، ويفرض بموجبه تحريجهما بالأشجار الحرجيّة والمثمرة، وألحقه بقرار ثانٍ مماثل يحمل الرقم 478 في تاريخ 1/6/2016 يطاول العقارات رقم 6709 و6740 و6754 و6708 و6755 و6710 (الأخيران ملك للبلديّة، الأوّل مساحته 11 ألف متر مربّع والثاني 27 ألف متر مربّع، وهما موضوع النزاع)، على أن يستثمر الأرض لمدّة تتراوح بين 7 و10 سنوات، حتى استرداد أكلافه المُقدّرة بثلاثة ملايين دولار أميركي، مقابل تشجيرها وصيانة المحميّة، على أن تبدأ الدولة بتأجيرها بعد انقضاء هذه المدّة.إلى مجلس الشورى
بعد الانتخابات البلديّة الأخيرة التي أسفرت عن خسارة البشراوي بتحالفه مع الوزير السابق ألبير منصور والعائلات في وجه تحالف القوات اللبنانيّة والحزب الشيوعي وتيار المستقبل، تحرّكت البلدية الجديدة برئاسة العميد المتقاعد دريد رحّال باتجاه مجلس شورى الدولة وقدّمت الشكوى رقم 21576 بتاريخ 12/8/2016 ضدّ وزارة الزراعة، وتطلب فيها وقف تنفيذ القرار رقم 463 الصادر في 26/5/2016، الذي يفرض الحماية الإجباريّة على العقارين 5949 و5904 (وهما ملك للجمهوريّة اللبنانيّة) من دون أخذ رأي البلدية أو مراعاة مصلحة أهالي المنطقة من أصحاب المواشي، فصدر قرار المجلس في 6/10/2016 بردّ طلب وقف التنفيذ. كما توجّهت إلى وزارة الداخليّة والبلديات مستحصلة من الوزير نهاد المشنوق على قرار في أيلول الماضي، يطلب من محافظ بعلبك الهرمل تنفيذ قرار وزارة الزراعة رقم 1059 (القاضي بإلغاء المحمّية) بمؤازرة القوى الأمنيّة، وتحرير كلّ العقارات وإلغاء الحماية الإجباريّة وإزالة المخالفات التي أقيمت عليها، والموافقة على طلب البلدية استثمار العقار 6170 لإقامة محال تجاريّة وتأجيرها لأبناء البلدة، وهو القرار الذي جوبه بمذكرة ربط نزاع من البشراوي، صدر فيها قرار إعدادي في 26/10/2016 عن مجلس الشورى يقضي بوقف تنفيذه، قبل أن يردّ عليه المشنوق بقرار يطلب فيه من القوى الأمنيّة عدم تسلم أي قرار قضائي إلّا عبر وزارة الداخليّة وتنفيذ قراره الأوّل. ما استوجب الاعتصام من بشراوي وبعض الأشخاص من أهالي رأس بعلبك، وفضّ لاحقاً بتوقيع تعهّد بتسليم العقار 6170 في 13/12/2016 لقيادة سرية قوى الأمن الداخلي بعد تحديد حدود العقار ونقل السياج.
البلدية: معركة استرجاع الملك العامّ!
يردّ دريد رحّال الأمر إلى «نفوذ يملكه البشراوي سمح بوضع هذه المساحات بتصرّفه دون سواه من أبناء البلدة، إذ أخذت وزارة الزراعة قراراتها من دون علم البلديّة أو موافقتها، حيث عمد إلى تحويره وبدل زرع الأرض بالأشجار الحرجيّة عمد إلى نصب الأشجار المثمرة والخضار والبطاطا والفاكهة الموسميّة لمنفعته الخاصّة وزيادة الربح المادي، وهو ما نعتبره اغتصاباً لحقّ أهالي البلدة بالانتفاع من أراضيهم».
ويقدّر رحّال الأرباح السنويّة التي من الممكن أن تجنيها المحمية التي يصفها بالتجاريّة والاستثماريّة، بـ500 إلى 600 مليون ليرة لبنانيّة، مدللاً على الأضرار التي ألحقتها بالرعاة نتيجة تسييجها إذ «قتلت حقّهم بتسيير المواشي في أراضٍ متروكة مرفقة، وتهدّد بتهجيرهم، بعد أن اضطروا لترك الجبال حيث ينتشر المسلّحون والجيش». ويتابع رحّال تأكيده على أن البلديّة «مستمرّة في معركتها لاسترداد كل العقارات من مشاعات متروكة مرفقة بإدارة البلديّة للمراعي والمواشي، والتي يتيح لها القانون تنظيمها وتقسيمها واستثمارها ما عدا بيعها، خصوصاً أن البلدية واقعة في عجز وهي بحاجة إلى الأموال التي قد تردها من هذه الأراضي التي نسعى لبناء محال تجاريّة عليها». في المقابل، يستند البشراوي إلى القرارات القضائيّة التي استحصل عليها والمستندات والقرارات الوزاريّة التي تؤكّد «قانونيّة ما يقوم به»، مشيراً إلى أن وقّع التعهّد «بناءً على رغبة المطران رحمة والبطريرك الراعي واتصالات من قادة أمنيين وسياسيين نافذين، تفادياً لأي إشكال دموي قد يحصل في البلدة، بعد أن وصلتنا تهديدات بحصول مجزرة، مع الاحتفاظ بحقنا بالادعاء مع وزارة الزراعة، خصوصاً أن أكلافنا مقدّرة بـ228 ألف دولار أميركي»، معتبراً أن قرار وزير الداخليّة «يتخطّى السلطة القضائيّة»، وبأنه «تحت سلطة القضاء».76 تعدّياً آخر… مسكوت عنها!
سابقاً كانت هذه المساحة عبارة عن مكبّات عشوائيّة للنفايات والردميّات، بحسب إفادة مختار البلدة سهيل نعوم، وكانت هناك نية لتحويلها إلى مخيّمات للنازحين السوريين، الأمر الذي استعيض عنه، أو بالأحرى، تمّ التنصّل منه عبر إنشاء «المحمّية» التي تضمّ اليوم 4 آبار ارتوازيّة، ونحو 23 ألف شجرة مثمرة من أنواع التفاح والدرّاق والرمّان والعنب، و6 آلاف شجرة حرجيّة من الشربين والزنزلخت والصنوبر، ألفان منها موجودة في عقار البلديّة التي، وبحجّة استعادة المشاعات (الأملاك العموميّة) التي تتخطّى مساحتها المليون دونم في رأس بعلبك، تسعى لجرفها وإقامة محال تجاريّة عوضاً عنها. فيما تغضّ الطرف عن عمليّة ممنهجة لقضم المشاعات البلديّة والجمهوريّة من خلال أكثر من 76 تعدياً، 16 منها على أملاك الجمهوريّة المتروكة مرفقة، و60 على أملاك البلديّة.
تشمل المشاعات اللبنانيّة، وهي تندرج ضمن الأملاك العموميّة، قسماً من الأراضي الأميريّة وجزءاً من الأراضي المتروكة المرفقة والأراضي المحمية بكاملها. ما يحصل في رأس بعلبك يبقى عيّنة عن الانتهاكات التي تطال المشاعات الموزّعة بين سلسلتي جبال لبنان والتي تشكّل نحو 22% من مساحة لبنان، بحسب مصادر الدائرة العقاريّة في وزارة الماليّة، سواء من خلال العرف الذي أتاح للمختارين تحديد الملكيّات العامّة والخاصّة عبر إصدار «العلم والخبر» فيها، أو التعدّيات العشوائيّة بحجّة بناء مساكن المهّجرين، أو إيجازات الإشغال التي تستغل لبناء المشاريع الخاصّة، يضاف إلى ذلك الحرائق التي تؤكّد بيانات البنك الدولي أن 95% منها مفتعلة وساهمت في تقليص مساحات الأحراج إلى 13%، والمقالع والكسّارات حيث يوجد أكثر من 700 كسّارة عاملة ومتوقّفة عن العمل، 46% غير مرخّصة.
كيديّة سياسيّة
بالنسبة إلى البشراوي الموضوع سياسي بحت، «فأنا الوحيد الذي أملك مسوّغاً قانونياً يتيح لي استعمال هذه العقارات». ويتابع «لقد حوّلت هذه المساحة إلى باحة خضراء بعد أن كانت مكبّاً للنفايات، ورفعت سعر الأرض من 20 سنتاً إلى 20 دولاراً للمتر الواحد، وأمّنت وظائف لأربعين عائلة ساهمت في تثبيت الناس في ضيعهم»، نافياً وجود مصالح متضرّرة باعتبار أن «المردود الذي تدّره الأشجار في المحمّية، أتبرّع بمثيله سنوياً في فترة الأعياد، ما قمت به هو أن ساعدت ضيعتي وأنشأت بيئة خضراء في صحراء»، ومستبعداً «إنشاء محال تجاريّة في السهل خصوصاً أن العقارات بعيدة عن صلب البلدة، ولأن البلدية تملك 15 عقاراً على مدخلها و8 عقارات قبل الوصول إلى عقار البساتين حيث الحركة البشريّة أكبر».