ما تزال أزمة “سد النهضة” الإثيوبي حاضرة بقوة بين مصر وإثيوبيا، وهي مرشحة لتأخذ مسارات عدة وسط النزاع القائم على الصعد كافة، بما فيها التهديدات المبطنة من جانب مصر، وهي لا تستبعد الخيار العسكري لحل النزاع الدائر، خصوصا وأن “مصر هبة النيل”، وهذا يعني أن هذا النهر، ومنذ تكونت الحضارات الأولى على ضفتيه كان وما يزال مصدر الحياة الرئيسي لمصر، ويتأكد يوما بعد يوم أن هذه القضية على كثير من التعقيد، سياسيا، اقتصاديا، بيئيا وتنمويا، وهي مشرعة على مراحل جديدة من العمل الدبلوماسي لاحتواء نتائجها السلبية، وإن كان مثل هذا الأمر دونه صعوبات.
وفي هذا السياق، التقى greenarea.info الاستشاري في شؤون البيئة والمنشآت والموارد المائية في احدى المنظمات الدولية، ومدير عام نقابة المهندسين في مصر سابقا المهندس سامح فاروق مقلد، وكان حوار طاول الأبعاد التاريخية للأزمة الناشئة، وآخر تجلياتها وسط احتدام الصراع الذي بدأ يتخطى مصر وإثيوبيا إلى دول داعمة لهذا الجانب أو ذاك.
وفي ما يلي نص الحوار:
Green Area: في البداية، نود الاطلاع على تاريخ الاتفاقيات حول مجرى النيل، خصوصا وأن الأزمة الآن مع إثيوبيا هي نتاج تراكمات تاريخية؟
سامح فاروق مقلد: بدأت القصة مع إتفاقية العام 1929 وكانت أولى الاتفاقيات التي ابرمها الاحتلال البريطاني مع مصر، ومن المعروف أن بريطانيا مثلت ونابت عن بعض الدول في هذه الاتفاقية كالسودان وأوغندا وتنزانيا، وكانت الاتفاقية قد نصت على انه لا يجوز انشاء أي مانع مائي (سد)، أو أي منشآت مائية على امتداد مجرى النيل أو بحيراته قبل الحصول على موافقة الحكومة المصرية، ثم كانت إتفاقية عام 1959، وهذه الاتفاقية هي المحور الذي تبنى عليه المفاوضات اليوم، وبالاستناد الى ذلك يتبين ان المشكلة تراكمت مع مرور السنين، فبدايتها كانت في العام 1956، مع بداية حكم الرئيس جمال عبدالناصر والتوجه للتوسع في أفريقيا ودعم العلاقات بين أفريقيا ومصر، فأنشأ “منظمة الوحدة الأفريقية” التي أقرت في أديس أبابا (إثيوبيا) كنوع من التآخي، ولكن عندما قرر الرئيس عبد الناصر انشاء السد العالي بدأت المشكلة، وكان الخلاف، فأبدت السودان قلقها، وهذا حق لها، وأبرمت اتفاقية بين مصر والسودان في أوائل العام 1959 لجهة تحديد حصة مصر من مياه النيل بـ 55 ونصف مليار متر مكعب، وحصة السودان بـ 18 مليار متر مكعب، وهذا التقسيم يظهر جور التقدير في حصص البلدان الباقية على مجرى النيل وعددها عشر دول، وهي تعتمد على مياه الأمطار في تأمين مصادرها المائية، فبعد العام 2000 بدأت هذه الدول تدخل حلقة الصراع على مياة النيل لاقتسام هذه الكمية نظرا لتطور وازدياد احتياجاتها من المياه، وتجدر الإشارة هنا إلى ان الاتفاقيات الدولية بشأن مجاري الانهار المشتركة بين الدول، تنص على أنه لا يجوز أن تنفرد دولة بإنشاء أي أعمال بنائية من سدود وخلافه على الممر المائي المشترك مع دول أخرى، الا بموافقة كافة الدول الواقعة على نفس النهر، وبما يتناسب ويضمن حصة كل دولة من كمية المياه اللازمة للشرب والري وخلافه، طبقا لتعداد السكان ومتوسط الاستهلاك ومياه الري، ووفقا لقانون دولي يحكم تلك العلاقات.
Green Area: وماذا عن اتفاقية اعلان المبادئ الموقعة في الخرطوم بين كل مصر والسودان وإثيوبيا؟
سامح فاروق مقلد: وقع هذا الاتفاق بين جمهورية مصر العربية وجمهورية إثيوبيا الفيدرالية الديموقراطية وجمهورية السودان حول مشروع سد النهضة الاثيوبي وتضمن مبادئ عدة، منها التعاون المشترك على اساس التفاهم، التنمية، التكامل الاقليمي والاستدامة، عدم التسبب بضرر ذي شأن، الاستخدام المنصف والمناسب، الثقة، تبادل المعلومات والبيانات، أمان السد، السيادة ووحدة اقليم الدولة، التسوية السلمية للمنازعات، وقد تم التوقيع على كافة هذه المبادئ في 23 آذار (مارس) 2015.
Green Area: تاريخيا متى بدأ الاعداد لتنفيذ “سد النهضة”؟
سامح فاروق مقلد: بدأ الاعداد لتنفيذ سد النهضة بين أعوام 1956 و 1964 مع اتجاه الرئيس جمال عبد الناصر بالتوجه الى الجانب السوفياتي، مع تخوف أميركي – إسرائيلي وبالتزامن مع ازدياد مخاوف إثيوبيا من انشاء السد العالي واستئثار مصر بالمياه، فقامت إثيوبيا بالتعاون مع اسرائيل برفع طلب للقيام بدراسة جغرافية وانشائية لبناء سد أعظم في إثيوبيا عند النيل الأزرق، ورفعت هذه الدراسة لبيت الاستصلاح والري الأميركي، وهذه هي الدراسة التي عادت واعتمدت عليها اسرائيل لدعم انشاء سد النهضة، وكانت هذه المؤسسة قد قدمت سنة 1964 دراسة مفصلة لـ 26 موقعا، منها أربعة في منطقة النيل الأزرق الذي يغذي النيل، أي مصر والسودان بنحو 85 بالمئة من قيمة إيراداته والكمية الباقية من المياه تأتي من روافد ثانوية.
Green Area: إلى أي مدى سيؤثر “سد النهضة” من حيث السعة التخزينية على مصر والسودان؟
سامح فاروق مقلد: السعة التخزينية لسد النهضة طبقا لما هو قائم تقدر بنحو 74 مليار متر مكعب، وهذه السعة تعادل حصة مصر والسودان تقريبا عند امتلاء البحيرة، بالنسبة لمصر نحن نفاوض على فتح بوابات أو فتحات جديدة، بالإضافة الى الفتحتين المخصصتين لنا، لأن هاتين الفتحتين لن تكفيا علميا لسد حاجات مصر من المياه، وطالبنا بإنشاء فتحتين اضافيتين في أسفل السد تُفتحان في المواسم التي تكون فيها الامطار صيفية أي عندما لا يكون هناك فيضانات، وهم تحججوا بأن عملية الانشاء مكلفة جدا وان التعديل من الممكن أن يلحق ضررا في جسم السد السفلي، بالاضافة الى اسباب اخرى كوقت التنفيذ والالتزامات وغيره، سببهم منطقي، ولكنه متعارض مع مصلحتنا القومية، بحيث أن ملء بحيرة سد النهضة سيسبب لنا عجزا سنويا مقسما بيننا وبين السودان يقدر بـ 15 مليار متر مكعب، واحتياجاتنا السنوية من المياه هي 84 مليار متر مكعب نفقد منها سنويا حوالي 10 مليارات متر مكعب نتيجة التبخر، والمشكلة الاكبر هي ان منسوب المياه الحالي من المفترض أن يكون 172 مترا، في عهد الرئيس أنور السادات استبدلت التوربينات (الروسية) بـ توبينات (أميركية) تحتاج على الأقل 150 مترا من المياه لتعمل بشكل طبيعي، واذا انخفض منسوب المياه يتوقف عملها ونفقد مصدرا من مصادر الطاقة.
Green Area: ما هي عواقب كل ذلك على مصر؟
سامح فاروق مقلد: أشد العواقب الناتجة عن بناء سد النهضة هي تقليل المخزون المائي اللازم لمصر، وبالتالي سيؤدي ذلك الى تصحر مساحة كبيرة من دلتا النيل، وهذا له عواقب وخيمة من تصحر وقلة المساحة المزروعة اللازمة لاستهلاك السكان، والضرر البالغ للبيئة وطبيعة الحياة البرية، وبالتالي سيتسبب بالهجرة الداخلية للسكان الذين يعتمدون على الزراعة.
Green Area: أليس من حق إثيوبيا ان تقوم بتنمية اقتصادية والاستفادة من مياه النيل؟
سامح فاروق مقلد: من حق أي دولة أن تقوم بتنمية اقتصادية واستثمارات لها داخل أو خارج أراضيها، ولكن شرط أن لا تتعارض هذه الاستثمارات مع الصالح العام للدولة المجاورة والتي هي الدولة الأم في المنطقة.
Green Area: ما هي خيارات مصر أمام الوضع الراهن؟ وما هي الحلول التي ستطرحها لمواجهة نتائج السد؟
سامح فاروق مقلد: هناك العديد من البدائل أمام مصر يمكنها اللجوء اليها: هناك شق دولي مهم لا يمكن تخطيه بسهولة، والمتمثل بالجهات الدولية الرسمية التي تسن القوانين وتحكم وتفصل في القضايا العالقة بين الدول، هناك الهيئة الدولية للموارد المائية، برنامج الانمائي المالي الذي ترعاه الاونيسكو، ومنظمة الصحة العالمية، مجلس الخبراء الدولي لأثر المشروعات المائية على البيئة وغيرها من المنظمات الدولية، كما أن هناك الحلول الفنية، والسياسية والدبلوماسية والعسكرية، ولا بد لمصر أن تتحرك في كل الاتجاهات. بالنسبة إلى الحل الدبلوماسي، هناك علامة استفهام كبيرة حول دعم كل من أميركا واسرائيل وألمانيا والصين، بالاضافة الى الدعم الذي لا نتخيله من السعودية والإمارات، والحل الدبلوماسي يأتي بالضغط على اسرائيل بأمنها القومي ليضغط على الجانب الاثيوبي، تدعيم العلاقات مع الصين التي تتبع مسار المد الاميركي في المنطقة من خلال استثمارات كبرى في إثيوبيا، فإن ابرام الاتفاقيات مع هذه الدول وتقوية العلاقات معها من شأنه أن يساهم في ايجاد حلول دبلوماسية. وهناك الحل الفني، وما لا يعلمه كثيرون ان مصر تمتلك سدا آخر في منطقة جنوب العريش سعة التخزين لبحيرته من السيول الموسمية خمسة واثنين من عشرة مليون متر مكعب، بالاضافة الى ان التربة في هذه المنطقة تحديدا خصبة جدا ولا ينقص سوى السماح بالزراعة في المنطقة لنحصل على فائض من القمح والأرز، وهذا احد الحلول الزراعية، أي ترشيد الزراعة واستهلاك المياه وخلق فرص جديدة من خلال مشروعات تستفيد من الفائض من المياه، عوضا عن هدرها في البحر المتوسط، واستغلال المساحات في زراعات لا تحتاج لمياه كثيرة، أو استغلال مناطق تهدر مياهها في الزراعة، هناك دراسات كثيرة من الممكن ان ننفذها ونطبقها كحلول، بالاضافة الى ترشيد الطاقة البديلة في منطقة الصحراء الغربية من طاقة رياح والطاقة الشمسية وقد بدأت الحكومة بالفعل الاتجاه نحو توفير الطاقة بهذه الطرق، وأيضا هناك الحل العسكري.
Green Area: برأيك، هل ستؤثر الازمة الاثيوبية وصراعات القبائل على موضوع السد؟ وهل هناك تحميل مسؤولية لمصر في افتعال النزاعات؟
سامح فاروق مقلد: بالتأكيد هناك تأثير كبير، حتى أن هناك ربطا بين النزاعات وموضوع السد، والخبير الأمني الإثيوبي “سوركتي” كان قد أشار الى أن التنمية المضطردة التي تشهدها إثيوبيا، بالاضافة الى ان مشاريع السدود والكهرباء التي تقيمها تُثير قلقاً كبيراً لدى الحكومة المصرية التي ترى أن نهر النيل وروافده الرئيسية يشكل شريان الحياة للمصريين، الأمر الذي ظهر جلياً في التحركات المصرية تجاه مشروع سد النهضة الإثيوبي، داعياً إلى الأخذ في الاعتبار التهديدات العسكرية التي صدرت من بعض السلطات المصرية تجاه إثيوبيا، وتحديداً حول سد النهضة، منوِّهاً إلى أن العمل السري المخابراتي صار هو الأداة الرئيسية لمزاولة متطلبات صراع المصالح الذي ينشأ بين الدول، خصوصا وأن أذرع المخابرات المصرية منتشرة في دول حوض النيل منذ زمن.