منذ شهرين يتنفس أهالي النبطية ومنطقتها هواءً ممزوجاً بالنفايات ودخان الإطارات والمكبّات المشتعلة. سابقاً، كان أهالي الكفور هم الذين يعانون من هذا الأمر بعدما وقع الخيار على بلدتهم لرمي نفايات بلدات اتحاد الشقيف ــ النبطية. بعد سنوات أُغلق المكب العشوائي في الكفور، وغرقت بلدات النبطية في نفاياتها، فيما تحاول القيادات الحزبية اجتراح الحلول للخروج من هذه الأزمة، ليصل الأمر أخيراً إلى فرز حزبي للنفايات
في النبطية، لا مساحات لرمي النفايات كما تفعل البلديات المجاورة. عند بداية الأزمة، توافقت بلدية النبطية مع عدد من البلديات المجاورة على استقبال نفاياتها مؤقتاً، حتى إعادة تشغيل معمل الكفور.
بالتزامن، بادر البعض إلى إشعال مستوعبات النفايات المكدسة، ظناً منهم أنهم يتخلصون من الروائح الكريهة التي تنبعث منها ويطردون الحشرات والحيوانات المجتمعة حولها. في خراج البلدات، يشعل تفاعل الغازات المنبعثة المكبات. أحياناً يحرقون النفايات في مكانها، ليوفروا كلفة نقلها إلى المكب المعتمد. في كفرتبنيت أقدم أحد الأشخاص على إحراق 2500 إطار سيارة جمعت في بؤرة بالقرب من الأحياء السكنية، ما سبّب سحباً سوداء غطّت المنطقة، استدعت تدخل فرق الإطفاء في الدفاع المدني!
الاجتماعات الكثيرة التي عقدها محافظ النبطية واتحاد البلديات وقيادتي حزب الله وحركة أمل للبحث عن مخرج للأزمة، لم تخرج بخطة واضحة. رئيس اتحاد بلديات الشقيف محمد جابر، لم يقدم في مؤتمره الصحافي قبل أيام سوى اعتذار من أهالي النبطية والكفور على ما تسببه النفايات من أضرار. الوقت يمرّ وأكوام النفايات تتراكم في الشوارع وبين المنازل والمدارس، فما الذي أوصل الأمور إلى هنا؟
طفح كيل أهالي الكفور من استيعاب النفايات في واديهم. اعتصموا مراراً واحتجت بلديتهم لدى رئاسة اتحاد البلديات والمحافظة من أن المكب ترمى فيه نفايات من خارج المنطقة، فيما الشركة المشغلة “تنتج أكثر من 70% كعوادم من النفايات بعد معالجتها!”، بحسب مصادر البلدية. الشرارة التي فجرت “انتفاضتهم” وجعلتهم يغلقون مدخل المكب بأجسادهم هي ضبط تهريب شاحنات محملة نفايات طبية ومحاولة موظفين كسر ختم الشمع الأحمر وإدخال النفايات بالقوة. تحرّكات أهالي الكفور سبقتها تحركات مماثلة في بلدات أخرى على المشهد المتكرر ذاته جراء سوء الإدارة. في التسعينيات، كان المكب المركزي لنفايات منطقة النبطية يقع في بصفور – أنصار، بموجب اتفاق مع الاتحاد لقاء بدل مالي. كانت شركة “الجنوب للمقاولات” تجمع نفايات عدد من بلديات النبطية وتنقلها إلى بصفور الذي كان يفترض أن ينشأ فيها مطمر صحي، سرعان ما تحول إلى مكب عشوائي تنقل إليه ليس فقط نفايات النبطية، بل تُستقدم نفايات من مناطق أخرى.
تحرك الأهالي فنُقل المكب المركزي إلى شوكين، حيث تكرر السيناريو العشوائي ذاته، فنقل المكب إلى زوطر الغربية ليصل أخيراً إلى الكفور. على غرار زميلاتها، وافقت بلدية الكفور على استقبال النفايات لقاء مبلغ مالي على الطن الواحد. إلا أن خلافات بين أعضاء البلدية في الدورة الماضية فضحت حلقة فساد وسرقة لملايين الدولارات، اتُّهمت بها الشركة وأعضاء في البلدية بالتواطؤ مع موظفين في الاتحاد. في تلك الفترة، بدأت وزارة التنمية الإدارية، بتمويل من الاتحاد الأوروبي، بتشييد معمل لمعالجة النفايات بجوار المكب، وفق خطة تقضي بنقل النفايات من البلدات الـ 29 الأعضاء في الاتحاد ومعالجتها في المعمل، على أن تنقل العوادم الناتجة منها إلى مكب الكفور الذي تقرر أن يصبح مطمراً صحياً. مناقصة تشغيل المعمل رست على شركة “معمار” قبل نحو ثلاث سنوات، إلا أن رئيس الاتحاد محمد جابر، ألغى المناقصة، مستنداً إلى “الصلاحية المعطاة للاتحاد بإمكانية فسخ العقد مع الشركة إن أساءت التشغيل!”. المفارقة كانت أنّ “معمار” لم تكن حينها قد بدأت العمل بالمعمل! تردد آنذاك أن إلغاء المناقصة قبل أن تبدأ الشركة بالعمل، سببه أنها محسوبة على جهة سياسية غير الجهة التي يحسب عليها الاتحاد. بقي المعمل مقفلاً لنحو عامين بسبب عدم الدعوة لمناقصة جديدة. استفحال أزمة النفايات في البلد، دفع الاتحاد، بتنسيق مع الجهات الحزبية النافذة، إلى عقد مناقصة جديدة لزّمت بموجبها شركة “دنش ــ لافاجيت” تشغيل المعمل، في تشرين الأول 2015.
80% من النفايات… عوادم!
خلال افتتاح المعمل في شباط الماضي، أعلن وزير التنمية الإدارية (الوصي على المشروع) نبيل دو فريج، الحصول على هبة جديدة من الاتحاد الأوروبي لإنشاء مطمر صحي للعوادم الناتجة من تشغيل المعمل في نفس مكان المكب العشوائي الحالي، واضعاً على عاتق البلديات أن “تقوم بحملة مكثفة ومنظمة ومستدامة للفرز من المصدر”. استجابت بلدية النبطية وأطلقت حملة توعية وتدريب على الفرز من المصدر، موقّعة اتفاقيات مع عدد من المصانع على شراء النفايات الصلبة، على أن تنقل النفايات العضوية إلى المعمل.
في الكفور، أجّلت “دنش ــ لافاجيت” بدء العمل مراراً، ما اضطر الوزارة إلى إيفاد فريق للتحقق من أسباب التأخير. ممثل شركة “دنش”، محمد رحال، برّر التأخير حينها بأن الشركة “ما زالت في المرحلة التجريبة”، علماً بأن الوزارة والاتحاد سمحا لها بالدخول إلى المعمل وصيانة معداته وتجهيز آلية العمل منذ أن رست عليها المناقصة، وكانت حينها تنتظر وصول عمال للفرز استقدمتهم الشركة من دول آسيوية. الجدير بالذكر أن الاتحاد الأوروبي (ممول المشروع) اشترط توظيف لبنانيين، وإن لم يتقدم لبنانيون للعمل، فالأولوية لتشغيل اللاجئين السوريين. تعهد رحال حينها ببدء العمل فعلياً مطلع آذار الفائت، إلا أن الشركة لم تفِ بوعدها. مراراً، توقف العمل برغم استقبال الشركة عشرات الأطنان من النفايات يومياً. تعثّر التشغيل دفع الوزارة إلى إيفاد لجنة مراقبة عاينت ميدانياً الأداء بين شهري آذار وآب الماضيين. في النتيجة، تبين أن الشركة لا تؤدي واجباتها المنصوص عليها في دفتر الشروط، إذ يقفل العمال أبواب المعمل عند الثانية بعد الظهر، كذلك إن كميات هائلة من النفايات متراكمة حول المعمل وعلى الطريق المؤدية إليه، والمنشآت بحاجة إلى صيانة ونظافة شاملة، والدرج المؤدي إلى منطقة خطوط الفرز شبه مكسور بسبب تصادم الجرافات فيه بصورة متكررة، والشاحنات التي تجمع وتنقل النفايات إلى المعمل لا تُغطّى، فضلاً عن قلة عدد العمال. تبيّن أيضاً أنّ الاختصاصي البيئي ومهندس الصيانة وممثل الاتحاد، الذي يفترض أن يشرف على أعمال الميزان، لا يلتزمون الحضور، خلافاً لما ورد في دفتر الشروط، فمن واجبات الاتحاد الحضور والتأكد من وجود الموظفين في المعمل. أظهر الكشف أن عملية التسبيخ تحتاج إلى تحسين وغربلة وإرسال عينات للفحص، ولاحظت اللجنة أن بعض أكياس النفايات تصل إلى آخر خطوط الفرز، وهي لا تزال مقفلة، ما يشير إلى أن النفايات لا تفرز جميعها.
أُنذِرَت الشركة مراراً بضرورة تحسين العمل من دون أن تستجيب. مطلع تشرين الأول الفائت، نظّم الخبير البيئي ناجي قديح، كشفاً ميدانياً في المعمل بطلب من البلدية، ليتبين أن الشركة لم تحسن أداءها. فكميات النفايات تتجاوز قدرة المعمل على استيعابها، إذ لا يحتمل المعمل أكثر من 120 طناً يومياً، مقابل عدد غير كافٍ من العمال وعدد ساعات عمل قليل. فقد بلغت كميات النفايات الداخلة إلى المعمل يومياً خلال الصيف 170 طناً، وفي أيلول 140 طناً، منها نفايات طبية (برغم أن المستشفيات والعيادات ملزمة بتصريف نفاياتها إلى شركات متخصصة)، ما فضح غياب الرقابة الجدية لمواصفات النفايات الواردة للمعمل. لاحظ قديح فعالية ضعيفة للفرز، إذ تصل نسبة العوادم إلى 80%، في حين أن السباخ الذي يتكون من المواد العضوية، لا يغربل أو يخضع لفحص الجودة ويوضع لأيام في مساحات مكشوفة تتسرب منه العصارة. كذلك، إن النفايات التي تصل في شاحنات مكبوسة، تُنقل داخل المعمل بغياب مشرف على العمال أو مراقب لأدائهم. واللافت بحسب قديح، غياب ممثل شركة “لافاجيت” الفرنسية، برغم أنها شريكة لشركة “دنش” بحسب المناقصة. إثر هذا الأمر، أصدر دو فريج تقريراً أعلن فيه “التعرض لضغوط من الجهات المانحة وتهديدها بسحب هباتها”. أعلن الوزير أنه لا يمكن الوزارة “الاستمرار في تغطية معالجة النفايات الصلبة في منطقة النبطية وتقديم هبات إضافية من الدولة اللبنانية ومن الجهات المانحة إن استمر الوضع على ما هو عليه”.
دنش قبضت سلف؟
إزاء المسار السلبي لأزمة النفايات، كان مستغرباً الحياد الذي مارسه كل من الوزارة واتحاد البلديات اللذين يملكان صلاحية تعليق عقد الشركة، علماً أن الاتحاد استخدم صلاحيته كمشرف على المعمل وألغى مناقصة “معمار”، فلماذا يصبر على “دنش ــ لافاجيت” التي يتهمها البعض بالتشغيل الصوري؟ ولماذا تتباطأ الأخيرة في تحسين أدائها؟
الأسوأ أن عقد التشغيل يمدد تلقائياً لعامين متتالين، ما يعني أن “دنش” باقية لثلاث سنوات. مصدر قضائي مواكب للملف أكد لـ”الأخبار” أن الشركة “لا تهتم لأنها قبضت سلفاً مستحقاتها البالغة مليارين و875 مليون ليرة كقيمة العقد السنوي”، علماً بأن العقد يحدد السعر الإفرادي لمعالجة الطن بـ31 ألف ليرة، لكنه يحسب قيمة العقد السنوية بمليارين و875 مليوناً على أساس أن المعمل يعالج يومياً 250 طناً. التقارير الميدانية أجمعت على أن المعمل لا يستقبل أكثر من 180 طناً، يرمي 80% منها كعوادم.
مصادر الاتحاد والوزارة نفيا الأمر، لافتين إلى أن الاتحاد، وفق العقد، يدفع المستحقات عبر مساهمة مكتب الوزير بموجب كشوفات فصلية، ينظمها الملتزم على أساس كمية النفايات المعالجة، والكشوفات تتضمن جداول يومية بكميات النفايات اليومية والبونات الموقعة من الملتزم والسائق وممثل الاتحاد وجداول بكميات المواد القابلة للتدوير التي فُرزَت والفحوصات المخبرية التي أجريت على السباخ المنتج. لكن من يضمن أن الشركة تقدم أرقاماً دقيقة في ظل ما أكده كشف الوزارة عن غياب مشرف من الاتحاد ومراقب للقبّان وتراكم النفايات في أنحاء المعمل؟
هل الاتحاد متواطئ؟
توقيف المدعي العام البيئي القاضي نديم الناشف لموظفين في معمل الكفور وتسطيره بلاغ بحث وتحرٍّ بحق موظف في اتحاد بلديات، فضح تواطؤاً بين الاتحاد والشركة. الموظفان اللذان أخلي سبيلهما بعد عشرة أيام من التوقيف، اعترفا بأن ممثل الاتحاد في المعمل أمرهما بفتح المكب بالقوة وتهريب نفايات طبية من المعمل إلى المكب لقاء بدل مالي. الموظف الذي لا يزال موضع ملاحقة، لم يحضر جلسات التحقيق التي طلب إليها. كلف الناشف الخبير المهندس جوزيف كساب إجراء كشف ميداني في المعمل والمكب، جاءت نتائجه مشابهة لما ورد في تقريري قديح والوزارة. “سوء الإدارة والتواطؤ المتعمد” دفعا رئيس بلدية الكفور خضر سعد إلى توجيه كتاب إلى المحافظ والاتحاد وشركتي “دنش” و”بصل” التي تجمع وتنقل النفايات إلى المعمل والمكب، طلب فيه “اعتماد حدّ أقصى لكمية النفايات الواردة إلى المعمل بـ 120 طناً وتكليف مراقب من البلدية التأكد من سير العمل، وتركيب أجهزة تهوية وتأمين تصريف لمياه الصرف الصحي والعصارة من المعمل”. مصدر في بلدية الكفور أكد أن البلدية “لن تعتمد على أحد لمراقبة عمل الشركة. في الأيام المقبلة، ستشرع بتدريب موظف للحضور دائماً إلى المعمل ومراقبة العمل”. أكّد المصدر وجود “أمر غير طبيعي يقف وراء تعثر العمل برغم الإمكانات والأموال التي رصدت له”، لافتاً إلى أن البلدية لم تقبض منذ تشغيل المعمل مستحقاتها المنصوص عليها في الاتفاقية مع الاتحاد، إذ يستحق دفع 6 دولارات عن كل طن كمساهمة للبلدية لقاء موافقتها على استضافة المعمل والمكب.
إلى أين؟
في الاجتماعات الأخيرة التي عقدت في محافظة النبطية وقيادتي الحزب و”أمل” بعد إقفال مكب الكفور، قدّمت اقتراحات بأن تتوزع النفايات بين أربع بلديات (اثتنان للحزب واثنتان لأمل)، ويجري العمل على إقناع إحدى البلديات باستضافة المكب البديل.
يلفت أحمد كحيل، رئيس بلدية النبطية الأكثر تضرراً، في حديث لـ “الأخبار” إلى أن بعض البلديات “موافقة على استقبال العوادم الناتجة من فرز النفايات، لا النفايات كما حصل في مكب الكفور”.
إعادة تشغيل المعمل المتوقف حالياً مرهون بإيجاد مطمر للعوادم. حتى ذلك الحين، تتدبر كل بلدية أمر نفاياتها في عقار تابع لها. أما بلدية النبطية، فكانت بداية توزع جزءاً من نفاياتها بين عدد من البلديات، والجزء الآخر يخضع لمشروع الفرز من المصدر المستمر منذ أشهر. نسبة النفايات المفروزة وصلت إلى 9 ونصف بالمئة. يجزم كحيل بأن المخرج للأزمة هو الإدارة المتكاملة للنفايات التي تبدأ من الفرز من المصدر إلى تشغيل سليم للمعمل وطمر صحي للعوادم. بعد تعذر إيجاد حلول، يقترح كحيل إنشاء معمل مستقل لمعالجة نفايات المدينة التي تنتج ما بين 40 إلى 60 طناً يومياً. قبل أيام، أنتج التوافق السياسي بين حزب الله وحركة أمل، موافقة الاتحاد، المحسوب على “أمل”، على أن تنشئ البلدية المحسوبة على الحزب معملها المستقل. رجحت مصادر مواكبة أن يستقطب المعمل بعد مدة من بدء تشغيله، نفايات البلديات الصديقة لبلدية النبطية أو المحسوبة على الحزب.
وبناءً عليه، رفعت البلدية في غضون أيام قليلة معظم النفايات المتراكمة، وتنقلها حالياً إلى معمل صيدا لمعالجة النفايات لقاء بدل مالي وإلى مكبات عبا والخيام بصورة مؤقتة حتى تشغيل المعمل في غضون ثلاثة أشهر، تصبح خلالها جاهزة للفرز الكامل من المصدر. لكن ماذا عن البلديات الأخرى؟
لا تزال البلديات الأخرى ترمي نفاياتها في مكبات عشوائية استحدثت في الأودية وخراج البلدات، فيما شرع بعضها بالفرز من المصدر، كزبدين وكفر رمان وعربصاليم. البلديات الأخرى المتضررة هي المحسوبة على أمل، وتقول المصادر إنها “تنتظر الحل من مرجعيتها السياسية التي دعمت فوز شركة دنش بتشغيل المعمل وغضت الطرف عن سوء أدائها وإقفالها للمعمل”.