لم يستشرف المسؤولون في الدولة يوماً الأزمات بخطط استباقية واضحة، إذ غالبا ما يعالجون النتائج، فلا تدابير وقائية تعطى الاولوية ضمن الخطط العامة، كما ان هناك وسائل وقاية تتخذ اثناء التحضير وإعداد هذه الخطط، وكل هذه المراحل يتم تجاهلها، علما أن من المفترض أن تخدم أساسا تنفيذ أي مشروع، وتحتاج ايضا لاختصاصيين، فالحرائق على سبيل المثال التي تفتك بما تبقى من أحراج وغابات لبنان، تقتصر مواجهاتها على استنفار مراكز الدفاع المدني وطوافات الجيش اللبناني، ولم يلاقِ أحد يوما هذه المشكلة بالبحث عن أسبابها، وإذا كان المواطنون يكتوون صيفا بنار الحرائق وأحيانا تتهدد قراهم ومنازلهم وأملاكهم، ففي الشتاء يغرقون في طوفان المياه في الشوارع، أو يعلقون في “بحيرات” تتشكل تحت الجسور وعلى مفترقات الطرق.
استفاقت العاصمة بيروت مرات عدة وهي غارقة في المياه، وفي كل مرة تتقطع السبل بالمواطنين، ويتجشمون عناء الوصول إلى أعمالهم أو العودة إلى منازلهم، ويتحملون تبعات هذا الأمر قهرا وإذلالا ومعاناة.
ازدحام السير والاختناقات المرورية
والأنكى، أن وزارة الأشغال العامة تكون قد استنفرت أجهزتها وأصدرت تعاميمها لفرق الصيانة لتكون حاضرة ومتأهبة، ويكون المحافظون والقائمقامون قد أصدروا بدورهم تعاميم للبلديات لكي تقوم بتنظيف الأقنية ومصارف المياه، لكن كل هذه الإجراءات لا ترد الكارثة ولا توقف المعاناة، بدليل أننا اعتدنا هذا المشهد مع بداية كل فصل شتاء.
المشكلة أن أحدا لم يبحث يوما في الأسباب الحقيقية لهذه المشكلة، علما أن الدولة صرفت مليارات الدولارات على البنى التحتية، ونجد في المقابل أنه مع هبوب الريح تتعطل الكهرباء، والأمر ذاته يطاول الهاتف وخدمة الانترنت، فيما الطامة الكبرى أن يظل مواطنون عالقين في بحيرات المياه المتجمعة، فضلا عن ازدحام السير والاختناقات المرورية التي تقطع أوصال البلد.
لم يتوقف مسؤول واحد على نتائج هذا الأمر على الاقتصاد ودورة الإنتاج وتأثر قطاع الأعمال، فيما لو حصل الأمر عينه في أي دولة أوروبية، لكان ذلك أدى إلى استقالة الحكومة، إلا في حالة الأعاصير والعواصف الكارثية، وليس لمجرد أن هطلت الأمطار بكثافة.
زعاطيطي
greenarea.info عرض هذه المشكلة على الخبير الهيدروجيولوجي الدكتور سمير زعاطيطي، في محاولة لتسليط الضوء على الأسباب الحقيقية لهذه الظاهرة وسبل حلها، أي معرفة أسبابها بعيدا من الحلول الترقيعية، التي وللأسف تآلف معها المواطن، وأصبحت جزءا من حياته رغم ما يتكبد خلالها من مصاعب ومعاناة.
بدايةً، أشار زعاطيطي إلى أنه “مع بداية الشتاء تغرق الطرقات وتتشكل البرك والمستنقعات وتنهار الطرقات وتهوي التلال الصخرية، عدا ازدحام السير عند مداخل بيروت المنخفضة شماﻻ وجنوبا، والتي تتحول بحيرات ﻻ إمكانية لتصريف مياهها”.
وقال: “عند مدخل بيروت الجنوبي أقاموا أنفاقا تمتلئ بالمياه وتتحول مصائد للسيارات والناس”، وأشار إلى أن “كل ذلك له علاقة بالطبيعة الجيولوجية للعاصمة بيروت وضواحيها، وهنا لا بد من أن نسأل لماذا تنخسفت الطريق في بيروت بعد زخات المطر؟ وأسمح لنفسي أن أجيب لأقول: إن الذي خطط الطريق لم يكن يعرف أي نوع من الصخر يجب استخدامه لرصفها، فهو نفذ هذا الأمر عالورق، وسارت الأمور على ما يرام، ولكن عند التنفيذ على الأرض ظهرت المشكلات، وهذا هو الحال في لبنان مع كل مشاريع البنى التحتية التي ﻻ تأخذ بعين اﻹعتبار الطبيعة الجيولوجية للأرض، في مشاريع السدود، الطرقات، اﻷنفاق، النفايات، والخزانات وغيرها”.
أين مجلس الإنماء والإعمار؟
وأشار زعاطيطي إلى “اننا بلد متخلف مؤسساتيا وعمرانيا، ومن هذه الحقيقة يمكن ان نبدأ اول خطوة نحو اﻹصلاح والتغيير”، وتساءل: “أين مجلس اﻹنماء واﻹعمار؟”، ليضيف: “إن الأموال التي صرفها منذ انشائه كان يجب أن يكون لبنان مثل اﻹمارات أو سنغافورة أو أي بلد نامٍ آخر”.
وعن سبب تجدد الفيضانات في بيروت مع بداية موسم الأمطار، قال زعاطيطي: “السبب في طبيعة البنية الجيولوجية عند هضبة بيروت التي تتكون من طبقة رقيقة من الرمل على سطح اﻷرض، وتخفي تحتها طبقات مارلية (صلصال وكربونات الكالسيوم) مانعة تسرب المياه السطحية عبرها، وعندما يهطل المطر، واحيانا خلال بضع ساعات تتساقط كمية كبيرة من 40 الى 50 ميلليمترا، ﻻ تستطيع اقنية بيروت وشبكات مجاريرها الضيقة والقديمة من أيام اﻷتراك تمريرها نحو البحر (وحتى التي تم تأهيلها مؤخرا)، تتشبع الطبقة الرملية السطحية بالمياه وﻻ تستطيع المياه ان تتسرب عموديا داخل الطبقة المارلية المانعة عموديا، فتنتشر افقيا وتتراكم على السطح، ويفيض منها الماء ليملأ المناطق المنخفضة من هضبة بيروت، مثل وطى المصيطبة، حي السلم والمناطق الساحلية المنخفضة عند مدخلي بيروت الشمالي والجنوبي”.
ورأى زعاطيطي أن “الحل العلمي بسيط وبالإمكان تسيير المياه الزائدة أو الفائضة أيام الشتاء بعيدا عن البيوت والمنشآت”، ولفت إلى أن “مثل هذا المشروع الهندسي ليس معقدا ويمكن إنجازه، لكن المشكلة أنه لا يحقق أرباحا سنوية لمتعهدي (التعزيل) والتنظيف ومكاتب الدراسات المعاملات على مسؤولين”.
وختم قوله: “بمعنى آخر في بلدنا يستثمرون هذه المشاكل متل الفيضانات وقطع الكهرباء وانشاء لسدود ومشاريع النفايات بهدف الربح، متجاهلين الحلول العلمية الصحيحة والمناسبة التي لا تحقق أرباحا”.