خمسون بالمئة من مساحة هولندا Netherlands، أو البلاد المنخفضة (بالإنجليزية Lowlands وبالفرنسية Pays bas) تقع تحت مستوى سطح البحر، أما النصف الباقي فأقل من متر فوق سطح البحر، ولذا كانت هذه التسمية، إلا أن هذه البلاد قد تتصدر الدول من حيث الاعتماد الكامل على الطاقات المتجددة، خصوصا بعد أن تبنت حكومتها المضي قدما في “أجندة الطاقة” والتي تلاقي دعما واسعا في البرلمان الهولندي، والقاضية بوقف بيع السيارات العاملة على الوقود الأحفوري ابتداء من العام 2035، فضلا عن فصل المنازل عن شبكة الغاز بحلول العام 2050، والعمل على وقف انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون من كافة المنشآت بشكل تدريجي وصولا إلى وقفها نهائيا.
ليست طموحة بما فيه الكفاية!
وقد لاقت “أجندة الطاقة” التي تقدم بها وزير الشؤون الإقتصادية الهولندي هنك كامب Henk Kamp في السابع من الشهر الجاري العديد من الإنتقادات، خصوصا من قبل المنظمات غير الحكومية الخضراء والأحزاب اليسارية في البرلمان، بوصفها “ليست طموحة بما فيه الكفاية”!
بالمقابل ينظر المراقبون الأكثر حيادية إلى هذا الأمر بشكل مختلف، فبهذه الخطة، فإن هولندا، وهي موطن لشركة “شل” Shell، إحدى أكبر شركات النفط والغاز في العالم، ستكون واحدة من أولى الدول في العالم التي وضعت تاريخا محددا لنهاية حقبة السيارات العاملة على الوقود الأحفوري، وتنص “الأجندة” على أنه ابتداء من العام 2035، فإن كافة السيارات التي تباع ينبغي أن تكون منعدمة الانبعاثات، وتعمل إما على الكهرباء أو الهيدروجين.
وفي وقت سابق طالب البرلمان الهولندي بأغلبية أعضائه، فضلا عن المنظمات البيئية بضرورة البدء في تطبيق بنود هذه الأجندة ابتداء من العام 2025، كموعد لانطلاق هذه الثورة في مجال النقل، ولكن وفقا لـ “كامب” الوزير في الحزب الليبرالي اليميني، وهو جزء من حكومة ائتلافية مع حزب العمال الهولندي، فهذا الأمر “مبكر للغاية”.
شبكة الغاز
وتتجه الثورة الثانية نحو مجال البناء، فوفقا للخطة، لن يتم توصيل المنازل التي بنيت حديثا إلى شبكة الغاز بعد الآن، وسيتم عزل المنازل المبنية سابقا بالتدريج عن شبكة الغاز، وبحلول العام 2050 سوف تتوقف المنازل عن استخدام الغاز، وسوف تدفأ جزئيا بالحرارة الناتجة من العمليات الصناعية، فضلا عن مصادر الطاقة الحرارية الطبيعية الأرضية Geothermal Energy، لذا سيتم بناء بنية تحتية جديدة لتوزيع الحرارة عليها، وستلعب الحكومات المحلية (البلديات وحكام المحافظات) دورا قياديا في هذه العملية الانتقالية.
وسيكون التغيير بالنسبة لهولندا ضخما، فمنذ أوائل الستينيات من القرن الماضي، كانت البلاد أكبر منتج للغاز الطبيعي في الاتحاد الأوروبي ومن أكبر مصدري الغاز في العالم، فضلا عن أن كل المنازل تقريبا موصولة إلى شبكة الغاز، وفقا للقانون الهولندي.
وقال كامب في هذا المجال “إن الصناعة تستهلك كمية هائلة من الطاقة، لذا لن تكون قادرة على القيام بمهامها بشكل كامل بدون غاز، لذا، فإن هولندا تتابع أبحاثها في إمكانيات حجز الكربون وتخزينه Carbon capture and storage أو CCS“.
تسريع انتقال الطاقة: تكلفة أم فرصة؟
تأتي “أجندة الطاقة” كمحصلة واقعية لنتيجة وصلت إليها شركة الاستشارات الإدارية العالمية “ماكنزي” McKinsey، في تقرير تحليلي حول التكاليف والمنافع للحد من انبعاثات الكربون تحت عنوان “تسريع انتقال الطاقة: تكلفة أم فرصة؟ Accelerating the energy transition: cost or opportunity?، خلصت فيه إلى أنه “يمثل الحد من انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون CO2 في نظام الطاقة، مع زيادة قدرها 37 بالمئة في الطلب على الطاقة الكهربائية تحديا كبيرا، وقد استحدثنا طريقة واحدة لمواجهة هذا التحدي، وذلك بزيادة قدرة توليد الطاقة المتجددة للنظام الطاقوي إلى 80 بالمئة، وإدخال تدابير المرونة، مثل إدارة جهة الطلب وتخزين الطاقة، وهذا بمجمله سيساهم بخفض انبعاثات CO2 (من مصادر الطاقة) بنسبة تصل إلى نحو 55 بالمئة، وتتطلب هذه التغييرات نفقات رأسمالية وتشغيلية بقيمة 10 مليارات يورو سنويا تقريبا، وهذا أكثر بنحو 2.5 مليار يورو من النظام الحالي المعتمد على الوقود الأحفوري”.
وتؤكد “أجندة الطاقة” الهولندية على أن سياسة الطاقة والمناخ الأوروبية يجب أن يكون متمثلة في الحد من انبعاثات الكربون كأولوية، تليها أهداف كفاءة الطاقة والطاقة المتجددة، وعلى الرغم من أن نظام تداول انبعاثات الاتحاد الأوروبي The EU Emissions Trading System (EU ETS) من حيث المبدأ “أداة جيدة” للحد من انبعاثات CO2، إلا أن الحكومة الهولندية تقر بأن أسعار CO2 في نظام تداول الانبعاثات في الاتحاد الأوروبي “منخفضة جدا”، ومن المحتمل أن تظل كذلك لبعض الوقت في المستقبل، وتتجه هولندا لتعزيز الـ ETS عن طريق تخفيض سقف الانبعاثات السنوي وتقليل الفائض من الكمية المسموح بها في النظام الطاقوي بشكل عام.
وتَعِد “الأجندة” بالدعم المستمر للطاقة المتجددة ولكفاءة هذه الطاقة، وعلى وجه الخصوص، الاستمرار في توسيع نطاق طاقة الرياح في بحر الشمال، وهي الخطوة التالية لخطة التحفيز الحالية التي تستمر حتى نهاية العام 2023، ومع ذلك فلا تتضمن هذه “الأجندة” أي خطط لإغلاق محطات الفحم القائمة، التي تطالب المنظمات غير الحكومية والأحزاب اليسارية بإقفالها.
ويعتبر الدافع خلف سياسة الطاقة والمناخ الهولندية الحالية هو “اتفاق الطاقة”، الذي تم التوقيع عليه في أيلول (سبتمبر) من العام 2013 من قبل الحكومة مع أربعين منظمة، بما في ذلك المنظمات غير الحكومية والجمعيات الصناعية، ويستمر العمل في هذا الإتفاق حتى العام 2023، كما تهدف “أجندة الطاقة” الجديدة للعمل وفق منظور طويل الأجل يمتد للفترة ما بعد 2023.
أما الحزب الوحيد الذي كان رد فعله سلبيا لطموحات الحكومة الهولندية الخضراء، فهو حزب اليمين الوطني، وبالتحديد رئيس حزب الحرية خيرت فيلدرز Geert Wilders، وقال متحدثا باسم الحزب بأن الخطة هي “مجرد مجنون”، لأنها سوف تكلف الكثير، ويرى حزب الحرية أن بناء محطات الطاقة النووية العاملة على الثوريوم هو الحل الأفضل.
مجالات تفوق أخرى
بالإضافة إلى هذه الخطوات الهامة في سياسة هولندا البيئية، تتمتع هولندا بمزايا إضافية تؤهلها للوصول إلى لقب دولة المستقبل المستدام، فهي البلد الوحيد الذي لا يوجد فيه كلاب ضالة بل يتم العناية بهذه الحيوانات لمنع التعديات عليها، فضلا عن وجود أطول طريق معبد بالألواح الشمسية في العالم، وهو مخصص للدراجات الهوائية بطول 70 مترا، يساهم بتوليد 70 كيلوواط في الساعة في المتر المربع، كما تم بناء محطات لتزويد السيارات الكهربائية بالطاقة كل 50 مترا لتشجيع السكان على اقتناء هذه السيارات، فضلا عن الدعم الضرائبي والإعفاءات الكبيرة.
كما تعتبر هولندا بلد القنوات المائية، خصوصا بلدة “غيثورن” Giethoorn، فلا توجد فيها طرقات للسيارات، بل يكون التنقل عبر جسور تستعمل فيها الدراجات الهوائية، وقنوات مائية تستعمل فيها المراكب، وفي المجال الإجتماعي فهولندا تقفل السجون، فمنذ العام 2009 تم إقفال 19 سجنا، وفي مجال اجتماعي آخر تنوي مدينة “أوترخت” Utrecht ومدن مجاورة، في العام القادم البدء بتجربة إعطاء راتب ثابت Experiment With Universal Basic Income لجميع مواطنيها يقدر بـ 950 دولارا، يضاف إليها 150 دولارا إن قام الشخص بعمل تطوعي، وستبدأ التجربة بعينة مكونة من 250 شخصا لمدة سنتين لتلبية احتياجات هؤلاء الأفراد العاطلين عن العمل.
وفي مجال التنوع الحيوي، والحفاظ عليه، يوجد في هولندا ستة آلاف جسر طبيعي ومائي لمرور الحيوانات البرية، بهدف حمايتها من دهس السيارات، ولا ننسى أن هولندا هي بلد زراعي وتشكل الأراضي الزراعية فيها 60 بالمئة من مساحتها، وهي بلد زهرة التوليب، وصدرت هولندا في العام 2014 ملياري زهرة توليب وما يزيد على مليار زهرة ليليوم أيضا!