لا شك أن اللبنانيين يتمتعون بقدرات إبداعية مميزة… فبعد أن أصبحت مصطلحات “مزبلة” و”مكب عشوائي” و”مطمر” مفضوحة لدرجة أنها مرفوضة من عموم الناس فور سماعها، إبتدع ناحتو المصطلحات الحديثة في مجال النفايات مصطلحا جديدا ومستحدثا هو “الباركينغ” أو “الموقف” أو “مكان التخزين المؤقت”. ماذا يعني هذا الأمر؟
إنه يعبر عن إصرار “غريب” على رفض السير في السياسات السليمة بيئيا للتعامل مع النفايات، التي بادرت العديد من البلديات، وبنجاح باهر، إلى تطبيقها، ولا سيما تجربة بلدية “عبيه-عين درافيل” وبلدية “بريح” وغيرها، وذلك بالتعاون مع بعض الجمعيات البيئية، التي تساعد في تعميق الوعي البيئي حول الإدارة المتكاملة للنفايات، والفرز من المصدر والتدوير والمعالجة وتصنيع بعض المكونات الأخرى.
بدأت تتحول التجارب الناجحة لهذه البلديات إلى نماذج تحتذى. فهناك كثير من البلديات التي تسعى للتعرف التفصيلي على هذه التجربة، لكي تسير بمثلها في بلدياتها، ولكي تخرج من الدائرة المقفلة التي أدخلتها فيها سياسات الحكومة، التي لا تزال مصرة على الطمر، وعلى رفض السير في الفرز والتدوير والمعالجة، وحتى منع بعض البلديات من مجرد محاولة الخروج من “طوق” الطمر، حتى وإن مرَّ بمراحل “الكب العشوائي” أو التخزين في “مواقف”، وهو مصطلح جديد يعني “مزبلة متبرِّجة”، أي خضعت لعمليات تجميل سطحية، لا تبدل ولا تغير بجوهر الأمور في شيء.
“الباركينغ” تعبير يستعمل لمواقف السيارات… فالزبالة أيها السادة لا تشبه بشيء الكتل الجامدة والخاملة التي يصلح تخزينها لفترة معينة، كي تنقلها بعد ذلك إلى مكان آخر. فالزبالة ليست كتلة خاملة، بل هي تحتوي على حوالي 50 – 60 بالمئة من المواد العضوية القابلة للتعفن والتحلل. بضعة أيام بعد تخزينها تولد “عصارة” غنية جدا بالأحماض العضوية والمعادن الثقيلة وغيرها من المركبات الكيميائية الضارة والسامة. هذه العصارة تتطلب نظاما لجمعها ومعالجتها كيميائيا وبيولوجيا قبل التخلص منها في أوساط البيئة، باعتبارها تهدد سلامة المياه السطحية والجوفية، وتتراكم في التربة وتلوثها.
والنفايات المتراكمة المحتوية على المكونات العضوية القابلة للتعفن والتحلل والتفكك، تنتج “البيوغاز”، الغني بالميثان سريع الإشتعال، والذي يكوِّن خليطا متفجرا مع الهواء في مجال التراكيز بين 5 و15 بالمئة، وهذا ما يسبب الحرائق التلقائية في المكبات والمزابل، وأيضا في “الباركينغات”.
تدل تجارب البلديات التي أمسكت بقرارها وسارت في خطة المعالجة السليمة بيئيا عبر الفرز والتدوير والمعالجة، على أن كلفة هذا الخيار هي أقل بأضعاف عديدة من كلفة كل الخيارات الأخرى، التي كانت سائدة والتي يتمسك بها أصحاب المصطلحات الحديثة، على طريق الإصرار على الطمر وسيلة وحيدة للتعامل مع النفايات، والمترافقة بكلفات عالية جدا استنزفت أموال البلديات والصندوق البلدي المستقل، وكذلك أموال الخزينة العامة لعموم اللبنانيين.
يقول رئيس بلدية عبيه – عين درافيل، أن كلفة منظومة الإدارة السليمة بيئيا التي تطبقها البلدية منذ حوالي السنة وشهرين، يساوي ثلث (3/1) ما كانت تدفعه البلدية في السابق، أي بتوفير ثلثي تلك المبالغ، مما يتيح للبلدية تطوير معمل النفايات من جهة، وتنفيذ مشاريع تنموية وخدمات أخرى للقرية وأهاليها.
هذا ما فضح التضخيم الكبير للكلفات المرافقة لسياسات الطمر، وربما هذا ما يفسر ذلك الإصرار المستميت على التمسك به خيارا وحيدا، حتى ولو مرَّروه في مراحل “المزبلة” أو “المكب العشوائي” إلى “الباركينغ” فإلى المطمر كاستراتيجية لا بديل عنها! وعن ما تفترضه من صرف موازنات ضخمة، تترافق بعمولات وسمسرات دسمة للأزلام والمحاسيب.
الخيارات أصبحت واضحة أمام العيون لمن عنده عيون ترى، وآذان تسمع، وعقل يميز، وضمير يقيس الخيارات، ولم يعد مقبولا السير في سياسات أوصلت إلى الفشل االذريع، المترافق مع هدر وسرقات بمئات ملايين الدولارات من أموال البلديات والمال العام، وأوصلت أيضا إلى كوارث بيئية وصحية جعلت من لبنان البلد الأعلى نسبة لتعرض أبنائه للأمراض السرطانية وغيرها من الأمراض الخطيرة والمزمنة.
الفرز من المصدر ومعامل المعالجة والتدوير وتصنيع بعض المكونات الأخرى هو منظومة الإدارة السليمة بيئيا، والآمنة صحيا، والمقبولة اقتصاديا واجتماعيا، بعيدا عن هدر المال العام، وعن تخريب وتلويث البيئة وتشويهها، وتهديد الصحة العامة بأكبر المخاطر.