تتصدر النروج دول العالم كافة في مقارباتها الإستباقية البيئية، وبالاضافة إلى تاريخها البيئي العريق، فهي الدولة الأولى في العالم التي وضعت سعرا للكربون منذ العام 1990، في الوقت الذي لم يسمع معظم سكان العالم عن الانبعاثات وتغير المناخ الناتج عنها، كما تأتي 95 بالمئة من الكهرباء في النروج، من مصدر الطاقة الكهرومائية، فضلا عن مساهماتها مؤخرا في الحفاظ على الغابات المطيرة في البرازيل بجمعها مبلغ 20 مليون دولارا من قبل Rainforest Foundation Norway، ليصل المبلغ الذي قدمته هذه الدولة للبرازيل إلى المليار دولار لصالح المشاريع الخضراء خصوصا منع قطع الغابات المطيرة في الأمازون.
النفاق البيئي
من جهة أخرى، خلافا لجارتيها السويد وألمانيا، الدولتين المميزتين بقصص النجاح في ساحة تغير المناخ، فإنه في السنوات الـ 25 الماضية منذ بدء وضع النروج ضريبة على الكربون، لم تنخفض انبعاثات الكربون فيها ولا بقدر قليل، أما السبب فهو الإنتاج المحلي، فالنروج هي ثاني أكبر مصدّر للغاز الطبيعي في العالم، وخامس أكبر مصدر للنفط، وينتج عن استخراج النفط والغاز من بحر الشمال كميات كبيرة من انبعاثات غازات الدفيئة، فضلا عن التوسع السريع في قطاع النفط في السنوات الأخيرة، ما وازى كل ما ساهمت به النروج للحد من انبعاثاتها مجتمعة، ومن الجدير ذكره أن هذا الأمر لا يلحظ الانبعاثات عند حرق النفط والغاز في نهاية المطاف في الدول الأخرى التي تصدر إليها هذه المنتجات في كافة أنحاء العالم.
أما المفارقة الكبيرة في مجال هذا “النفاق البيئي” فتمثلت إحداها في معالجة النروج لموضوع يتعلق بالتنوع الحيوي، خصوصا لجهة صيد الذئاب، عندما قررت القضاء على ثلثي عددها، ويقدر بـ 47 ذئبا من أصل 68، في 16 أيلول (سبتمبر) من العام الجاري، ما هدم فكرة “الفضيلة البيئية” التي تدعيها النروج.
خطوات ومواقف
يعتبر الصيد في النروج رياضة شائعة (أسوة بلبنان)، وفي العام الماضي جهز 11 ألف صياد رخصا لصيد 11 ذئبا وكان السبب المزعوم حماية الماشية، أي أكثر من 700 صياد لكل ذئب، علما أن هذه الذئاب لم تجهز إلا على 6 خراف فقط من أصل مليوني خروف، وتم اصطياد هذه الخراف عبر وجود فتحة في سياج إحدى المزارع.
إلا أن النروج من جهة ثانية، اتخذت خطوات قضائية للتخلص من الصيد العشوائي للذئاب، عبر قوانين بصيد عدد محدد، وإنزال العقوبات بالمخالفين، وقد تم بالفعل سجن 6 أشخاص العام الماضي لهذا السبب، وتستقطب النروج السياح بهدف الصيد من الخارج والداخل، إلا أن الجمعيات الأهلية البيئية تنتقد كل هذه القوانين، وبأن الحد المسموح هو أكبر من أن يتحمله مجموع الذئاب في البلاد أو أن تتعافى منه، وهو أكبر عدد منذ العام 1911.
وانتقدت رئيسة “الصندوق العالمي للحياة البرية” World Wildlife Fund أو WWF في النروج نينا جنسن Nina Jensen هذا الأمر، وقالت: “هذه مجزرة موصوفة، لم نر أي شيء من هذا القبيل في مئة سنة، عندما كانت السياسة تقضي بأن كافة الحيوانات آكلة اللحوم الكبيرة لا بد من القضاء عليها”، وأضافت: “القضاء على 70 بالمئة لا يليق بدولة تدعي البطولة في المجال البيئي، ويتفاعل الناس في كافة أنحاء العالم مع هذه القضية”.
والنروجيون منقسمون حول موضوع الصيد، فبينما المجتمعات العمرانية إيجابية عموما حول وجود الحيوانات المفترسة الكبيرة في مناطق مجاورة لهم، فالناس في الريف يعتبرونها أكثر من تهديد، وتُسْتَهْدَف الذئاب بسبب نزاع مع مصالح السكان في الأرياف، مثل التنافس على الطرائد، نهب الماشية وسلامة الإنسان.
وأكدت جنسن أن الخسائر في الماشية كانت قليلة، فمن بين مليوني من الخراف التي تطلق إلى البرية، والغابات دون مراقبة، فإن 1500 منها تصطادها الذئاب كحد أقصى، ويتم تعويض المزارعين بسخاء، بالمقابل فإن أكثر من 100 ألف منها، تقضي بالمرض، أو بسقوطها من المرتفعات، أو تدهس بالقطارات، إلا أن الذئب لا يزال يُنْظَر إليه كالشر مجسدا، وبالمقابل فإن أكثر من 80 بالمئة من الشعب النروجي يعارض قتل هذه الذئاب، ويعتبر البيئيون أنه كما في كل البلاد فالأقلية التي تريد الصيد، تفوز بالقرار خصوصا فيما يخص قرار الصيد.
وتوجد الذئاب في معظم بلاد أوروبا ما عدا المملكة المتحدة وإيرلندا، وتعتبر أعدادها في النروج الأقل في أوروبا، أما في إسبانيا مثلا فيوجد العدد الأكبر منها وهو حوالي 2000، كما أن “اتفاقية عالمية لحماية الحيوانات” (سايتس) CITES صنفت الذئب الرمادي من الحيوانات المهددة “مناطقيا” أي في النروج وإن كان غير مهدد عالميا.
الذئاب تنتصر.. جزئيا
ونتيجة للضغط الشعبي والعالمي من قبل المنظمات البيئية، مع تحذيرات من أن هذا القرار قد يؤدي إلى نتائج كارثية على أعداد هذه الحيوانات، وعلى التنوع البيولوجي، وأثبتت إدارة الحيوانات المفترسة الكبيرة من خلال مشروع Large predators and human communities والمعروف بالنروجية باسم RoSa، أن 15 من هذه الذئاب تعيش وحيدة ما يمكن أن تشكل تهديدا للماشية، لذا تم التراجع عن العدد الأصلي، وخفض إلى هذا العدد، وأصدر وزير البيئة والمناخ فيدار هيلجيسن Vidar Helgesen قرارا بهذا المجال، قائلا “ان المحامين في وزارة العدل خلصوا إلى أن هذا الأمر يتعارض مع تشريعات التنوع البيولوجي المحلي واتفاقية بيرن الدولية”، أما البيئيون فيؤكدون أن الوزير تلقى ما يقرب من 7 آلاف رسالة بالبريد الإلكتروني من النروج ومن كافة أنحاء العالم، تطالبه بوقف حملة الصيد هذا، كما ووصل هذا الخبر إلى عناوين الصحف في كافة أنحاء أوروبا، وأتى القرار كمفاجأة للبيئيين و”لوبي الصيادين” على حد سواء، خصوصا أن الحكومة أبدت موافقتها بداية على قتل الذئاب، والآن فإن 300 صياد بالتعاون مع أعضاء من الشرطة وحكام المناطق، سيضعون أسلحتهم جانبا.
ويعزو البيئيون نجاح حملتهم ليس للوضع “الأيقوني” للذئب فحسب، بل إن أكثر من 70 ألفا من النروجيين وقعوا على عريضة مطالبين بإيقاف قتل الذئاب، وقالت جنسن أن “هذه أجمل هدية بمناسبة عيد الميلاد يمكن أن نتمناها”، وأضافت “على الأقل أظهرت أن للذئاب النروجية قانونا يحميها، إنها جزء من التنوع الطبيعي للنروج ومعرضة لخطر الإنقراض”.
د. يونس: قرار جائر وغير منطقي
واعتبر رئيس “جمعية الجنوبيون الخضر” الدكتور هشام يونس لـ greenarea.info أن “هذا القرار جائر وغير منطقي، في تقديره لتداعيات ذلك على الذئاب وقطاعها ككل، وعلى استدامة وجود الذئاب، وبالتالي النظم البيئية التي هي جزء منها، لذلك توصف هذه السياسة بغير المستدامة”.
ورأى أن “الأعداد لا تستدعي أن تقر رخص لقتلها، كما أن موضوع قتل الماشية، ليس سببا وجيهاً لذلك، على العكس من ذلك فالذئب بمطاردة فريسته ينتقي الفريسة الأضعف فيساهم بالانتقاء الطبيعي، وتحسين نوعية الماشية.
ولفت يونس إلى أن “استهداف الذئاب المنفردة، والتي لا تكون ضمن قبيلة، هو أيضا غير مقبول، وليس شرطا كونها وحيدة أنها عدوانية، وهذه الحيوانات تأكل حاجتها ولا تقتل بهدف القتل، كما أن الحدود والمسافات أمامها مفتوحة، ويمكن أن تنتقل من بلد أوروبي إلى آخر”، وقال أن “بريطانيا وإيرلندا واسكتلندا انقرضت فيها الذئاب منذ 3 قرون وثمة جهود ونقاش متواصل لم يحسم حول إعادتها وهي عملية أكثر تعقيدا مما تبدو”.