ما يزال الخفاش (الوطواط) يمثل لغزاً يحير العلماء، ولا تزال الدراسات تستهدف البحث في معرفة سلوكياته وتطوره، وإماطة اللثام عن أمور لم يقدم العلم حتى الإن إجابات وافية عنها، خصوصا وأن الخفاش هو الحيوان الثديي الوحيد الذي بمقدوره الطيران، وتبقى صعوبة البحث متمثلة في وفرة أنواعه، إذ تم إحصاء وتصنيف نحو ألف نوع من الخفافيش حتى الآن، وهي تعادل ربع عدد أنواع الثدييات Mammals في العالم، يوجد منها نحو سبعة أنواع فقط في لبنان، من بينها وطواط الفاكهة.
يتسم عالم الخفاشيات بكثير من الغرابة والأسرار، فهي على سبيل المثال تعيش في بيئة اجتماعية على كثير من التعقيد، كما أن الخفاش يتمتع بإمكانيات كبيرة في النطق ويمتلك قدرات فريدة في هذا المجال، ولديه سمات خاصة تمكنه من تتبع فريسته واستكشاف بيئتها، باستعمال نظامه الصوتي الأمر الذي يساعده على التكيف والتأقلم، وتأمين غذائه وسبل استمراره في ظروف طبيعية معقدة، فضلا عن امتلاكه قدرة فائقة على حفظ الطاقة من خلال تخفيض معدلات الأيض، الأمر الذي يساعده على النجاة والهرب.
وللخفاش Bat (اسمه العلمي Chiroptera) أهمية بيئية، ذلك أن أكثر من ستين بالمئة من أنواعه تقتات على الحشرات، وعظام الذراع واليد لدى عائلة الخفافيش رشيقة وطويلة الأمر الذي يساعدها على الطيران، وهي تمتلك مخالب في إصبعيها الأولين، وأجنحة قصيرة وعريضة.
دراسة حديثة
وفي سياق الدراسات التي تستهدف الخفاش عموما، ثمة دراسة حديثة انطلقت مؤخرا تركز على فهم كيف لهذه الثدييات الطائرة أن تغني، وكيف تتعلم نداءاتها وألحانها، وسبل التخاطب والتواصل في ما بينها، وتلحظ هذه الدراسة حل هذه الألغاز من خلال قراءة تسلسل جينومات أكثر من ألف نوع من الخفافيش.
وبحسب مجلة “نايتشر” Nature العلمية المتخصصة، تم الإعلان “مشروع الألف خفاش” BAT 1K، في الرابع عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي 2016، خلال “المؤتمر السنوي لجمعية علم الأعصاب” The annual conference of the Society for Neuroscience بسان دييغو في ولاية كاليفورنيا الأميركية.
ويولي منظمو المؤتمر اهتماما بعالم الخفاشيات، خصوصا لجهة معرفة المزيد عن قدرتها على شق طريقها في الظلام، من خلال الرصد بالصدى، وكذلك عن أجهزتها المناعية القوية التي تساعدها في التخلص من فيروس الإيبولا، وعن أعمارها الطويلة نسبيا.
سونيا فيرنيس Sonja Vernes، المتخصصة في علم الوراثة العصبية بـمعهد “ماكس بلانك” Max Planck لعلم اللغة النفسي في نيميجن Nijmegen بهولندا أشارت إلى “جينومات الأنواع الأخرى، مثل الطيور والجرذان مفهومة جيدا، لكننا ما زلنا لا نعرف أي شيء عن جينات الخفافيش”.
أما ميريام كنيرنشلد Mirjam Knörnschild المتخصصة في علم البيئة السلوكي في “جامعة برلين الحرة”، فتقول إن بعض الخفافيش يبدي سلوكا ثرثارا، يشمل إصدار أصوات الصياح، والبقبقة، والصراخ الحاد، والصفير. وتتعلم الخفافيش الصغيرة الأغاني والأصوات الأخرى من معلمين ذكور أكبر سنا. وتستخدم الخفافيش هذه الأصوات أثناء الغزل والتزاوج، وعندما تجلب الطعام، وأثناء دفاعها عن منطقتها ضد المنافسين”.
الرصد بالصدى
ودرس العلماء النغمات الصوتية لحوالي 50 نوعا فقط من الخفافيش حتى الآن، بحسب المصدر عينه، كما أن معرفتهم بالتواصل بين الخفافيش أقل كثيرا من معرفتهم بتواصل الطيور. وحتى الآن، وجدت أربعة أنواع من الخفافيش التي يتعلم بعضها الأنغام الصوتية من بعضها الآخر، أو من آبائها، أو من الذكور اليافعة الأخرى، تماما مثلما يتعلم الطفل من أبويه تدريجيا كيف يتحدث.
وجاء في “نايتشر” أن “الدراسات الوراثية حددت جينا واحدا على الأقل له صلة بالكلام واللغة، ومعروف عن هذا الجين أيضا أنه يلعب دورا في كيفية تعلم اللغة في البشر، والتعلم الصوتي في الطيور المغردة”.
ويتوقع الباحثون العاملون في “مشروع الألف خفاش” أن يجدوا جينات أخرى لها علاقة بعملية التواصل، وأن تكون هناك أنواع أكثر بكثير مما نعرفه، لديها القدرة على تعلم الأغاني، والنداءات والأصوات الأخرى، وتقول كنيرنشلد في هذا المجال: “إن التعلم الصوتي ليس صفة نادرة”، وتضيف: “يتنامى لديَّ الاقتناع بأن هناك طيفا كاملا من التعلم الصوتي في الخفافيش”.
وقد درِست لأعوام كثيرة قدرة الخفافيش على الرصد بالصدى. ويرجع ذلك جزئيا إلى تطبيقات تلك التقنية في مجالي السونار والرادار، لكن العلماء يعرفون القليل جدا عن التواصل الصوتي والسلوك الاجتماعي اللذيْن يقودان طريقةَ تعلم الخفافيش لأغانيها وأصواتها، حسب قول مايكل يارتسيف Michael Yartsev، المتخصص في علم البيولوجيا العصبية بجامعة كاليفورنيا – بيركلي، وأشار يارتسيف إلى أن دراسة التعلم الصوتي في الخفافيش “تكاد تكون مجالا غير مطروق تماما”، مشبها إياها – بحسب نايتشر أيضا – بحالة البحث العلمي لأغاني الطيور قبل 60 عاما مضت.