ترتبط التغيرات في أنماط المناخ والطقس في كافة أنحاء العالم مع الاتجاهات الاجتماعية والسكانية، ما ينتج عنه اختلال في البنية التحتية للمياه بشكل مضطرد ويجعل الحياة أصعب بالنسبة للكثيرين، إلا أن الأدلة الكثيرة تشير في الوقت الحاضر إلى أن المناخ هو أحد العوامل الرئيسية للمخاطر المتزايدة المرتبطة بالأمراض الناجمة عن نوعية الغذاء، خصوصا تلك التي تنقلها المياه، وفي حين أن الروابط بين تلك الأمراض والمياه معقدة، فإن كلا من درجة الحرارة وهطول الأمطار يرتبطان بشكل مباشر وغير مباشر مع انتشار هذه الأمراض، لا سيما لجهة نوعية الغذاء والمياه وسلامتهما، لذا من الأهمية بمكان، العمل على تحسين البنى التحتية، واتخاذ الإجراءات المناسبة لمنع المخاطر المرتبطة بالمناخ، وما يتبع ذلك من تأثير على الصحة العامة.

 

مسارات ثلاثة

 

وتأتي مسببات هذه الأمراض عالميا من خلال مسارات ثلاثة، نوردها على النــــحو الآتـــــــي:

أولا: العلاقة المباشرة بين درجة حرارة المياه وبعض الكائنات الحية الدقيقة التي تسبب التهاب المعدة والأمعاء.

ثانيا: الروابط المباشرة وغير المباشرة بين تلوث الأغذية وبعض حالات تفشي الأمراض المنقولة عن طريق الأغذية، ودرجة حرارة سطح الأرض.

ثالثا: التغيرات الممكنة في أنماط الإنتاج الغذائي بسبب تغيرات المناخ، من درجات الحرارة والأمطار والرطوبة والفيضانات، وجميعها عوامل تساهم في انتشار الأمراض.

 

أمراض تنقلها المياه

 

ربطت أدلة عديدة في أكثر من 100 مقالة علمية بين هطول الأمطار الغزيرة والفيضانات والعواصف الشديدة وزيادة تفشي الأمراض، وتناولت الظواهر الجوية التي تساهم في هذا التفشي، لا سيما تلك ذات الصلة بالمياه، وذلك بين الأعوام 1910 و2010، ووجدت الأبحاث أن أكثر من نصف هذه الحالات ارتبطت بتلوث مياه الشرب، ومن مسببات هذه الأمراض: فيروس التهاب الكبد نوع A، فيروس النورو  Norovirus(يتسبب بحالات إسهال وتقيوء ويؤدي إلى حالة من الجفاف الخطرة عند صغار السن والمتقدمين في العمر خصوصا في فصل الشتاء)، وطفيل الكريبتوسبوريديوم Cryptosporidium (يتسبب بحالات تنفسية وإسهال)، و”الليبتوسبيرا” Leptospira (تتسبب بفشل كلوي والتهاب دماغي إن لم تعالج)، وقد وجدت مسببات الأمراض الهامة هذه في حالات الأمطار الغزيرة والفيضانات.

ولا يظهر الدليل على هذا الأمر، بمخاطر الأمراض على الصحة العامة بصورة أوضح في أي مكان في العالم أكثر من هايتي Haiti، فبعد أربع سنوات من الزلزال المدمر الذي ضرب البلاد، لا زالت الأمراض (خصوصا الكوليرا التي تحملها المياه بسبب الأمطار وسوء الصرف الصحي) تمثل مشكلة حرجة، وفي ذات المجال فقد زادت حالات الكوليرا في غواتيمالا عشرة أضعاف تقريبا بعد إعصار ميتش Hurricane Mitch في العام 1998، مع اتضاح النمط الموسمي لهذا النوع من الأمراض في بنغلادش أيضا.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن تغير المناخ المتطرف من النقيض إلى آخر، يمثل إحدى أعلى المخاطر الصحية العامة، فعلى سبيل المثال، في آذار (مارس) من العام 2006، وبعد دورة من الجفاف والفيضانات في ملاوي Malawi الأفريقية، أدت هذه التغيرات المناخية إلى تفاقم وتفشي وباء الكوليرا Cholera إلى أكثر من 4 آلاف حالة مع العديد من الوفيات بسبب سوء إدارة الصرف الصحي التي سجلت خلال الكارثة.

وفي الولايات المتحدة، ثمة أدلة علمية دامغة بأن المناخ هو المسبب للأمراض التي تحملها المياه، وارتبطت أكثر من نصف حالات تفشي الأمراض في الولايات المتحدة مع حالات الأمطار الشديدة، وارتبطت الأمطار الغزيرة بحدوث ارتفاع في نسب تفشي أمراض مثل داء الفيلقيات Legionellosis (التهابات تنفسية بكتيرية قد تصل إلى التهاب رئوي في حال عدم علاجها)، والتهابات الجروح، وأمراض مختلفة في الجهاز التنفسي والتهاب ملتحمة العين Conjunctivitis.

وفيما كشفت معظم الدراسات أن كميات أكبر من الأمطار تشكل خطرا، فقد أظهرت إحدى الدراسات في انكلترا وويلز، أن 10 بالمئة من حالات تفشي امراض ارتبطت بالطقس الجاف  لمدة أسبوعين، مع الإشارة إلى أن تصريف مياه الصرف الصحي في الأنهار خلال فترات الجفاف تشكل خطرا على الصحة العامة.

 

السموم الميكروبية والكيميائية في الغذاء

 

وتشمل سلامة الأغذية، توفير الطعام الخالي من مسببات الأمراض والمواد الكيميائية التي يمكن أن تضر بصحة الإنسان، أما الملوثات الأكثر إثارة للقلق فتقسم إلى قسمين: العوامل الميكروبية والسموم الكيميائية، وتشمل العوامل الميكروبية مسببات الأمراض المعروفة المتعلقة بتلك المنقولة عن طريق الأغذية كالنوروفيروس  Norovirus، والإيشيريشيا كولاي E. coli (من القولونيات البرازية السامة)، السالمونيلا Salmonella، الليستيرياListeria ، بكتيريا الفيبريو Vibrio(مسبب الكوليرا) ، والكمبيلوباكتر Campylobacter، أما السموم الكيميائية فهي تشمل الملوثات الغذائية كالسموم الفطرية  Mycotoxinsمثل الأفلاتوكسين Aflatoxin، السموم الطحلبية (ذات الطبيعة النباتية) Phycotoxins مثل Cyanotoxin التي تفرزها الطحالب الخضراء المزرقة (وهي ذات طبيعة مزدوجة نباتية وجرثومية)، فضلا عن المعادن السامة مثل الزرنيخ، الرصاص، والمواد العضوية مثل الديوكسين والمبيدات الحشرية.

ومن المرجح أن تزداد السموم في الغذاء مع تغير الاتجاهات المناخية، ويعتبر سم الأفلاتوكسين (الذي تنتجه السالمونيلا) مثالا على ذلك، وهو من السموم الفطرية الشائعة في الذرة والفول السوداني والبندق، وبذرة القطن ومحاصيل عدة تزرع في المناطق ذات المناخ الدافىء، وتعتبر هذه المادة من  أقوى المواد المسرطنة المعروفة لكبد الإنسان، وتعمل هذه المادة بالتآزر مع عدوى فيروس التهاب الكبد B المزمن مؤدية إلى زيادة كبيرة في مخاطر الاصابة بسرطان الكبد.

وتنتج السموم الفطرية عن عملية الأيض في الفطريات التي تسبب آثارا سامة ومسرطنة في الحيوانات والبشر، وهناك أسباب للاعتقاد بأن اتجاهات تغير المناخ قد تؤدي إلى مستويات أعلى من بعض السموم الفطرية في المحاصيل، فالفطريات القادرة على إنتاج هذه السموم تعمل على إنتاج كمية أكبر مع ارتفاع درجات الحرارة، وعلاوة على ذلك، فإن ارتفاع درجات الحرارة الشديدة مع هطول الأمطار أو الجفاف مجتمعة تزيد من إجهاد النبات، وهذا يجعل المحاصيل أكثر عرضة للإصابة بالعدوى الفطرية والتلوث بالسموم التي تنتجها.

ويتم إنتاج Phycotoxins من الطحالب، ويمكن أن تُلوّث الكركند Lobsters، والمحار Oysters، والبطلينوس Clam وبلح البحر Mussels، أو يمكن استنشاقها عبر التيارات الهوائية في حال تكاثر الطحالب الضار Harmful Algal Blooms أو ما يعرف بــ HAB.

وكما هو الحال مع السموم الفطرية، فوجود الـ phycotoxins يعتمد على العوامل المناخية، وعادة فإن الطقس الحار والتكاثر الطحلبي الضار HAB يشجعان على إنتاج كميات كبيرة من الـ phycotoxins، والتي يمكن أن تلوث المحار.

 

تدابير وقائية

 

سهلت عملية فهم الروابط بين المناخ وهذه المخاطر الصحية العامة، من القيام بوضع استراتيجيات لتقييم المخاطر وإدارتها. ويعتبر “التقييم الكمي للمخاطر الميكروبية ” Quantitative microbial risk assessment المعروف بـ (QMRA) هو الإطار المستخدم لمعالجة إدارة الأمراض المنقولة عن طريق المياه والغذاء، وأيضا للتخفيف من آثار تغير المناخ على انتقال الأمراض عن طريق المياه، والأهم في هذا المجال هو فهم مصدر مسببات هذه الأمراض، وتركيزاتها، وأسباب ديمومة وجودها، وطرق انتقالها إلى مياه الشرب، أو المياه المستخدمة في المناطق الترفيهية والبحار، أو داخل المحار، فضلا عن سبل وصولها إلى مياه الري والنظم الغذائية.

ويشكل تغير المناخ العديد من التحديات لاستراتيجيات إدارة المياه، بما في ذلك الظواهر المتطرفة، وتضاؤل إمدادات المياه، والافتراض الخاطئ أن الماضي يساعدنا على التنبوء بدقة عن الظروف المستقبلية. فمن المرجح أن تزداد أحداث الطقس المتطرفة وأن ينتشر الجفاف في مناطق عديدة من العالم، وهذا يعني أن المجتمعات يجب أن تكون مهيأة بخطط للاستجابة للطوارئ في أماكن الكوارث الطبيعية مثل الأعاصير والفيضانات، والتخطيط في نهاية المطاف لتنقية مياه الصرف الصحي للحد من ندرة مياه الشرب وتلوثها.

ومن الممكن تقدير المخاطر على السكان من خلال نماذج تنبؤية، تعمل على الربط بين المتغيرات المناخية مع تركيز السموم الفطرية والـ phycotoxins في الأطعمة، ويمكن باستخدام نتائج هذه النماذج التنبؤ بالتعرض البشري للسموم. إلا أنه في نهاية المطاف، فإن زيادة التنوع الغذائي والابتعاد عن الأغذية الأساسية، وهي كثيرا ما تكون ملوثة بالسموم الفطرية أو phycotoxins، قد يكون أكثر الوسائل المستدامة للحد من التعرض للأمراض والسموم المنقولة عبر الغذاء.

وعلى سبيل المثال، في ثمانينيات القرن الماضي، كان سكان تشيدونغ   Qidongفي الصين يستهلكون في المقام الأول الذرة التي نمت في ظل ظروف بيئية ساهمت بنسبة تسمم  عالية بالأفلاتوكسين، وبتحويل الغذاء من الذرة إلى الأرز ومواد غذائية أخرى، فقد انخفضت نسب سرطان الكبد بحوالي 45 بالمئة منذ ذلك الوقت.

ومن شأن مثل هذه التدخلات الهامة، جنبا إلى جنب مع سياسات التصدي لمخاطر الأمراض التي تنتقل عن طريق المياه والأغذية نتيجة مسببات الأمراض والسموم المرتبطة بتغير المناخ، أن توفر قدرا أكبر من الأمن الغذائي المرتبط بالصحة العامة للأجيال القادمة، لجهة الوفرة في الغذاء الآمن والمياه النظيفة.

 

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This