تفاءلنا خيرا من زيارة وزير البيئة إلى منطقة “الكوستابرافا”، حيث يُقام موقع لاستقبال النفايات المنزلية، التي تحتوي على ما يزيد عن 55 بالمئة من المكونات العضوية القابلة للتحلل والتعفن. ويوجد أيضا في المنطقة نفسها محطة صغيرة لمعالجة المياه المبتذلة مقتصرة على عملية “ما قبل المعالجة” Pretreatment، وكذلك، يوجد على مدخل هذه المحطة لجهة الغرب فتحة بقطر حوالي المتر، تمتد في أنبوب بطول 1500 متر داخل مياه البحر، تستقبل مياه الصرف الصحي من أرتال الصهاريج، التي ترمي حمولتها فيها يوميا.
قد يتساءل البعض لماذا تفاءلنا بالزيارة الميدانية الأولى لوزير البيئة، أولا، لأنها الأولى، لكي يطلع عن كثب على كل تفاصيل الوضع هناك، الذي يشكل “نقطة ساخنة” للتلوث البيئي، على تماس مباشر مع مدرجات مطار “رفيق الحريري” الدولي في بيروت، بما يسبب تلوثا للمنظومة البيئية البحرية في هذه المنطقة. وثانيا، لأن وجود مكب – باركينغ – مطمر الكوستابرافا على بعد أمتار عن المطار، ما يشكل تهديدا عاليا وخطيرا لسلامة الطيران فيه، عند إقلاع الطائرات وهبوطها واستدارتها. وثالثا، لأن وزير البيئة ينتمي إلى التغيير والإصلاح، وقد أعلن فور صدور مرسوم تشكيل الحكومة أن من سمَّاه وزيرا للبيئة هو رئيس الجمهورية الإصلاحي والتغييري. ورابعا، لاعتبار المنطقة، التي يبادر لزيارتها، هي فعلا “نقطة ساخنة” تتقاطع فيها مخاطر التلوث البحري مع سوء إدارة الشاطىء ومع تهديد جدي لسلامة الطيران، بسبب الأعداد المتزايدة يوما بعد يوم لأسراب الطيور، التي تحوم فوق مدرجات المطار وحولها، تجتذبها باضطراد ألوف الأطنان من النفايات، المحتوية على أكثر من نصف وزنها مكونات عضوية قابلة للتعفن والتحلل، المنقولة يوميا إلى موقع الكوستابرافا، وهي عنصر اجتذاب كبير للطيور التي تهدد سلامة الطيران بأكبر المخاطر. لكل هذه الأسباب تفاءلنا بهذه الزيارة، وتوقعنا أنها ستكون حاسمة في اتخاذ قرار وقف كل هذه التهديدات التي تحدثنا عنها.
بعد اطلاعنا على نتائج الزيارة، تحول التفاؤل إلى خيبة أمل صافعة، إذ بدل القرار الحاسم بوقف أسباب التدهور البيئي لهذه المنطقة، وقطع دابر أسباب تهديد سلامة الطيران، وهذا أمر لا يحتمل التساهل فيه أو الإستهتار به، رأينا أنه انزلق إلى تبني الأقوال، التي تدحضها الحقائق والوقائع، في ما يتعلق بتركيز الكلام على مصب نهر الغدير، باعتباره المصدر الأساس للمخاطر التي نتحدث عنها، وبتجاهل واستصغار دور موقع الكوستابرافا للنفايات، المحتوية على مكونات عضوية قابلة للتحلل والتعفن، الذي نعتبره بكل موضوعية، سببا رئيسا لاجتذاب الطيور المهددة لسلامة الطيران.
ندعو وزير البيئة إلى الرجوع لتقارير ودراسات وزارة البيئة وغيرها من المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، للإطلاع على تاريخ التلوث في نهر الغدير ومصبه، الذي يعود إلى عقود متتالية، وهو مستمر حتى اليوم. لم يكن يوما سببا هاما لاجتذاب الطيور، ملفتا لانتباه سكان المنطقة، وأنا شخصيا منهم، ولا لانتباه المتابعين من منظمات غير حكومية وبلديات، ولا حتى لانتباه المعنيين الرسميين، من مسؤولين في إدارة المطار والإدارات الأخرى. لم يسبق أن أحدا تحدث، أو لاحظ، أو صور، أسرابا من الطيور تحوم فوق المطار أو في منطقة سهل الشويفات عموما، حيث يصب نهر الغدير، وحيث بنيت هناك محطة المعالجة، لما “قبل المعالجة”، ووضعت “الفتحة” شائعة الصيت، حيث تُرمى أطنان من مياه الصرف الصحي، تنقلها إليها عشرات الصهاريج يوميا.
أسراب الطيور المتزايدة العدد يوما بعد يوم، من أسراب لا يزيد عددها عن بضعة طيور، قبل نشوء موقع الكوستابرافا للنفايات، إلى أسراب تضم عشرات الطيور، فإلى أسراب متتالية تضم عشرات، بل مئات الطيور أحيانا، بدأنا نلاحظها، ويلاحظها الجميع، منذ أن بدأ موقع الكوستابرافا باستقبال الأطنان المتتالية من النفايات، المحتوية على أكثر من نصف وزنها من المكونات العضوية القابلة للتعفن والتحلل، هي بالتحديد، وفق كل معطيات العلم والتشريعات الدولية، العنصر الأساس في اجتذاب الطيور المهددة لسلامة الطيران في مطارات العالم.
نحن نؤكد ملاحظاتنا الموضوعية، بأن أعداد أسراب الطيور، وأعداد الطيور في كل سرب، هي في ازدياد مستمر اضطرادا مع تزايد أطنان النفايات، المحتوية على مكونات قابلة للتعفن والتحلل، يوما بعد يوم، المنقولة إلى موقع “الكوستابرافا”، الملاصق لمطار “رفيق الحريري” الدولي في بيروت.
فبدل أن يتخذ وزير البيئة القرار الحاسم بقطع دابر المخاطر على البيئة وعلى سلامة الطيران في هذه المنطقة، تبنى التفسيرات الخاطئة، وتبنى أيضا، الإجراءات محدودة الفعالية، وغير الموثوقة تماما، التي يتحدث عنها مدير مطار بيروت، عن استعمال آلات طاردة للطيور، تبث أصواتا تحاكي صوت النسور لتهربها. بالله عليكم، هل هذا كلام مسؤول؟ هل موقع الكوستابرافا للنفايات هو قدر محتوم، اتخذت القرار بشأنه قوة قاهرة، وعلينا التعايش مع كل المخاطر التي تنشأ عنه؟ وهل علينا أن نفتش لها عن إجراءات لا نثق بفعاليتها، ولا ترتقي إلى نفس مستوى المخاطر، التي نتحدث عنها، وما يترتب عنها من نتائج كارثية، تطال حياة الناس؟ هذه المخاطر، أيها السادة، تطاول حياة الناس، وليس تفصيلا ثانويا لا يكترث له أحد.
هل يجد وزير البيئة نفسه مقتنعا بهذه التفسيرات الهزيلة؟ وهل هو مقتنع بأنه من الطبيعي أن “ننام بين القبور ونرى المنامات الوحشة”؟ هل من الطبيعي التعامل مع موقع الكوستابرافا على أنه واقع لا حول لنا ولا قوة بتغييره، أو بالتراجع عن الإستمرار فيه؟
فبدل أن تحال الجهات التي اختارته موقعا للنفايات، متجاهلة كل المعايير والمواصفات الدولية، ومستهترة بالمخاطر الناشئة عنه بشأن سلامة الطيران وحياة الناس، إلى المساءلة القانونية، والمساءلة المدنية والأخلاقية، نرى المسؤولون، الواحد تلو الآخر يرددون المقولات الركيكة والهشة بشأن إجراءاتٍ تتخذ لتهريب الطيور!
هل هكذا نبدأ عهد الإصلاح والتغيير؟ أم بإصلاح ما خرَّبته القرارات السابقة، وتغيير الوقائع التي أنشأتها، تلبية لمصالح الفاسدين، وتجاهلا لمصالح الوطن في المحافظة على بيئته وشواطئه وبحره، وفي احتساب المخاطر على سلامة الطيران بمسؤولية عالية، ترقى إلى مستوى المحافظة على حياة الإنسان والإمتناع عن المغامرة بها.