بغض النظر عن المشاعر الشخصية لمن ينفر من الحشرات أو اللافقاريات Invertebrates، فإن هذه المجموعات من الكائنات الحية، التي لا تحتوي في جسدها هيكلا عظميا، عدا أنها تشمل مجموعات كثيرة منها الحشرات، العناكب والعقارب، الرخويات (الحلزون والمحار)، القشريات (القريدس)، المرجان وأنواع كثيرة أخرى، تشكل جزءا هاما من التنوع الحيوي الخاص بكل منطقة في العالم، وتساهم في التوازن البيئي، وهي من الكثرة لجهة الكم والتنوع، بحيث أن مجموعة واحدة منها وهي الحشرات، التي لم يوصّف إلا جزء يسير منها، وصل عددها إلى مليون نوع، أما العقارب والعناكب فوُثِّق منها حوالي 102,248، بينما بالمقارنة تعتبر مجموعة الحيوانات الثديية التي ينتمي إليها الإنسان من أصغرها وعدد أنواعها لا يتخطى الــ 5513 نوعا.
وتواجه اللافقاريات تحديات عدة، وقد شملها عالم الحشرات أكسل هوخكيرش Axel Hochkirchمن جامعة تريير University of Trier في ألمانيا، في مقالة علمية تحت عنوان ” أزمة الحشرات التي لا يمكننا تجاهلها” The Insect Crisis We Can’t Ignore في موقع Nature، أشار فيها إلى أنه “لا يمكننا تجاهل أزمة الحشرات، فوفقا للقائمة الحمراء للأنواع المهددة بالانقراض، وقد ساعدتُ شخصيا في حصرها، ويصدرها الاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة (IUCN)، فإن هنالك 394 نوعا من الحشرات فقط، صنِّفت ضمن الأنواع المنقرضة”، وبرأيه فإن “هذا العدد يُعَّد صغيرا على نحو مثير للسخرية، إذ يمكننا المراهنة على أن عشرات الأنواع اختفت في غضون الأسبوع الماضي”.
ويؤكد هوخكيرش أن “عدد هذه اللافقاريات الآيلة للإنقراض لا يعرفه أحد بصورة دقيقة، وأن العدد المنقرض يتراوح يوميا بين 1 إلى 100 نوع”. ويضيف مستغربا أن “هذه الأرقام المخيفة لا تحرك أي مشاعر لدينا، فهي مثل النظر إلى أعداد القتلى في حربٍ ما، دون النظر في وجوههم”، وأشار إلى أن “الباحثين لا يعرفون الأنواع التي نتجه لخسارتها أو إن كانت معدلات الانقراض ترتفع أو تنخفض، كما لا نعرف تداعيات هذا الأمر، وفي هذا المجال فإن الأكثر إثارة للقلق، أننا لا نعرف إجابات على أي من التساؤلات السابقة”.
حماية اللافقاريات
وأشار هوخكيرش إلى أن “حماية اللافقاريات أمر ضروري، ليس لأهميتها في عملية التلقيح، وللفوائد البيئية الأخرى التي تقدمها ومنها مكافحة الآفات، ودورة الغذاء في النظام البيئي فحسب، بل لأن كل مخلوق ونوع في هذا العالم له الحق بالوجود، وللأنواع المختلفة من اللافقاريات تاريخ مميز وجذاب بقدر الحيوانات الأكبر حجما، إلا أنها غير معروفة للعديد منا، مثال على ذلك أن ثمة نوعا من الجنادب يعمل على جذب إناثه برقصات وأغانٍ معقدة وفريدة من نوعها، إنه شيء جميل للغاية”.
وأضاف هوخكيرش: “توجد العديد من الأهداف لتقدير أعداد الأنواع وحمايتها بالفعل، فقد حدد الاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة IUCN “باروميتر (مقياس) الحياة” barometer of life، ويهدف هذا المقياس لتقييم وضع الحماية بالنسبة لحوالي 45 ألف نوعا من اللافقاريات بحلول العام 2020، كما اتفقت أطراف مؤتمر التنوع البيولوجي The Convention on Biological Diversity على السعي الدؤوب لإيقاف الخسائر في التنوع الحيوي بحلول العام 2020، وفي لقاء عُقد في شهر كانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي، نوقش التقدم الحاصل في هذا المجال، وخَلُصَ المجتمعون إلى أن هذه الأهداف السابقة لن يكتب لها النجاح، إن استمر الحفاظ على اللافقاريات معتمدا على المتطوعين، وبهدف إنجاح هذه القضية الهامة، فإن على الباحثين تقييم حال معظم الحشرات واللافقاريات، وهذا الأمر يتطلب اهتماما جادا لا سيما من المختصين في هذا المجال”.
وقال هوخكيرش: “على الحكومات وممولي العلوم، بالإضافة إلى المنظمات البيئية، الاستثمار في إنشاء مركز كبير أو ربما عدد منها لحماية اللافقاريات، وتوظف هذه المراكز بدورها علماء حشرات مختصين لوصف الأنواع، ودراسة توزيعها وبيئاتها والأخطار التي تهددها، وتقييم وضع المحافظة عليها Conservation status، وسيكون من أهدافها الهامة التواصل مع الناس، لتشجيع الأنشطة الموجهة وبناء القدرات، وزيادة الوعي بأهمية هذه اللافقاريات على المستويين العالمي والمحلي”.
فجوات معرفية
وأضاف أن “هذا المركز من الممكن أن يكلف بين 11 مليون دولار (10ملايين يورو) و16 مليون دولار (15 مليون يورو)، كما قد يحتاج إلى 20 مليون يورو لدعمه سنويا، وهو مبلغ يماثل ميزانيات مؤسسات مشابِهة مختصة كصلة بين العلوم والسياسة، مثل معهد بوتسدام لأبحاث تأثير المناخ في ألمانيا Potsdam Institute for Climate Impact Research (الذي تبلغ ميزانيته السنوية حوالي 22 مليون يورو)، فالحفاظ على التنوع الحيوي في العالم يستحق إنفاق هذه المبالغ، ومن الضروري إعطاء الفرصة للدول للوصول إلى أهدافها العالمية المتعلقة بالمحافظة على الكائنات الحية”.
كما يجب على المحافظين على البيئة طلب الدعم من الشركات التي تعتمد على اللافقاريات، كمصدر للتلقيح، وللمواد الكيميائية، بل حتى بسبب كونها ملهمة للعديد من الماركات المسجلة والشعارات.
وأعطى هوخكيرش مثلا عن الدعم الدولي، وقال إن “الدول مستعدة للاستثمار في المحافظة على التنوع البيولوجي وقد تم تخصيص مبلغ 20 مليون يورو بالفعل في العام 2014، للمحافظة على النمور من قبل بنك التنمية الألماني KfW Development Bank المملوك من الدولة الإلمانية، وعلى الرغم من أن أعداد النمور تدعو للقلق، فلا شك بأن الجهد المبذول والمستمر سيساعد في المحافظة على أعدادها ومنعها من التدهور بشكل أكبر، بالمقابل فإن أنواعا من الحشرات النمرية Tiger Beetles معرضة للإنقراض دون أن يشعر أحد بها”.
ويعلل هوخكيرش سبب حدوث انقراض اللافقاريات، بدون أن ينتبه إليه أحد، هو أن “عدد الخبراء العاملين على مجموعات الحشرات قليل للغاية بل إنه معدوم في مناطق عدة، وفي عدد من مجموعات الحشرات، وعلى الرغم من اشتمال القائمة الحمراء للاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة على ما يقرب من 18 ألف نوع من اللافقاريات حتى الآن، بعد عملية التقييم لجهة خطر الانقراض، فثلثها قد صنف على أنه “ناقص البيانات” data deficient، وثمة أنواع عديدة من اللافقاريات لم يتم توثيقها، منذ وضع وصفها الأصلي، وليس لدينا أي فكرة إن كانت ما تزال موجودة”، واعتبر أن “وجود هذه الفجوات المعرفية الكبيرة لجهة البيانات والمعلومات مثيرة للقلق، كوننا نحافظ على ما نعلم بوجوده، وقد بحثت الإنسانية عن الحياة في الكواكب البعيدة وأنفقت أموالا كثيرة في هذا المجال، فيما لم نوثّق ونوصّف 10 بالمئة من الكائنات الحية الموجودة على الأرض”.
خطأ روميو
وقال “قد يناقش البعض أن التقصير في هذا المجال مرده إلى أن هذه الكائنات لا تلفت الأنظار، مقارنة بالفقاريات الكبيرة (الكاريزمية) الجاذبة، ولكن الحقيقة أن عددا كبيرا من مديري وحراس الحدائق، والمختصين بالطبيعة مهتمون باللافقاريات، ولكنهم يفتقرون إلى المعرفة والموارد اللازمة للبحث والتحري عنها وحمايتها”.
وأشار هوخكيرش إلى أن “التجربة أثبتت أنه غالبا ما تبدأ نشاطات الحفاظ على اللافقاريات بمجرد وجود معلومات تحدد هويتها، فضلا عن التهديدات والأخطار التي تواجهها، وفي هذا المجال، فإن نشر دليل حقلي في وسط وشمال أوروبا منذ ثمانينيات القرن الماضي ساهم بجمع سريع للبيانات، وأدى هذا الأمر بالتوازي إلى نشر القوائم الحمراء على المستوى المحلي، وتأسيس مشاريع للحفاظ على البيئة، وما نحتاجه هو المباشرة في القيام بإجراءات مماثلة في أماكن مثل المناطق الاستوائية، والمناطق شبه الاستوائية، ومناطق حوض البحر الأبيض المتوسط وهي مناطق غنية بالأنواع، ومن الجدير ذكره أن الجهود الرامية للحفاظ على اللافقاريات تظهر نتائجها بسرعة، بسبب قصر أعمارها ومدة تكاثرها فضلا عن محدودية نطاقاتها الجغرافية”.
وختم هوخكيرش أن “أحد أسباب انخفاض عدد الانقراض الموثقة للافقاريات هو أن العلماء يترددون في التصريح عنها، وبالتالي فالعدم لا يمكن إثباته، وقد تم إعادة اكتشاف عدد من الأنواع التي اعْتُقِد في السابق أنها انقرضت، ويؤدي إعلان الأنواع المنقرضة قبل الأوان إلى وضع حد لكافة جهود الحفاظ عليها، أو ما يسمى بـ”خطأ روميو”Romeo Error ، حيث نتخلى عن الأنواع التي لا تزال في الواقع موجودة، وهذا مصدر قلق إضافي للافقاريات، ولكن هناك خطأ روميو آخر: فبعض الفراق ليس جميلا بل هو مؤلم حقا، وعلينا دائما أن نتذكر ذلك”.