الامة – الدولة تعبير شائع حول العالم. يعترف النظام العالمي بالدول ونحن نعترف بالامة. التناقض حاصل لا محال بين الدولة والامة. اخترنا الامة، جعلناها كائناً ميتافيزيقياً يتجلى بين الحين والآخر، يحصل المجد ويتحقق الانتصار. الادهى من ذلك ان اولوية الامة وضعتنا في مواجهة مع العالم، كأننا لسنا جزءاً منه، لا نستهلك منتجاته ولا يصادر منتجاتنا؛ مواجهة أدّت الى الهزيمة والدونية.
نريد هوية لانفسنا، مرة تكون العروبة في الخمسينات والستينات (الى وفاة عبد الناصر) . اختارت الانظمة هوية اسلامية سياسية أدت الى كامب دايفيد والاعتراف باسرائيل. رفضنا ذلك ورفضنا العالم.
الرد بالعروبة على هزيمة 1948 وانشاء دولة اسرائيل جرى تحطيمه في عام 1967. الرد بالاسلام السياسي على هزيمة 1967 أدى الى الانعزال عن العالم والى اعتبارنا خارج القانون الدولي.
صرنا رمز الارهاب في العالم. العرب يشكلون 5% من سكان العالم والعمليات الارهابية التي يقوم بها العرب تشكل 47% من مجمل العمليات في العالم. صرنا أمة ارهابية،أمة مستهدفة بحروب اهلية في كل مكان.
ثورة 2011 أيقظت المارد، نزل الى الميدان. حوّلت الثورة المضادة، وهي المنظومة السياسية العربية والدولية، الثورة الى حروب أهلية. الاسلام السياسي أداة الحرب الاهلية. داعش هدية من السماء للنظام الدولي وللمنظومة العربية الحاكمة. نحن بشكل او بآخر شركاء النظام الدولي في الجريمة، وجّهونا فاستجبنا. استجابتنا تعبير عن وعينا المدمّر المشوش الذي ليس له اتجاه ولا قرار.
أهملنا شأن الدولة في وعينا أولاً، وفي الممارسة ثانياً. تنشب الحرب الاهلية والدولة المهملة طرف فيها. هي ليست دولة الناس، ليست المجال العام التي يناقش فيها الناس أمورهم، يطرحون مطالبهم، يتظاهرون، يقيمون الندوات، يتناقضون في أرائهم، يدرك كل منهم انه لا يمتلك الحقيقة المطلقة، يفهم ان عليه التنازل عما يعتقدهم حقيقة من اجل التلاقي مع حقائق الآخرين للوصول الى تسوية والى تراكم تسويات. طغى الاستبداد، وكان حصيلة انعدام السياسة. غاب الفرد عن السياسة. اعتراه الخوف من إبداء رأيه. التجمع في الميدان وسيلة ناجعة كي لا تستفرد السلطة بمعارضيها.
تتشكل الدولة من مفهوم مجرّد لجغرافيا الحدود وأفراد. لا وسطاء فيها بين الافراد والدولة تذوب الطائفيات والاثنيات. تحوي الدولة جميع الافراد، تحتضنهم، تدير شؤونهم، تقدم لهم الخدمات، تقودهم، تدافع عنهم. بالنتيجة يستغرق الفرد الدولة في ذاته، يصير هو أوسع من الدولة، تصير الدولة جزءاً من الضمير الفردي.
سلامة الحكم، الحكومة، الاجهزة البيروقراطية والامنية والقضائية تتغير ولو سطحياً بتغيير اهل السلطة. تبقى الدولة ثابتة، لا تكون كذلك إلّا عندما يكون ثباتها في ضمير الفرد.
الاصل دال يدول معناه التغير والتحوّل. كان كذلك في تاريخنا لأنّ الدولة انتصرت على السلطة. لم تكن الخلافة إلّا كذلك. سمّوها الامامة، داعش واخواتها تسميها الخلافة . لا تدرك داعش أنّ خلافة القرون الاولى كانت سلطة سياسية؛ مع ضعف السلطة تحولت الخلافة الى رمز ديني. الجمع بين الدين والسياسة في تاريخنا أمر ملتبس.
انفصل العلماء، اذا كانوا سلطة دينية، عن السلطة السياسية منذ البداية. لكن ذلك لم يكن علمانية. العلمانية هي مشاركة الناس كأفراد في السياسة وفي مسار الدولة. العلمانية هي الدولة الحديثة، دولة متشكلة من أفراد، مواجهتهم أو علاقتهم بالدولة مباشرة دون وسائط طائفية او اثنية، دون ما يسمى مكونات المجتمع في الاقطار الطائفية، وغير الطائفية. المكونات الطائفية تلغي الفردية، تخضع الافراد، تتضخّم وتزيل مجال الدولة. كل دولة مشكّلة من مكونات في نظامها السياسي ليست دولة، هي نظام للطوائف، نظام لأجهزة المخابرات والاستبداد.
هناك توتر دائم بين الدولة والنظام او السلطة. في كل دولة يتراجع دور الفرد، يميل الأمر لصالح النظام. في كل نظام يعلو شأن الفرن ويصير اساساً للدولة، يخضع النظام للدولة، وهي ذلك التجريد الذي يستغرق الضمير الفردي.
التركيز في وعينا على شأن الامة أضعف الدولة في تفكيرنا. لم نكترث للدولة، ولم نعتبر ان الوحدة العربية، إن حصلت، ستكون وحدة دول لا وحدة شعوب. فأزمتنا أنّ الدولة (الدول) لدينا فاقدة الشرعية، هي دول لا أمة لها. بالمقابل فإنّ الأمة لا دولة لها. اثبتت ثورة 2011 أنّ الشعوب العربية تحركت على ايقاع واحد، بقلب واحد، فهي تشكل أمة. وهذا امر مفروغ منه. اسلام اكثرية هذه الامة امر مفروغ منه. لكن السياسة في بلادنا تراوحت بين القومية العربية والاسلام السياسي. بقينا ضمن سياسات الهوية، لم ننشىء هويتنا.
لا ننشىء هويتنا إلّا بالانخراط في العالم. المواجهة الاساسية ليست بين العروبة والاسلام. ليس أن نختار واحداً منهما. نحن كلاهما. الخيار المستقبلي هو ان نكون جزءاً من العالم نتبنى الثقافة العالمية، نخرج مما هو محلي، يمتلىء العالم بنا ونمتلىء بالعالم، لا كخلايا تتواطأ كي تضرب في قارة او أخرى. الانخراط في العالم يعني انشاء مجتمع متماسك. النصر على اسرائيل يتطلب ذلك. لا يبقى المجتمع إلّا بالعمل والانتاج. نحن مجتمعات استهلاكية، نستهلك البضائع والتقنيات المستوردة. لا نصدّر اإلّأ النفط الذي يفيض علينا مما يتبقى منه بعد ان تأخذ الانظمة والشركات نصيبها.
المجتمع الذي لا ينتج، ولا يعمل، والذي تسوده البطالة والرغبة بالهجرة، هو عبء على نفسه وعلى الآخرين. مجتمع يائس بائس. كثرة العمليات الانتحارية لقتل الآخرين الابرياء، تعبير عن بؤس هذا الوعي البائس. كان ممكناً ان تكون لدينا خيارات أخرى لو وضعنا الدولة في ضميرنا وعقلنا، ولو كان مجتمعنا منتجاً. التنمية ليست مسألة اقتصادية وحسب، هي مسألة سياسية بالاساس، تعبير عن قدرة هذه الامة على أخذ القرار. القرار هو السياسة. استبدال السياسة بالاستبداد منع القرار. أمة دون قرار، بعثرة لا طائل لها.
اولوية الامة في وعينا العروبي والاسلامي، أدى الى إهمال شأن الدولة. الاخطر من ذلك بكثير،أننا أعفينا الدولة من مهمامها. جرّدناها من الشرعية فاتجهت الى الاستبداد، وتحوّلت الى نظام والى مجرد سلطة همها الحفاظ على مواقع أربابها. أمّا المجتمع فإلى الجحيم.