قالها محمد الحوت، مدير شركة طيران الشرق الأوسط، في إتصال هاتفي مع تلفزيون الجديد مساء السبت. رئيس الحكومة سعد الحريري من أصدر الأوامر بإرسال القواصين لتنفيذ المجزرة بحق طيور النورس عند مكب الكوستابرافا. مضيفا، أن بين الطيور والطائرات اخترنا إسقاط الطيور.
هكذا بكل بساطة، أزاح رئيس الحكومة المواجهة، بدل أن تكون بين مكب الكوستابرافا، المخالف لكل القوانين والمراسيم والمعايير الدولية، وبين سلامة الطيران، فجعلها معركة مع طيور النورس، الباحثة عن لقمة عيشها في مكب النفايات العضوية التي تشكل أكثر من نصف كمية النفايات، والتي تجاوزت كمياتها آلاف الأطنان المتراكمة في مكب الكوستابرافا. هذا هو بيدر غذاء النورس وجاذبه الرئيس بأعداد تجاوزت المئات والألوف أحيانا.
كنا على ثقة تامة أن مدير شركة الطيران الوطنية لن يقدم على عمل من هذا القبيل، وهو الأكثر إدراكا لمخاطر المكب على سلامة الطيران، دون أن يكون هذا الأمر صادرا عن رئيس الحكومة، وبموافقة وزير الداخلية أيضا.
تعود بدايات الرواية إلى بضعة أشهر، حين أعلن الحريري موافقته على الإفراج عن انتخابات رئاسة الجمهورية، بعدما استقر الأمر على وضع اليد بالكامل على ملف النفايات في لبنان كله، والذي يقدر ببضعة مئات من ملايين الدولارات سنويا، بمناقصات تشوبها الشوائب، وتحوم حولها الشبهة باعتبارها صفقات يلفها الفساد من كل جانب. وإذا أضيف ملف النفايات الدسم إلى ملف الإتصالات، البقرة الحلوب الكبيرة المدرار في لعبة الفساد السائدة في لبنان، يكون أمر العودة إلى السلطة يستحق كل التنازلات، فاللعبة دسمة في هذه الأيام العجاف، التي تواجه عالم الأعمال والمصالح في لبنان وخارجه.
إن ما شهدناه في الأيام الأربعة الماضية، كان دليلا قاطعا على استنفار كل عناصر “المجموعة” الممسكة بملف النفايات الدسم، من مواقع السلطة والإدارة معا. فتم استنفار مجلس الإنماء والإعمار، وتحريك الوزراء المعنيين وفق توجيهات رئيس الحكومة، حيث جرى خوض معركة الدفاع عن مكب الكوستابرافا المخالف لكل القواعد، وإزاحة التهمة عنه لتلقى على أسباب أخرى، هي موجودة فعلا منذ عشرات السنين، ولكنها لم تكن تتسبب بما يحصل اليوم، ومنذ افتتاح المكب المخالف، من اجتذاب لأعداد كبيرة جدا من الطيور تحوم في فضاء “مطار رفيق الحريري الدولي” في بيروت، مهددة سلامة الطيران بأكبر المخاطر.
وهكذا، رأينا وزير البيئة المحسوب على التيار الإصلاحي، يتجاهل كليا تقرير خبراء وزارته بشأن مكب الكوستابرافا، ذلك التقرير الرائع، الذي فند بكفاءة وعلمية عالية كل الأمور، ووضع الإصبع على الجرح، وأشار بوضوح كامل إلى كل المخالفات التي تمت في مكب الكوستابرافا، والتي لا تزال ترتكب حتى الآن. تجاهل وزير البيئة كل ذلك ونزل إلى الميدان يطلق تصريحات على مدى يومين متتالين تتناغم مع سيناريو “مجموعة” ملف النفايات في السلطة وأدواتها في الإدارة.
تندرج تصريحات وزير الأشغال العامة والنقل في سياق ما طرحه رئيس الحكومة حيال هذا الأمر. ربما كان من الحري أن يذكِّر بتحذيرات رئيس نقابة الطيارين، التي أطلقها منذ نيسان (أبريل) 2016 برسالته المعروفة إلى المنظمة العالمية للطيران المدني بشأن مخاطر إقامة مكب للنفايات ملاصق للمطار في الكوستابرافا.
ساد توجه رئيس الحكومة لاعتبار مكب الكوستابرافا، بآلاف أطنانه من النفايات العضوية، بريء من مسألة اجتذاب الطيور، وحصرها بنهر الغدير، تلك القراءة العرجاء للوضع الناشىء على الحدود الغربية لمطار بيروت الدولي.
في اليوم الثالث، صدرت أوامر رئيس الحكومة، وربما بالتشاور مع وزيره للداخلية، لأنه لم يحرك ساكنا لمنع هذا الأمر، بإرسال مجموعة من القواصين، مجهزين ببندقيات صيد مع صناديق كثيرة من الذخيرة، إلى شاطىء الكوستابرافا للقيام بمجزرة رهيبة ضد طيور النورس وغيرها من الطيور، تحت مرأى ومسمع لبنان كله، بل والعالم كله، ودون التنسيق والتشاور مع الوزراء المعنيين، الذين تم استنزافهم بتصريحات متتالية خلال اليومين السابقين، لتشكل هذه التصريحات غطاء مسبقا لتنفيذ هذه الجريمة النكراء والمتمادية.
هل تظن “مجموعة” النفايات في السلطة والإدارة أن الأمر قد انتهى؟ وأن أسراب الطيور ستتوقف عن المجيء إلى مرعاها الغني بمأكلها ومشربها في مكب الكوستابرافا ومصب المياه المبتذلة في هذه المنطقة السائبة؟
هذا إن دل على شيء، فهو يدل على أن “المجموعة” التي تضع يدها على ملف النفايات، المليء بمئات ملايين الدولارات من الأموال العامة للبنانيين، والذي تلفه تلافيف الفساد والصفقات المريبة والمخالفات الفاضحة، فهو يدل على أن آمال اللبنانيين بالتغيير قد سارعت بالتبخر مع الأسابيع الأولى لانطلاقة الحكومة.
هذه هي المأساة الحقيقية، المترافقة مع استمرار المخاطر الواقعية على سلامة الطيران في مطارنا الوطني، الذي استباحوا أمنه بوضع مكب الكوستابرافا ملاصقا له ولمدرجاته، خلافا لكل المعايير الدولية.
ودلت هذه الحملة الشعواء والمنظمة أيضا، على أن “مجموعة” النفايات في السلطة والإدارة تضيق ذرعا بالقضاء، الذي قال كلمته العادلة والمحقة بقراره إيقاف نقل النفايات إلى مكب الكوستابرافا. فهم بذلك يوجهون رسائل الترهيب للجميع، بما فيها السلطة القضائية بهدف لَــيّ ذراعها، والإستكانة إلى تحكم السلطة الجائرة، الجاهزة لتنفيذ المجازر دوسا على القوانين، ودفاعا عن “سلبطتها” على ملف النفايات الدسم وملفات أخرى.