خفت الحديث عن حماية نهر الليطاني، على الرغم من أن «الفورة» السابقة أنجبت بدل الحملة حملتين: واحدة شعبية، وأخرى رسمية. المتابعون يبدون مخاوف جدّية من أن استهلاك الاعتمادات المالية المرصودة للحدّ من التلوّث في مزاريب الهدر والفساد، ولا سيما أن النائب علي فياض يتحدّث عن إنفاق نحو 150 مليار ليرة على الدراسات من أصل 1100 مليار ليرة مرصودة لمعالجة المشكلة
تسلّم المدعي العام البيئي في محافظة النبطية، القاضي نديم الناشف، الدراسة التي كان قد طلب إعدادها من الخبير البيئي ناجي قديح، حول خطة معالجة تلوث الليطاني واستراتيجية الحلول. سيستند الناشف إلى ما ورد فيها لتعقب التعديات والمخالفات المرتكبة على ضفاف النهر. بانتظار ذلك، تتواصل التعديات والمخالفات. آخرها سُجل قرب جسر لحد في العيشية (قضاء جزين). مصادر بلدية أكدت لـ”الأخبار” أن مرملة جديدة أُقيمت قبل أقل من شهر “لا تبعد أكثر من 300 متر عن مجرى النهر، ويملكها رئيس بلدية في منطقة مرجعيون وصاحب مرملة أخرى”. هذه المرملة نالت ترخيصاً من وزير البيئة السابق، محمد المشنوق، ومدت شبكة أنابيب لتصريف مياهها نحو النهر. المعروف أن المرامل هي مصدر رئيسي لتلويث نهر الليطاني، وهي تعمل عبر تراخيص “استصلاح أراضٍ”، بما يناقض المخطط التوجيهي للمنطقة.
تعيد المرملة الجديدة إلى الأذهان قصّة مرملة أخرى مجاورة. كان المدعي العام البيئي في الجنوب القاضي رهيف رمضان، قد قرر إقفالها بالشمع الأحمر في شهر نيسان الفائت، بعدما أدّت إلى تحويل النهر المجاور إلى مستنقع من الرمول والوحول، لكنه عاد وقرر إزالة الشمع الأحمر بعد أشهر قليلة.
غالباً ما يحصل التراجع عن قرارات إقفال المرامل على ضفاف النهر. أحياناً يجري ذلك بواسطة نفوذ أصحابها، أو عبر التحايل على الأنظمة. ففي نطاق النبطية، استحصل صاحب مغسل رمل على ترخيص لإعادة فتحه بعد إقفاله بالشمع، استناداً إلى تقرير الخبير البيئي. حجّة إعادة فتح المغسل أن صاحبه استحدث ثلاث برك لتصفية الرمل! يبدو أن القيّمين على تطبيق القانون يتبعون اجتهاداتهم أو مصالحهم الخاصة، أو يصطدمون بنفوذ المخالفين، وهو ما يحوّل الخطة الوطنية إلى محكمة انتقائية.
المتنزهات الصغيرة الحلقة الأضعف
لائحة المخالفين طويلة، لم يضبط منهم حتى الآن سوى أصحاب المتنزهات الصغيرة من الخردلي إلى القاسمية.
في اللقاء التشاوري الأخير، الذي دعت إليه اللجنة الوطنية لحماية حوض نهر الليطاني مع رؤساء بلديات جنوبية وأصحاب متنزهات تقع على صفافه، تبلغ أصحاب المتنزهات أنهم مهددون بالملاحقة القضائية إن لم يقفلوا أنابيب الصرف الصحي الموجهة من متنزهاتهم إلى النهر. يقول عضو الحملة النائب علي فياض، إن “162 مجروراً موجهاً إلى النهر. القرار صارم بإقفال مصادر التلويث (…) أولها مجارير المصانع والدباغات والمسالخ في البقاع، وآخرها مجارير المتنزهات والمؤسسات السياحية في الجنوب”.
يرى أصحاب المتنزهات أنهم الحلقة الأضعف. عُرضت عليهم حلول بديلة لمعالجة الصرف الصحي الناتج منها في خلال فترة عملها بموسم الصيف. منها حلّ بتجميع المياه الآسنة في حفر صحية تشفط كل حين، وتفرغ في محطات التكرير. وبرز حل بشراء محطة تكرير صغيرة تزيد كلفتها على 10 آلاف دولار. يتذمر أصحاب المتنزهات من عدم قدرتهم على شرائها. يشير فياض إلى أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وافق على تخصيص قروض لهم لشرائها من طريق “كفالات” تحت مسمى “قرض لمشروع بيئي”.
ميزات محطات التكرير التي عرضها ممثل مجلس الإنماء والإعمار، دحضها الخبير البيئي يوسف كرم، الذي لفت إلى التقنية والصيانة المعقدة التي يستلزمها تشغيل تلك المحطات وتوقفها في حال توقُّف ضخّ المجارير فيها، مقترحاً حل حقول القصب المجربة في بشري وصور. لكن أصحاب المتنزهات لفتوا إلى عدم توافر مساحة في متنزهاتهم الصغيرة لزراعة حقول القصب، فضلاً عن كلفتها، وإن كانت تقلّ عن تكلفة محطة التكرير. وجد أصحاب المتنزهات صعوبة في تطبيق الحلول المقترحة، بسبب تقنيتها أو كلفتها من جهة، واشتموا رائحة تنفيعات وصفقات لهذه الشركة أو ذلك المصرف من جهة أخرى. لكن المحاضر والغرامات بانتظارهم إن لم يلتزموا، حسبما يؤكد فياض. النيابة العامة البيئية ستدّعي على المخالفين، والقضاء سيحرر بحقهم غرامات قد تفوق قيمة متنزهاتهم.
مسؤولية المصانع والدباغات
يتهم رئيس الحملة الشعبية لإنقاذ الليطاني، رئيس بلدية زوطر الغربية حسن عز الدين، الحملة الوطنية بالاستقواء على أصحاب المتنزهات والتغطية على الملوثين الحقيقيين. يتساءل عن مسؤولية أصحاب المصانع والدباغات في البقاع، مستعرضاً البلديات التي توجه مياهها المبتذلة مباشرة نحو المجرى والتي تقدم بإخبار ضدها: سحمر ويحمر ومشغرة في البقاع الغربي، والقليعة ودبين في مرجعيون. يلفت عز الدين إلى أن شبكة الصرف الصحي ومياه الأمطار في دبين واحدة.
يلفت رئيس بلدية دير ميماس جورج نكد، إلى أن محطة تكرير المياه المبتذلة أُهِّلَت وأُعيد تشغيلها أخيراً، ما رفع البلدة من قائمة المخالفين.
يرى عز الدين أن مجلس الإنماء والإعمار، الذي يشارك في الخطة كأحد أطراف الحلول، هو الملوث الأول، إذ إن شبكات الصرف الصحي، التي نفذها بتمويل من الاتحاد الأوروبي في زوطر الشرقية ويحمر الشقيف وكفر صير، ربطت ببرك تصريف بعيدة عشرات الأمتار عن مجرى النهر. المشروع ذاته عُرض على زوطر الغربية، إلا أن عز الدين رفضه. يقول إن “البرك ستفيض نحو النهر وتتسرب إلى المياه الجوفية”.
بدل الحملة حملتان
بعد ثلاثة أشهر على إطلاق الخطة، أصبحت الحملة حملتين، لا تعترفان ببعضهما. يرى عز الدين أن “حملة إنقاذ النهر هي الأساس التي تحلق حولها الناشطون والجمعيات منذ أقل من عام، قبل أن تأتي حملة السلطة وتستأثر بها، ولا سيما بعد إقرار الألف ومئة مليار ليرة التي تغري بالهدر والصفقات”.
يرى النائب فياض أن الحملة الوطنية هي الحملة الشرعية، داعياً الجميع إلى الانضواء في كنفها. لعضو كتلة الوفاء للمقاومة رؤية مختلفة لإنقاذ النهر. يجد أن إطار التعاون الرسمي والأهلي هو الأفضل: “إذا حدا بدو يحل الأزمة بمعزل عن السلطة، فهو مخطئ”. لكن سيطرة السلطة على خطة المعالجة بعد أن أسهمت بالأزمة يدفع إلى التشكيك.
أقرّ مجلس النواب اعتمادات بقيمة 1100 مليار ليرة (نحو 733 مليون دولار) لتنفيذ مشاريع معالجة التلوث من المنبع حتى المصب، ووافق المجلس على اتفاقية قرض من البنك الدولي بقيمة 55 مليون دولار ضمن خطة تُنفَّذ على سبع سنوات.
خطة الحملة الوطنية
ما هي خطة الحملة الوطنية؟ يوضح فياض أن السنوات السبع التي حددت لتنفيذها ستتقلص إلى خمس. أليست السنوات الخمس مدة طويلة لا تعكس الجدية والفعالية المطلوبتين؟ يشرح أن الاعتمادات التي أقرت ستؤمَّن من قروض ومنح ومن الموازنة العامة، تصرف على إنشاء محطات تكرير من نبع العليق حتى القاسمية، فيما قرض البنك الدولي (55 مليون دولار) مخصص لتشغيل محطة زحلة المنجزة منذ عامين. إن تشغيل هذه المحطة يحل 25 في المئة من نسبة التلوث، وقد باشر مجلس الإنماء والإعمار بدراسة إنشاء محطة زلايا لمعالجة الصرف الصحي لسحمر ويحمر وعين التينة، ولاحقاً محطة القرعون. يقول فياض إنه صُرف مبلغ 150 مليون دولار من أصل اعتمادات الـ 1100 مليار ليرة على الدراسات.
كان مجلس الإنماء والإعمار قد أعلن في تقرير سابق أن مجموع قيمة العقود منذ عام ١٩٩٢ حتى ٢٠١٤ بلغت ٨٣٧ مليون دولار أميركي، بينها ٤٦٩ مليون دولار أميركي بتمويل خارجي، على مشاريع الصرف الصحي التي تبين أن معظمها ناقصة: إما شبكات بلا محطات، أو محطات غير مشغلة.
ماذا عن المرامل التي لا تزال تعمل؟ يقول فياض إن “المرامل التي سبّبت تلويث النهر، أقفلت”.
وماذا عن دور أصحاب المصانع والمؤسسات المسبّبة له؟ يجيب فياض بأن “الدولة أعطتهم مهلة لإقفال مصادر التلويث وإنشاء محطات تكرير أسوة بأصحاب المتنزهات في الجنوب، قبل أن تربط بالشبكات العامة”. إن لم يلتزموا، فهل تمارس وزارات الصناعة والبيئة والزراعة دورها بمعاقبة المصانع المخالفة؟ يجيب: “سنعالجها بالتروي والحسنى. إقفال مصنع مسؤولية كبيرة”.
يختم فياض: “لو كان هناك دولة، لما وصلنا إلى هنا”.
خطة عشوائية وانتقائية
في دراسته، توصل الخبير البيئي ناجي قديح، إلى أنه كان من الأفضل تحديد تفصيلي للمشاريع المنويّ تنفيذها لمعالجة الصرف الصحي وإدارة النفايات الصلبة المنزلية وإزالة المكبات العشوائية في حوض النهر، قبل أن توضع الموازنة. وتساءل عن عدم شمولية خطة المعالجة كل قرى وبلدات ومدن حوض الليطاني على مدى 170 كلم لمسار النهر من دون استثناء، أي قرية مثل كفر صير وزوطر الشرقية ويحمر الشقيف. وتوقف عند نقل المياه المبتذلة في كل مرة يُفتح جدار سدّ القرعون إلى المجرى الجنوبي من سحمر حتى المصب.
أما المرامل، فقد سبّبت تشوّهاً مورفولوجياً في ضوء تقويم الترسبات الطينية والرملية المتراكمة في قعر النهر الداكن، والتي تغطيها الطحالب.
الأهم الذي لم تلحظه الخطة هو وقف الهدر للثروة المائية في الليطاني وبحيرة القرعون، إذ تقدَّر كمية مياهه من منبعه وروافده بنحو 750 مليون متر مكعب سنوياً.