هل اكتشف الفينيقيون أميركا وجابوا الأطلسي قبل كريستوف كولمبوس؟ سؤال ليس بجديد، لكنه لم يتخطَّ حتى الآن النظرية، وما يزال بحاجة إلى أسانيد وبراهين قبل تبنيه كحقيقة علمية وتاريخية، وهذا ما يريد تأكيده البحار الكابتن البريطاني فيليب بيل في دراسة علمية تحاكي المرحلة التي عاش فيها الفينيقيون بين سواحل لبنان ومدينة قرطاج التونسية، من حيث الأدوات التي كانت متاحة لهم قبل نحو 1000 سنة قبل الميلاد، في مغامرة علمية قد تجيب عن كثير من التساؤلات.
في لقاء نظمته رئيسة الجمعية الدولية للمحافظة على صور السفيرة مها الخليل الشلبي، قدم بيل عرضا مختصر من ثلاثة أقسام لمشروعه، وتحدث عن شغفه في استكشاف طرق التجارة القديمة منذ أن كان عمره 17 عاما، وبدأ بحملة في المحيط الهادئ ليظهر وسائل التجارة بين آسيا وأفريقيا، وبالتحديد ماليزيا وإندونيسيا ببناء سفينة اندونيسية وإبحاره وصولا إلى أفريقيا، وصولا إلى مشروعه الحالي المزمع القيام به، وهو عبور المحيط الأطلسي، بعد أن علم أن الفينيقيين كانوا من اوائل من قاموا بالتجارة مع أفريقيا، وقام ببناء سفينة فينيقية بالأساليب وطريقة البناء الفريدة الخاصة بالفينيقيين وبمواد استعملت وقتها من خشب وحبال وأسلوب هندسي، وتبع طريق التجارة حول رأس الرجاء الصالح، وعرض بيل للمخاطر والمجهود التي بذله للوصول إلى تحقيق هدفه بالدوران حول هذا المعبر البحري الخطير، من سفن وقراصنة ومسارات مائية خطرة.
وذكر أن هذا العرض جاء بمناسبة توقيع الإتفاقية مع الجمعية الدولية للحفاظ على مدينة صور، واستعرض بيل مراحل البناء في جزيرة أرواد السورية، بين عامي 2005 و2006، ولم يتمكن من بنائها في لبنان بسبب حرب تموز (يوليو) 2006، ومن ثم جال حول أفريقيا، مرورا بجبل طارق، واستعرض مقطع فيديو للرحلة التي ابتدأت من العام 2008 وتطلبت سنتين، وتوقفه لمجاراة الرياح مدة 6 اشهر في اليمن والسودان.
الشلبي
وعرضت الشلبي لعمل بيل في دعم الثقافة الفينيقية وقيامه بمغامرة كبيرة حول أفريقيا بدأها في العام 2008، وأثنت على شجاعته وعمله، وطلبت مساعدة الحكومة اللبنانية والمواطنين اللبنانيين وكل من يستطيع معاونته ماديا وإعلاميا.
وقالت: “اشكر الكابتن فيليب بيل لعمله في التاريخ الفينيقي، وقد قام بمغامرة كبيرة حول، فضلا عن مشروعه الطموح القادم وهو عبور الأطلسي، ولكن علي شكره على شجاعته وعمله وتفانيه، ولذا يستحق مساعدة الحكومة اللبنانية والمواطنين اللبنانيين وكل من يستطيع معاونته ماديا وإعلاميا”.
الترويج لثقافة وحضارة الفينيقيين
وقال بيل: “بدأت قصتي في عامي السابع عشر، وكنت شخصا محظوظا للذهاب في حملة في المحيط الهادئ لمعرفة كيف كانت تتم التجارة في القوارب الصغيرة Canoes، إن كان بالبضائع والثقافة وكيف انتقلت هذه التجارة من مكان لآخر، ومن جزيرة لجزيرة عبر المحيط الهادئ، ثم في وقت لاحق، تابعت كيف أن الحضارة الإندونيسية والملاوية (الماليزية) أثرت على أفريقيا، وقد بنيت قاربا، وأبحرت من إندونيسيا إلى أفريقيا، وفي هذه الحملة كنت أتساءل عمن كان أول شعب تواصل تجاريا مع أفريقيا؟ ودار حول أفريقيا، وقال صديق لي، إن الفينيقيين هم أول شعب قام بذلك وفقا للمؤرخين، وهنا بدأ شغفي بمتابعتهم وكان ذلك في العام 2005، وبدأت أقدر الثقافة الواسعة والكبيرة لأجدادكم”.
وعن هدف زيارته إلى لبنان اليوم، قال بيل: “تأتي هذه الزيارة بعد أن وقعنا اتفاقية مع الجمعية الدولية للمحافظة على صور والحملة الفينيقية للعمل معا، وللمساعدة على الترويج لثقافة وحضارة الفينيقيين، وهو عمل تقوم به السيدة شلبي وزملاؤها، بالترويج لثقافة صور في المنطقة، أما الأمر الثاني فهو تجربة عملية لعلم الآثار بأن السفن الفينيقية كانت كبيرة وقوية بما فيه الكفاية لعبور الأطلسي، وأريد أن أقدم لكم هذا العرض المكون من ثلاثة أقسام، لأخبركم في العرض عن السفينة الفينيقية التي بنيناها وكيف أبحرنا بها حول أفريقيا، ثم سأخبركم عن النظرية والأدلة من الآثار على أن الفينيقيين عبروا الأطلسي وأخيرا عن مخططات الحملة المزمع القيام بها لعبور المحيط الأطلسي”.
وأضاف: “ابتداء من العام 2005 وبعد أبحاث كثيرة والعمل مع أكاديميين ومتاحف توصلنا إلى معلومات كافية لبناء سفينة فينيقية بالعمل مع بروفسور من مارسيليا، كان قد وجد بقايا سفينة غارقة من قبل الميلاد في مرسيليا، وهو النموذج الذي استعملناه لبناء سفينتنا”.
وقال بيل: “جئت إلى لبنان وسوريا في الأعوام 2005 و2006 للبحث عن عمال لبناء سفينة خشبية، وبسبب مشاكل الحرب في 2006 في لبنان، قمنا ببناء السفينة في جزيرة أرواد مقابل مدينة طرطوس السورية، وطلبنا من بنائي السفن بناءها بالطرق القديمة، من خلال الدعامة الرئيسية أولا keel، ثم وضع بقية الألواح والقطع، وبدت كقطعة فنية، والفينيقيون هم الرواد بهذه الطريقة في بناء السفن”.
مواجهة القراصنة
وقال بيل ردا على سؤال greenarea.info: “ان الفينيقيين كانوا أول من استعملوا المسامير الحديدية، واستعملنا 5 أنواع من الخشب لهذه السفينة، أما الدعامة الرئيسية keel، فمن خشب يشبه خشب الأرز اللبناني، وهو أرز حلب، أما الألواح planks فمن الأرز المتوسطي، الأوتاد Pegs من خشب الزيتون وهو أقسى نوع خشب، كما استخدمنا التنوب القبرصي Cyprus fir للشراع، وهو نوع من الأخشاب المرنة، واستخدمنا خشب الجوز والسنديان للأجزاء المختلفة Ribs للسفينة، وأظهر صورة للسفينة “فينيقيا” Phoenicia وهي راسية، ومن ثم صورا وهي تبحر قرب أرواد وحول أفريقيا مرورا بجبل طارق، وتطلب منا هذا الأمر حوالي سنتين، وتوقفنا في اليمن والسودان لمدة ستة أشهر، لأننا لم نستطع أن نستدرك الرياح لإبحارنا في هذه الرحلة”.
وقال: “واجهتنا مشاكل في القرن الأفريقي والصومال، خصوصا من قبل القراصنة، ووصلنا هناك في 2009، وكان هناك هجوم يومي من قبلهم، واستلزم منا الأمر الكثير من الحذر في محيط عدن والصومال، وهو أمر خطر للغاية، واضطررنا، ومن مركزي ككابتن للاستعانة بالتواصل بالأقمار الصناعية لنتأكد من المسار الآمن لهذه الناحية، كي لا نقع بأيديهم كرهائن والطلب من أهلنا الحصول على فدية، ولكننا نجحنا”.
وأردف بيل: “واجهنا خطرا ايضا عند معبر الرجاء الصالح، وهو معبر خطر للغاية، وقد غرقت فيه سفن كبيرة للشحن، والأمواج العالية التي واجهتنا وصلت إلى 3 أمتار، فقد وصلنا بعد عيد الميلاد وفترة رأس السنة، وقد كسر الشراع الرئيسي أثناء العبور، واضطررنا للإستعانة بالشراع الإضافي (شراع الطوارئ) للإبحار، ووصلنا إلى سرعة عالية بهذا الشراع، وحاولنا تجنب السفن الأخرى التي تمر عبر هذا المعبر أيضا، وكنا ثلاثة أشخاص فقط، والقارب يزن حوالي 50 طنا، بطول 20 مترا وعرض 6 أمتار، وقد تطلبت منا الدورة حول المعبر بضعة ساعات، وفي آخر الرحلة، عدنا الى البحر الأبيض المتوسط، مرورا بقرطاج ومالطا، لنصل أخيرا إلى صيدا، حيث رحب بنا العديد من اللبنانيين، وتم تنسيق هذا الوصول مع أشخاص لبنانيين”.
دلائل تاريخية
وقال: “بالنسبة لهيكل السفينة والخشب، فقد حاولنا محاكاة ما استعمل في ذلك العصر، فكل العمل كان يدويا، والحبال مصنوعة يدويا، وكانت تتقطع أحيانا في منتصف الليل، كما أن الشراع من الكتان، لكن اضطررنا للاستعانة بصور الساتلايت للإبحار وللأمن ولتجنب القوارب الأخرى خصوصا قوارب القراصنة، فلم يكن هناك الكثير من القوارب في وقت الفينيقيين”.
وعند سؤاله إن كان هذا الأمر أثر على التجربة، فكيف استطاع الفينيقيون القيام بهذا دون معدات الإبحار المتقدمة هذه، قال بيل: “كانوا يبحرون في هذه الطرق البحرية لمئات من السنوات، وكانوا يعرفون الفصول، واكتشفوا النجم القطبي، وتمكنوا من الإبحار ليلا لأنهم كانوا واثقين باتجاههم وهدفهم، بالفعل كان إبحارهم بدائيا، وكانوا يعلمون بأن عليهم الإبحار حول المعبر، وذلك بإبقاء الشمس على يمينهم، والعودة عبر المتوسط، كما أن القانون يمنعنا من الإبحار بدون بعض المعدات، بتهمة الإهمال، وقد نستطيع القيام بذلك، ولكن لا نستطيع المغامرة بالطاقم، وقد أستطيع ككابتن للقارب القيام بهذا ولكن أحتاج إلى 12 فردا على الأقل”.
وعند سؤاله عن رحلته القادمة عبر الأطلسي، إن كان يهدف للتوجه إلى أميركا، أو أن يدع القارب يبحر ليصل إلى حيث يصل، أجاب “سنتركه يبحر، ونرى أين يوصلنا، فلا خطة لدينا، بل سنترك الرياح تقودنا كما قادت الفينيقيين لنستطيع معرفة أين وصلوا”.
وعند سؤاله إن كان لدى الفينيقيين أي خرائط عن المسارات والتيارات البحرية وغيرها، قال: “لا وجود لأي دلائل على وجود خرائط للتيارات وما كانوا يقومون به، ولكن هناك دلائل تاريخية لإبحار الفينيقيين، وطرقهم المعروفة، وقد تم بناء معرفة تاريخية حول رحلاتهم”.
ليست مجرد نظرية مجنونة
وقدم بيل نظريات عدة، وعرض لعملة نقدية من قرطاج، عليها نقوش تشبه خارطة أميركا، وقد تكون صدفة، فليس هناك أدلة دامغة، لكن هناك أمورا هامة، ودلائل مميزة، وهي ما يهمنا في حملة مثل هذه، هو أن أشخاصا عديدين سيهتمون، وثمة ادلة عديدة، وسأتكلم عن إثنين منها، أولها جزر Azores وهي جزر على بعد 900 ميل من الساحل البرتغالي والإسباني، وفي بداية هذه الحملة في 2008 و2009، قال المتحف البريطاني أنه لا يوجد دليل على وصول الفينيقيين إلى هذه الجزر، فلما هذا الأمر مهم، لأن التيار والهواء يأتي من الغرب لهذه الجزر، لذا لا يمكنك أن تبحر نحوها من الشرق (أي كما أبحر الفينيقيون) أي عكس الرياح، إلا أن الفينيقيين وصلوا إلى هذه الجزر من الغرب، لذا لا بد من أنهم وصلوا إليها قرب أميركا، كما أنه في السنوات الثلاث الأخيرة، قال أحد علماء الآثار بأنه وجد مقابر عبارة عن غرف ونقوش ومعابد ونقود من قرطاج في إحدى الجزر، وقال أرسطو أنه حول سواحل المغرب وإسبانيا والبرتغال الشرقية هناك حوالي 200 مستعمرة فينيقية، منها في ماديرا وجزر الكناري، واذا كنت تاجرا ولديك كل هذه المستعمرات فهناك فرصة أن تكون توسعت نحو الأطلسي، كما ان الرياح والتيارات توجهك باتجاه معين نحو الجنوب الغربي عبر المحيط الأطلسي، ثم نحو الأعلى على بعد مئات الأمتار من سواحل أميركا، لذا هناك إمكانية وليست مجرد نظرية مجنونة أن يستطيع الفينيقيون الوصول إلى هناك، فلديهم كل المواصفات: سفن كثيرة وقوية، وهم من أفضل التجار، ولديهم مجال لاستيراد البضائع والمعادن والأسماك، وهناك اكتشاف في السنة الماضية في بريطانيا، وهو عبارة عن عملة نقدية فينيقية إلى ما قبل 2300 سنة اكتشفت في فيضان في انكلترا، فعندما كنت أعيد السفينة الفينيقية في 2012 إلى المملكة المتحدة، تواصلت مع “متحف كورنوول الملكي” Royal Cornwall Museum، لأن عددا كبيرا من الأشخاص كانوا يتقبلون فكرة أن الفينيقيين تاجروا بالقصدير مع كورنوول، ولكن لم يكن لدى المتحف أي أدلة، ولكن وجود قطعة النقد هذه، غيرت أفكارهم، ولكن هناك عدة مواقف تشبه هذا الأمر، فقبل 60 عاما لم يتقبل أحد فكرة وصول الفايكينغ إلى أميركا، ولكن اكتشاف مستعمرة صغيرة في لابرادور Labrador في منطقة نيوفاوندلاند Newfoundland في كندا غير الكثير من الافكار، وكل يوم هناك اكتشافات جديدة منها اكتشاف مدن كاملة في اليونان والمملكة المتحدة، وقد نحتاج لسنين لنجد اكتشافات تؤكد وصول الفينيقيين إلى أميركا.
ونحن هنا نضع السؤال إن كان يمكن لسفينة فينيقية عبور الأطلسي، وأنا واثق إننا سنجد أدلة أكبر على رحلات الفينيقيين أكثر مما كنا نتوقع، فالعديد يقول أن الفينيقيين تم تجاهلهم في العديد من المجالات وهو ما يسعدني بالعمل مع السيدة الشلبي، ومع جمعية الحفاظ على صور.
تجدر الإشارة إلى أن الطيار اللبناني ريمي قهوجي سيشارك في هذه الرحلة التي من المتوقع أن تنطلق في أيلول (سبتمبر) القادم من مدينة قرطاج للإعتماد على الرياح في عبور الأطلسي.