تنتهي السياسة في عصر النيوليبرالية؟ عصرنا هو عصر النيوليبرالية.

تعني السياسة المشاركة في القرار حول مصير المجتمع والدولة ومن يعيش فيهما.

تتطلب المشاركة تنازلات من اجل التسويات. في كل تسوية شك ذاتي او اعتقاد بأن ما يؤمن به كل طرف يجب التنازل عن جزء منه كي تكون التسوية ممكنة. في ذلك تخلّ عن الحقيقة المطلقة، وربما اعتبار أن لا حقيقة مطقة او أنّها موزعة على كل الناس، فهي مجموعهم. هي مشاع لا يمتلكه احد بمفرده، ناهيك عمن يسعى لاحتكارها.

انتصرت الليبرالية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتحولت الى النيوليبرالية.

ألغت الليبرالية نفسها، لم تعد بحاجة الى تنازلات للطبقة (او الطبقات العاملة). اتجهت الى إلغاء البرامج الاجتماعية والضمانات التي كانت تعطيها بمثابة صمام أمان يحميها من ميل الجمهور الى اليسار. اعتبرت انها لم تعد مجبرة على شيء. مع صعود النيوليبرالية حصل ضرب النقابات والهيئات المطلبية. حلّت مكانها هيئات المجتمع المدني. لم تعد مسألة المطالبة بالحقوق واردة. تعيش مؤسسات المجتمع المدني على المساعدات. حلّ الإحسان مكان الحق، العمل التطوعي مكان الإلتزام النقابي.

يتطوعون للنضال في معارك تختارها الطبقة العليا لهم، كما يتطوع الجنود للقتال في حروب تُختار لهم. في الحروب تلجأ الدول الى اقتصاد  الأمر والى تجيير كل الصناعة والزراعة لواجبات الحرب. في اقتصاد النيوليبرالية توجيه بالأمر، لكنه يحصل بالقوة الناعمة. يستند على اقتناعات الناس التي تولّدت جراء القصف بالمعلومات والحقائق الافتراضية بوسائط الميديا والإعلام والبرامج التلفزيونية وما يسمى وسائل الاتصال الاجتماعي. يتشكّل الوعي العام بوسائل “الاقناع” التي تملي ما يجب ان يكون. تشنّ النيوليبرالية حرباً على المجتمع. يرضخ المجتمع دون الاعتراف بهزيمته. ويمتثل للأوامر، بعد أن صارت هذه النيوليبرالية عقيدته وعقيدة لمن يفترض ان يكون ضحيتها.

الرمزان التاريخيان لبداية هذا التطور هما رونالد ريغان ومارغريت ثاتشر. هو تطوّر انتهى بانتخاب ترامب بأصوات ضحايا النظام الذي جاء به، كان ذلك تتويجاً لصعود ما يسمى الشعبوية واليمين المتطرف واليمين الديني؛ صعود القوة المالية الى وضع غير مسبوق في التاريخ. الدولار مقياس كل شيء. الدولار تطبعه الدولة التي تنفق عسكرياً ما يفوق ضعف ما ينفقه مجموع بقية العالم. لا حدود لطباعة أية كمية من الدولارات. قيمتها ليست في ذاتها، بل في القوة العسكرية التي تدعمها، وكأنها سلطة ربانية. لا يحتاج الأمر الى استخدام القوة والعنف ضد الجمهور، فهذا يخضع بسبب الاقتناعات التي تولدت لديه بوسائل القوة الناعمة. لا تستخدم القوة القاسية الا عند اللزوم. كما في افغانستان والعراق.

تحلّلت الليبرالية من التزامتها تجاه المجتمع، لم يعد لها خصم، سيطرت على المجال الخاص كما على المجال العام. صار الكل فضاء خاصاً لها. هي تملك الدولة وتسيطر على ما تملكه الدولة. زال الفاصل بين المجال العام والمجال الخاص. صار كل شيء فضاء خاصاً للقلة (أقل من 1% من الناس) التي تملك اكثر مما تملكه بقية البشرية.

تنعم النيوليبرالية بدعم شعبي غير مسبوق. لم تعد بحاجة الى الليبرالية والى ميوعتها وتنازلاتها امام هذا الشعب الذي يصوت لها. حملت منطق الليبرالية الى نهاياته، منطق ان من يسيطر مالياً يسيطر اقتصادياً واجتماعياً، وأنّ هذه السيطرة تحتّم إخضاع الدولة لإراداتها. تزعم الليبرالية انها ايديولوجيا المبادرة الفردية والديمقراطية وحرية الاداء. أمّا النيوليبرالية فهي منطق السيطرة والتحكّم مع إفساح الفرص للناس كي يفعلوا ما يشاؤون ما دامت مشيئتهم تتشكل حسب القواعد التي ترسمها السلطة لهم. يمارس الناس عبوديتهم كحرية منحهم اياها أصحاب الأمر والنهي.

لا يفعل الفقراء شيئاً من اجل حقوقهم، هذه صارت ديناً عليهم ودينا لهم وعبئاً على كاحلهم. تجمعات الميادين في العالم، التي حدثت بعد الثورة العربية عام 2011 تلاشت، سحقت كل ثورات العالم. يخضع الناس برضاهم. البشرية اكثر اقتناعاً بالرأسمالية وانها طبيعة بشرية، دون السعي وراء نقائضها. تملك الرأسمالية عقولهم. اللوحة الالكترونية الذكية سلبت الذكاء ممن يحملها. تقسيم العمل بين اللوحة الذكية والعقل البشري الحامل لها يميل لصالح اللوحة. هي جهاز مغلق. ملايين بل مليارات اللوحات المغلفة تديرها بضعة غرف مظلمة في العالم. لا يعرف مستخدم اللوحة الا تشغيلها. هو مستهلك لها وحسب، مستمتع بها فقط. وهذا هو بيت القصيد: أن تصبح الرغبة أقوى من العقل وأن يصير ما يجب أن يكون أقوى مما يكون، وأن يصير الامر والتحكم أقوى من الواقع والحرية.

السياسة هي إدارة شؤون المجتمع، هي إدارة التناقضات. التناقض هو الدافع الى التفكير. يحتاج العقل الى تسويات بسبب التناقضات، يحتاج الى التفكير كي يدرك التناقضات ويجترح التسويات. يحتاج الى ارادة كي يكون قادراً على التسوية بين الاطراف المختلفة. لا يتقدم العقل الا بالاختلاف. كانت الليبرالية مضطرة للتبدل بالاختلاف. لم تعد النيوليبرالية بحاجة الى ذلك. على الناس ان يقبلوا ما يقدم لهم وان يكونوا شاكرين لذلك. تخلوا عن المطالبة بحقوقهم، زالت النضالات المطلبية. يأتيهم الاحسان عن طريق المجتمع المدني، تزول الخلافات. تزول الحاجة الى التفكير. تزول الحاجة للسياسة. هناك من يدير المجتمع. هو الطبقة الرفيعة، الجمهور متروك للعمل والتمتع والاستهلاك. ينغلق العقل يحتقر التفكير . تصير المعرفة رذيلة بعد ان كانت فضيلة. يقوم العلماء بابحاث من اجل اهداف قريبة المدى تقررها الطبقة الرفيعة. كل شيء يخضع لاهداف تجارية ربحية. تتجيّر الجامعات. مهمتها الاولى ان تصير مركزا للبحث المربح لا للتفكير والمعرفة. تنتج ابحاثاً لتعريف الطبقة الرفيعة على الوسائل الربحية لا التعرف الى نظريات جديدة. يزول دور النظرية وعلى العموم ينتشر في المجتمع حب التمتع والاستهلاك، تستهلك ما لا تعرف. اللوحة الذكية معلقة.

مجال السياسة هو الفضاء والعالم الذي يتقلص هو المشاع الذي تتم مصادرته، هو العقل االذي يذبل أمام اللوحة الذكية. حتى حساب المصلحة يملى على صاحبه. حتى عندما لا تكون بحاجة الى الاستدانة يجبرك على ذلك المصرف او بطاقة الائتمان. في ذلك فائدة لهما.

في هذا الفضاء العام يشارك الناس كمواطنين في الشكل وكرعايا في المضمون . الفرق بين المواطنين والرعايا هو الفرق بين من يريدون وبين من يراد لهم. يتحول المواطنون الى رعايا مرة أخرى. عقول الناس اقطاعات لمن يسيطر ويشغلها.

المجتمع المفتوح الذي كدنا نخال الوصول اليه سيكون قريباً، اصبح أبعد منالاً. غرف سرية تدير العالم كما تدير اللوحات الذكية. القوى المسيطرة على وسائل الميديا تقرر وعي الناس.

مع انعدام التفكير تتصاعد سياسات الهوية، مع تراجع العقلانية تتفوق الرغبات. يجب ان ترغب كي تتمتع بالمناخ. زمع تراجع السياسة واصابة دور الدولة بالعطب تزدهر سياسات الهوية. هي حالة عقلية، يبحث الناس فيها عن الاصل والمنشأ. يتوقف سؤال الحاضر والمستقبل. كل ذلك يصنع لنا. علينا الاستسلام لما نعتقدهم هويتنا. يتراجع دور الدولة في وعينا. تواجهها الهوية، احدى اشكال الامة. ينضوي الناس تحت الوية هوياتهم. مجتمع اقليات وأمم. كل منها ذات اولوية على الدولة. تتفكك الدولة تنتشر الحروب الاهلية. لكل هوية حق تقرير المصير. حرية افتراضية.

نزعات تفكيكية تدميرية تظهر في الادب والفلسفة، احياناً تسمى تأويلاً. القارىء يعرف النص اكثر مما عرفه كاتبه. يتراجع دور التفكير يموت الكاتب كل شيء بالايجار. لا يستطيع المرء تحمل واقعه ولا تحمل المجتمع والدولة اللتين يعيش فيهما. يلجأ الى التدمير ثم الانتحار . يفقد الانسان المعنى والمغزى في ظل النيوليبرالية والانعزال عن السياسة (عن القرار والفعل والتفكير والمشاركة) . لا يبق منه الا حطام الانسان الذي كان يجب ان يكون. يتحول الدين الى هوية، يزول الايمان، تنزع الروح، تصعد العقيدة الشكلية. كل شيء في الدين طقوس وحركات بدنية خارج الروح. عقيدة جوهرها انه هو الانسان الموجود المعذب المحطم يواجه العالم. يتمتع بالاستهلاك لكنه يتشاءم بالمظلومية، يصير هو في مواجهة العالم. لا يستطيع التفسير بعد ان استباحته اللوحة الذكية ومن يسيطر عليها، وبعد ان عزل عن المجتمع. يفقد القدرة على التفكير والتعليل العقلاني. ممنوع من المشاركة، معزول عن السياسة، يصوّت للجلاد. هو موجود وغير موجود، يتساوى وجوده مع عدمه، اذن فلينتحر ولينحر غيره. يثأر بذلك. على كل حال، هويته تضمن له مكاناً في عالم آخر، في السماء، يأس من المستقبل . الحاضر للمتعة فقط. في السماء متعة أكثر. استهلاك محض. استهلاك لذاته. الذات الحقيقية في عالم آخر.

العالم الآخر افتراضي، تعوّد ان يكون عالمه الراهن افتراضي. الميديا في هذا العالم جهزته لقبول الحياة الافتراضية بعد الموت. ما هو افتراضي ينخر دماغه ويصير هو وعيه. وعي المستبعد عن التفكير والمشاركة … والسياسة.

نهاية مأساوية للسياسة …. يتبع

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This