تتابعت خطوات الصين المتقدمة في كافة المجالات التنموية، إلا أن هذا النمو دفعت البلاد ثمنه باهظا، فقد انعكس التطور الصناعي السريع والنهوض الاقتصادي، والنمو في متوسط الناتج المحلي الإجمالي GDP بمعدل 10 بالمئة سنويا لأكثر من عقد من الزمان، على حساب البيئة والصحة العامة.
تعد الصين أكبر مصدّر في العالم لانبعاثات الكربون، وقد فشلت نوعية الهواء في العديد من المدن الكبرى بتلبية المعايير الصحية الدولية، كما أن متوسط الأعمار المتوقع شمال نهر هواي Huai River (وهو أحد أكبار أنهر الصين) أقل 5.5 سنوات من جنوبه، وذلك بسبب تلوث الهواء (متوسط العمر المتوقع في الصين 75.3 وفقا لأرقام الأمم المتحدة في العام 2013)، كما أن ندرة وتلوث المياه ضاعفا من تدهور الأراضي الزراعية، ولا يهدد هذا التدهور البيئي بتقويض النمو في البلاد فحسب، بل باستنفاد صبر عامة الناس، خصوصا مع الوتيرة البطيئة التي يتم فيها الإصلاح القائم، فضلا عن ما تشكله مجموع هذه المشاكل، من تأثر في مكانة الصين الدولية وخطرها على الاستقرار الداخلي. كما يواجه الحزب الحاكم المزيد من سخط الرأي العام، وفي الآونة الأخيرة، وسط تراجع النمو الاقتصادي، يبدو أن القادة في بكين أكثر تصميما على المبادرة بتغييرات جذرية لوقف المزيد من التدهور.
بذر الغيوم
ويتحول نظام الصين المالي نحو الإقتصاد الأخضر، فضلا عن جهودها في تبني الطاقة المتجددة بكافة أشكالها، وقد تابعنا في مقالات عدة في موقعنا greenarea.info حول هذه المشاريع، إلا أن خطوتها الأخيرة في تعزيز الأمطار الصناعي Artificial rainfall enhancement على منطقة تعادل 1،7 مساحة فرنسا، خطوة طموحة لجهة توفير كميات كبيرة من المياه للري ومشاريعها التنموية، وتخفيض نسبة تدهور التربة والقضاء على الجفاف والتلوث.
وليست هذه المرة الأولى التي تقوم بها الصين بـ “بذر الغيوم”Cloud seeding ، بل أن البلاد تقوم بهذه العملية منذ فترة طويلة إلا أن أبرزها في العام 2008، عندما أطلقت خلال الألعاب الأولمبية في بكين 1100 صاروخ يحتوي على مادة أيوديد الفضة Silver iodide، وكان الهدف منها منع تساقط الأمطار، بالمقابل، فإنه في العام 2011، أنفقت الصين في مشروعها التجريبي الأول 150 مليون دولار (حوالي مليار يوان صيني)، بالمقابل تستثمر الولايات المتحدة 15 مليون دولار سنويا في هذه البرامج، ولكن منذ ذلك الحين توالت هذه البرامج بهدف محاربة الجفاف وتلوث الهواء، وتنوي الصين في مشروعها الحالي زيادة إنتاجية هذا المشروع من 55 مليار طن من الأمطار خلال السنوات السابقة إلى خمسة أضعاف.
تاريخيا
وكان عالم الكيمياء والمناخ الأميركي فينسنت شافر Vincent Schaefer أول من ابتدع فكرة “بذر الغيوم” باستخدام الثلج الجاف، بعد تجارب مضنية مع الحاصل على جائزة نوبل للكيمياء إيرفينغ لانغموير Irving Langmuir، لتتبع تجارب ومحاولات على يد عدة علماء، واستخدام “أنوية” مختلفة لهذه العملية، واستعملت تقنيات بذر الغيوم في دول عدة، منها: الهند لمعالجة الجفاف الشديد، في اندونيسيا في العام 2013 للحد من الفيضانات، في جنوب شرق آسيا تم استعمال التقنية لزيادة الأمطار بهدف تحسين نوعية الهواء، خصوصا بعد الحرائق والضباب الدخاني نتيجة حرق الغابات في سومطرة، كما تمت عملية بذر الغيوم بشكل يومي في العام 2015 في ماليزيا ابتداء من شهر آب (أغسطس) للوقاية من الضباب الدخاني، أما في تايلاند فقد نالت البلاد براءة اختراع Patent 1491088 لـ “تقنية تحويل الطقس واستحداث الأمطار الملكية”Weather modification by royal rainmaking technology بعد 10 سنوات من التجارب، وذلك ببذر الملح لجمع الرطوبة، ثم ذر الثلج الجاف لاستمطار الغيوم، فضلا عن برامج في أميركا الشمالية، وعدة بلاد من أوروبا، أفريقيا وأستراليا.
وتتابع بعض الدول العربية تجارب في هذا المجال، فقد قامت الكويت بتجربة لمحاربة الجفاف، أما الإمارات فابتدأت منذ تسعينيات القرن الماضي، تنفيذ المشاريع (في العام 2010)، وتم انفاق 11 مليون دولار، توجتها في العام 2015 بإنشاء مركز أبحاث الإمارات المتحدة لعلم بحوث الإستمطار” أو UAE Research Program for Rain Enhancement Science.
شكوك
ويشكك العديد من المختصين بزيادة إنتاجية الصين الـ 55 مليار طن، وقال الباحث في “المركز الوطني الأميركي لأبحاث الغلاف الجوي” رولف بروينتجس Roelof Bruintjes وهو من دعاة تعديل الطقس إن “الحكومة الصينية أشارت إلى استحداث الصين الأمطار بهذه الكمية أي 55 مليار طن، ولكن ليس ثمة تقييم لهذا الأمر وآثاره وإثبات هذه الإدعاءات”، وأضاف: “على هذه التقنية ألا تستعمل للحد من الجفاف فحسب، بل كعملية إدارة للمياه على المدى الطويل”، وهناك سبب آخر، وهو أن عددا قليلا من البلدان تتقاسم حماس الصين لهذه التقنية، هو أن فعاليتها لم تثبت بعد، ولم يؤكد أحد أن هذه الأمطار قد سقطت حيث يجب أن تسقط أو أنها سقطت فعلا، أو أنها أثرت على عملية هطول الأمطار الطبيعي في المناطق بشكل عام.
كما أشار مصدر علمي إلى أن عملية “بذر الغيوم” تؤدي إلى تمدد حبات البرد، ما يمكن أن يتسبب بكوارث على الإنتاج الزراعي، كما ربطت بعض المواقع موضوع “بذر الغيوم” وعلميات الإستمطار بنظريات المؤامرة، والاعتقاد بأن بعض الحكومات تتلاعب بالطقس من أجل السيطرة على أي شيء من ظاهرة الاحتباس الحراري، والسكان، واختبار أسلحة عسكرية، على الصحة العامة، والفيضانات.
تقنية بذر الغيوم
وبادرت لجنة التنمية والاصلاح الوطني National Development and Reform Commission الصينية العام الماضي، بالموافقة على ميزانية مشروع ضخم بتكلفة قدرها 168 مليون دولار ) 1،15 مليون دولار) في المنطقة الجنوبية الغربية من البلاد لبرنامج استحداث الأمطار الصناعي، على مساحة تقدر بـ 10 بالمئة من مساحة الصين تقريبا ( 960,000 كيلومتر مربع)، وتشمل شراء أربع طائرات جديدة، ورفع مستوى الثماني طائرات الحالية، وتطوير 897 جهاز إطلاق صواريخ وإنشاء 1856 جهاز لأنظمة التحكم والتواصل الرقمي، وسينتهي المشروع خلال ثلاث سنوات.
وقد أصبحت عملية تعديل الطقس رميا بالمواد الكيميائية في السحب أو “بذر الغيوم” أكثر تواترا في كافة أنحاء الصين في السنوات الأخيرة، لأغراض مختلفة بما في ذلك تحسين حالة الطقس في المناسبات العامة الكبرى، وتبريد الهواء الساخن في الصيف، كما شكل الضباب الدخاني Smog مشكلة لكثير من المدن الكبرى، لذا أصبح تكوين الامطار وسيلة شائعة لـ “تنظيف” الهواء.
وتقضي الممارسة المعتادة للإستمطار باستخدام الطائرات أو الصواريخ “لبذر” الغيوم بالمحفزات مثل الثلج الجاف (ثاني أوكسيد الكربون الصلب (carbon dioxide أو أيوديد الفضة أو البوتاسيوم لحث أو زيادة هطول الأمطار، كما تمت تجربة غاز البروبان السائل Liquid propane، ومؤخرا فهناك تجارب إيجابية على استخدام ملح الطعام في هذا المجال، إلا أن أكثرها استخداما هو أيوديد الفضة.
تحذيرات بيئية
وقد حذر عدد من الباحثين من عملية “بذر الغيوم” وخصوصا استخدام أيوديد الفضة بسبب سميته، خصوصا للكائنات المائية على المدى البعيد وبالإستعمال المتكرر، كما ويعتقد البعض أنه يمكن أن يتسبب بأضرار للثدييات ومنها الإنسان، إلا أن الكمية المستخدمة لهذا المركب لا زالت ضئيلة وتشكل عملية “بذر الغيوم” 1 بالمئة من كمية الفضة بشكل عام، والتي يمكن أن تنتج من العمليات الصناعية وحشوات الأسنان.
وقال البروفسور المتخصص في التدخل المناخي weather interventionفي معهد فيزياء الغلاف الجوي Atmospheric physics التابع للأكاديمية الصينية للعلوم Chinese Academy of Sciences لي هانغشي Lei hengchi أنه ” لن يكون هناك أي تأثير يذكر، لأن كميات المواد الكيميائية المستخدمة ستكون ضئيلة للغاية، لتشكل أي فرق”.
ولا يلاقي هذا المشروع معارضة تذكر في الداخل الصيني، ويعتبر أقل إثارة للجدل من مشاريع السدود الضخمة، خصوصا أنه ساهم بأمطار تقدر بـ 55 مليار طن في الفترة بين 2006 و2016، وهي كمية تعادل 150 بالمئة من كمية المياه الموجودة في السدود الثلاثة الكبيرة Three Gorges Dam، وقال مسؤول حكومي في منطقة Qinghai أن “هذا البرنامج هدفه الأمن المائي، إعادة توزيع مصادر المياه، الوقاية من الجفاف والوقاية من الحرائق”.