تنقسم الدول حول العالم الى قسمين: دول سياسية ودول غير سياسية (اقتصادية او طائفية او غير ذلك).

السياسة في الدول السياسية معنية بالدرجة الاولى بإدارة شؤون المجتمع أي استخدام المواد المحلية والايدي العاملة المحلية والتصدير والاستيراد، الخ… كل ذلك لتلبية الاحتياجات المحلية. هي دولة نمو وتنمية – ينبع قرارها من ذاتها. لا هيبة مستمدة من الشرعية التي تعني رضى الناس. قراراتها قابلة للتنفيذ دون قسر. ليس هناك اقتصاد بحت، هو ما أطلق عليه الباحثون تعبير الاقتصاد المبتذل. كل اقتصاد تديره السياسة، وهذه اما ان تكون محلية او خارجية.

النمط الثاني من الدول هو غير السياسية. هذه تديرها شركات ومصالح وإملاآت خارجية. القوى المحلية أشبه بسماسرة لرديفاتها الخارجية. الاهداف والوسائل تملى من الخارج. الارباح تذهب الى الخارج. يطلق على هذا الاقتصاد نمط الانتاج الكولونيالي كما قال “مهدي عامل”. ليس في هذه البلدان سياسة حقيقية. الصراع على السياسة يعبّر عن القوى الخارجية، بعكس الدول السياسية التنموية التي تدور كل قراراتها حول الداخل.

في لبنان مثلاً، عندما يقول اللبنانيون أنّ الدولة غير موجودة فهم يعنون أنّ الدولة غير موجودة لهم؛ ليست في ضميرهم؛ ليست من أجلهم؛ لا تعبّر عنهم. الدولة موجودة في كل مكان. التغيير فيها حاصل. جميع النواب والوزراء، والمدراء العامون، تقريباً، هم من الشباب، وهؤلاء من أصول متواضعة، لكنهم لا يختلفون عمّن سبقهم، وربما جنحوا نحو الاسوأ. التغيير حاصل لكن في اطار دولة ليست للناس وليست من الناس. هم حصيلة نظام طائفي يغلق المجتمع.

المجتمع السياسي الحقيقي هو مجتمع مفتوح، يناقش قضايا الناس، وهؤلاء ينتخبون بالتعبير عن نفسهم، يقررون حسبما في ضمائرهم. السلطة بالتالي تعبر عما في ضمائر الناس. عندما يدافع الناس عن دولة المجتمع المفتوح، فإنهم يدافعون عن أنفسهم، لأنّ الدولة هي هم، وهم الدولة. في مجتمع أغلقته الطوائف والعائلات والاتنيات، الخ… تصير الدولة كياناً غريباً؛ في غربتها تعمل لصالح قوى خارجية اذ لا تستطيع الاعتماد على شعبها. في نظام ديمقراطي طائفي او نظام استبداد وطغيان، الحالة سيان لجهة الاستتباع للخارج. الاستبداد حالة قصوى لانغلاق المجتمع.

في المجتمع المفتوح، يناقشون قضايا الناس، يلتزمون بها، يخافون الناس، يختفون من السلطة اذا لم ينفذوا ما وعدوا به. يصير للانتخابات معنى لأنها تكون ديمقراطية حقيقية. في الطوائف لا نقاش حقيقياً، واذا حصل نقاش، لا أحد يلتزم بنتائجه. الأهم من كل شيء هو الالتزام بقرار الزعيم او زعماء الطائفة (طغاة في طوائفهم). يعتبر ما تكسبه طائفة ما خسارة لغيرها. المجموع صفر. يقف المجتمع مكانه. لا يتقدم. تتساوى الديمقراطية هنا مع الاستبداد، وإن تركت بعض الحريات ليتمتع بها الناس وليبرر النظام نفسه.

في المجتمع المفتوح، حيث النقاش علني، يدور حول قضايا الناس الحقيقية، قرار السلطة مُلزم، القانون مطبق، الدستور ملهم الجميع. في هذا المجتمع ما يشبه العقد الاجتماعي. الناس مواطنون، لكل حريته وشخصيته. ارادة السلطة أن تكون مع الناس، ذات التزام بهم. يبادلها الناس بالالتزام بها وبالقانون والدستور والانضباط.

الدولة القوية هي في المجتمع المفتوح. غير صحيح أنّ دول الاستبداد قوية. السلطة فيها قوية بأجهزة الأمن والاستخبارات واستخدام العنف. ما جاء بالقسر والارغام ينفرط حالما ترتخي القبضة الامنية، او حالما يعتبر الناس انفسهم أقوى من الدولة، او حالما يصل الناس الى حالة لا تطاق.

استمرارية دولة السياسة مضمونة الاستمرارية برضى الناس. عندما يدافع بلد صغير عن استقلاله لا تستطيع دولة كبرى احتلاله او السيطرة عليه بالقوة. إمكانية تراكم الانجازات ممكنة في مجتمع من هذا النوع. دولة المجتمع المغلق، الاستبدادية او الديمقراطية، لا استمرارية فيها، لا تراكم انجازات، لا تنمية، لا تقدم. في كل مرة تتغير السلطة يعودون الى نقطة الصفر. احياناً يسموّن ذلك اصلاحاً. الدولة السياسية ليست بحاجة الى اصلاح جذري. هناك تحسينات في الاداء كلما دعت الحاجة.

في الدول عقود. العقد صفقة. هذه كلمة لها عندنا معنىً سيئاً، لأنّ الذين عقدوا الصفقة فعلوا ذلك في مجتمع مغلق، في غرفة سوداء، على يد سياسيين لا يعبّرون عن حاجات البلاد. هم جزء من تركيبة تعمل لصالح الخارج. كل تسوية سياسية ايضا هي صفقة. تراكم التسويات يؤدي الى استمرارية السياسة والاقتصاد. لا توجّس مما تعمله السلطة، لأنها تفعل ذلك في العلن. الشاهد على المنظور. الخوف هو مما يعقد في الغرف المغلقة. اللص يسرق في الظلام. ظلامية الصفقات الاقتصادية والسياسية تؤدي الى الظلامية الدينية والى ما لا يحمد عقباه من سلفيات وحروب أهلية.

الدولة غير السياسة نظامها فاشية مستقرة. يكفي أن تثار حقوق الطائفة او الاثنية كي تتأجج الغرائز الاولية. دولة السياسة ليس فيها غرائز أولية، هناك حسابات عقلانية وحسب. ما يكسبه البعض يعتبر ربحاً للجميع. لا يخاف الناس، ولا السلطة، من التنظيمات النقابية. النيوليبيرالية دمرت النقابات. ما عادت تخاف خطر الوفيات لكنها خافت شعبها فدمّرت مؤسساته. تدّعي انها تريد تصغير حجم الدولة في الاقتصاد، لكنها في الحقيقة تتسلّط على الدولة دون منازع. سياسة ترامب شاهد على ذلك. أنتجت النيوليبيرالية مجتمعات مغلقة في جميع انحاء العالم. صعود اليمين الديني واليمين السياسي والشعبوية دليل على ذلك.

الدولة سياسة لا يضيرها اختلاف المصالح. كل مجتمع متنوع. كل فرد متعدد الهويات. التسويات بينهم ممكنة. تصير غير ممكنة في الدولة غير السياسية أوالديمقراطية الطائفية أو أنظمة الاستبداد.

رجال السياسة في المجتمع المفتوح خطباء منوهون. يعبّرون عما يجول في خاطرهم، يبذلون الجهد كي يكون كلامهم معبّراً عن الناس. لا يخافون الناس. يطلبون تأييدهم. يرفعون صوتهم. يصير الصوت جمهوراً. رجال السياسة في أنظمة الاستبداد والطائفية أصواتهم ممعوسة. لا يجيدون الخطابة. كلامهم يعبّر عن أوامر غيرهم. يعرفون كما يعرف مستمعوهم أنّهم يكذبون.

السياسة هي الفضاء العام. هي الكلام الحر. الفضاءات المغلقة (المراكز التجارية، وهي علامة من علامات النيوليبرالية) تكتم الانفاس. طوائف من نوع جديد. الفضاء العام نقيض الخاص.

جزء من برنامج النيوليبيرالية كان الخصخصة، بحجة أنّ الدولة مدير سيء لمؤسسات يمكن ان يمتلكها ويديرها ويقتطع الأرباح منها القطاع الخاص. الهدف المعلن هو تصغير حجم الدولة في الاقتصاد لتحسين الأداء. الهدف الحقيقي  هو السيطرة المباشرة على أجزاء من القطاع الخاص واقتطاع أرباح اكثر. لا فرق كبير بين القطاع الخاص والعام. في الحالتين تسيطر طبقة واحدة. عندما تتعرض شركات كبرى خاصة لخطر الإفلاس، تنقذها الدولة بأموال القطاع العام.

الفضاء العام هو فضاء السياسة، فضاء المشاركة، التواصل، تبادل الرأي، المناقضة، التسوية، التهذيب، الانضباط إزاء الغير (حتى مع التجاوزات). الفضاء العام هو فضاء المواطنة. ليس المرء مواطناً في بيته؛ ليس مواطناً بالسر.

في نظام الاستبداد يصير المواطن مكتوم الأنفاس، يفقد مواطنته. ابعاده عن السياسة هو استبعاده عن المواطنة. المواطن الذي يشارك، يزرع في الدولة ضميره، تصير هي جزء منه. تحقق الدولة نفسها عندما يستبطنها الفرد. لا يستطيع الفرد ذلك مع وجود تشكيلات وسيطة من طائفة او اثنية او ما يشبه ذلك بينه وبين الدولة. تصير الدولة “نحن” ونصير “نحن” الدولة. نعارض النظام (أو نؤيده) لكننا لا نعارض الدولة. معارضة النظام او السلطة جزء من السياسة، جوهر السياسة. اما معارضة المرء للدولة، ففيها إخلال بالنظام العام؛ هذا اذا كانت الدولة إطاراً ناظماً للمجتمع، كما يجب ان تكون.

إهمال شأن الدولة في وعينا، شكل من أشكال إهمال السياسة؛ بالأحرى الاستبعاد عنها. ما زلنا في مجتمع استبعادي لا استيعابي. الوعي بالدولة وفهم السياسة وجهان لعملة واحدة. يكثر الحديث عن بناء الدولة، وكأنها مؤسسات تظهر وتفنى. الدولة غير ذلك، هي المطلق الذي لا شرط عليه. هي شرط لما عداها. نحقنها بالسياسة. المؤسسات جزء من بيروقراطية النظام. الدولة انتظام يومي، تحقيق مستمر دائم… الى الأبد.

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This