بعد منعه لعشرين سنة من دخول الجامعات في جنوب أفريقيا والولايات المتحدة، بسبب رفض مقولاته وأفكاره غير التقليدية، يؤكد رائد “الإدارة الشاملة” Holistic Management للأراضي (باستخدام قطعان الماشية) آلان سافوري Allan Savory من زمبابوي (روديسيا سابقا)، أنه “سعيد”، إذ لم ينتهِ به الأمر في مستشفى الأمراض العقلية وظل عاقلا، مشبها تجربته بتجارب العديد من رواد الأفكار الجديدة، ومنهم الطبيب الهنغاري Ignaz Semmelweis الذي اكتشف أن عملية غسل الأيدي من قبل العاملين في المجال الطبي قبل العمليات الجراحية قد تنقذ آلاف الأشخاص، وحورب ورفض من المجتمع الطبي في حينه، لعدم اكتشاف البكتيريا وطرق انتقالها في حينه، ليصل في النهاية كنزيل لمستشفى الأمراض العقلية وموته فيها.
الإدارة الشاملة للأراضي
وكنا في موقع greenarea.infoقد تناولنا مقاربة سافوري في إدارة الأراضي في مقالات عدة، إلا أنه وعلى الرغم من وصف مقاربته بالعبقرية من قبل العديد من الأشخاص، إلا أن سافوري، وهو مؤسس ورئيس لمعهد يحمل اسمه The Savory Institute ، واجه حربا شعواء من معارضيه من البيئيين والنباتيين والأكاديميين، إلا أن هذه الإدارة الشاملة طبقت على مساحة 40 مليون آكر (الآكر حوالي 4000 متر مربع) حول العالم، وحصدت نجاحا منقطع النظير، ونال سافوري على إثرها العديد من الجوائز، كما قال Joel Salatin الذي وصفته “صحيفة نيويورك تايمز” بأنه “من أهم المزارعين المتعددي الأوجه في ولاية فرجينيا منذ توماس جيفرسون”: “سيؤكد التاريخ بأن آلان سافوري هو واحد من أعظم علماء البيئة في كل وقت”.
وقال سافوري في الحرب الشعواء ضده “هذا هو السلوك العادي عند ظهور أفكار علمية جديدة غير بديهية وضد معتقدات المجتمع”، إلا أنه في منشور على موقع التواصل الإجتماعي Facebook ذكر فيه ” أن 75 مليار طن من التربة تتعرض للتآكل والتعرية سنويا نتيجة ممارسات الزراعة الجائرة، وهذا رقم موثق، وأن هذا الرقم هو من الأراضي الزراعية، فإن خسارة 2،5 ميلليمتر من التربة في هذه الأراضي تعادل 50 طنا في الهكتار، وبالتالي، فالخسائر أكبر بكثير، ولكن بالمحصلة فإن الزراعة الجائرة تدمر ما يقدر من التربة بعشرين ضعف على شكل غذاء سنويا، ولكن يبقى اللوم في تعري التربة وتدهورها على الرعي، بينما في مقاربة الإدارة الشاملة باستخدام الماشية، أمكن إثبات أنه يمكن استعادة الأراضي ومنع تدهورها”.
دراسة حديثة
وعلى صفحته على موقع التواصل الإجتماعي فيسبوك Facebook أيضا، شارك سافوري متابعيه مقالا حول ما أكدته بيانات حديثة من الأقمار الصناعية عن مدى أهمية المواد العضوية في التربة للحد من تبخر المياه، وكيف أن هذا الأمر يستمر لفترة أطول مما كان يعتقد، ويؤكد بعض خبراء الأرصاد الجوية أن حوالي نصف كميات الأمطار في قارة يأتي من التبخر من النباتات والتربة، لذا من المهم تحسين إدارة التربة، كما أن كمية المواد العضوية الموجودة في التربة، وكذلك كمية الرطوبة في التربة لهما تأثير كبير على صحة النبات، وبالتالي على تعرق (نتح) النباتات. لذلك، فإن مساحات كبيرة من الأراضي لها تأثير كبير على الرطوبة التي تعود إلى الهواء وبالتالي على هطول الأمطار.
وقد استُخدم قمر صناعي جديد تابع لـ “ناسا” NASA، منذ العام 2015 اسمهSMAP وهو اختصار لجملة “رطوبة التربة النشطة والسلبيةSoil Moisture Active Passive “، وصمم لتوفير قياسات شاملة ومتكررة على مستوى العالم من الرطوبة في أعلى بوصتين (حوالي 5 سنتمترات) من التربة كل 2-3 أيام، وتم مؤخرا تحليل بيانات رصد السنة الأولى لـ SMAP، ويوضح الباحثون في هذا المشروع أن مهمة هذا القمر الصناعي توفير بعض المعلومات الهامة، التي من شأنها أن تساعد في نمذجة المناخ والتنبؤ بالطقس، ومراقبة الزراعة.
ذاكرة التربة
وعلى ما يبدو، فإن هذا المستوى الأعلى من التربة يحافظ على “ذاكرة” للتقلبات الجوية أكثر مما كان متوقعا في وقت سابق، أو من الناحية النظرية، وجاء استخدام الباحثين كلمة “الذاكرة” ليشيروا إلى استمرار آثار هطول كميات عالية أو منخفضة بشكل غير عادي من الأمطار. وخلافا لتوقعات معظم الباحثين، اتضح أن هذه التأثيرات تستمر لبضعة أيام، بدلا من مجرد بضع ساعات، ووجدوا في المتوسط أن نحو سبع كمية الأمطار التي تسقط يظل موجودا وذلك في أعلى طبقة من التربة بعد ثلاثة أيام من هطول الأمطار، وهذه الإستمرارية في تواجد المياه تكون أكبر بكثير في المناطق الأكثر جفافا.
وأشار الباحثون أيضا إلى أن البيانات تظهر تأثيرا كبيرا لردود فعل يمكن أن تُضَخِّم تأثيرات كل من الجفاف والفيضانات، فعند تبخر المياه من التربة الرطبة، فإن الأمر يؤدي إلى تبريد التربة في هذه العملية، ولكن عندما تكون التربة جافة جدا يتناقص التبريد، ما يمكن أن يؤدي إلى سخونة الطقس وتمتد موجات الحرارة لتعمل على زيادة ظروف الجفاف، وقد عرفت هذه الأمور على المستوى الجزئي، وتم قياسها بقياسات عادية كمقياس حرارة التربة ورطوبتها، ولكن لم يتم شمل هذه القياسات على هذا النطاق الواسع، ويظهر هذا الأمر خصوصا على التربة المستنزفة، والمتواجدة في معظم أنحاء الأرض، أما إن كانت التربة بحالة صحية أفضل، وتحتوي على مواد عضوية أكثر، أو ارتفعت نسبة المواد العضوية بنسبة 1 بالمئة، فإن الرطوبة تزداد بنسبة 20 ألف غالون (الغالون 3،8 ليتر تقريبا) في كل آكر من الأرض، وأعطى الكاتب مثالا عن ولاية أوكلاهوما الأميركية التي تبلغ مساحتها 44.7 مليون آكر، ووفقا لمعلومات SMAP فإن سبع الرطوبة تبقى سبعة أيام، كما أن تربة أوكلاهوما ستحتفظ بـ 127.8 مليار غالون من المياه لتستعملها النباتات وتتعرق، وبالتالي تساهم في رطوبة الهواء وفي زيادة هطول الأمطار.
وهذا الأمر مهم للغاية، فهو يظهر إمكانيات الرعي الممنهج في بناء التربة، فالرعي يضيف المواد العضوية بشكل كبير إلى التربة، وبالتالي يحافظ على كميات كبيرة من المياه فيها، وأن هذا الأمر ليس مفيدا بصورة مباشرة لأولئك الذين يعتاشون من هذا الأمر فحسب، بل أنه مفيد لزيادة خصوبة التربة ويقلل من استعمال المحسّنات من أسمدة وغيرها، وبالتالي زيادة الغلال والأرباح، أما الأمر الأهم فيتمثل بزيادة مرونة التربة لمقاومة الجفاف، كما يبدو أنه يساعد على زيادة الأمطار التي يستفيد منها الجميع.
الحلول المتكاملة
وفي اتجاه لتلبية حاجات المجتمعات وإرضائها، يتجه المسؤولون في معظم المشاكل والأزمات لحلول قصيرة الأمد، (مثال ما يحدث في لبنان)، ويتجاهلون الحلول المتكاملة، ما يضيف العبء البيئي على ملايين الأشخاص حول العالم، وقال سافوري “علينا التركيز على التربة أو نهلك، وليس من السهل هذا الأمر مع المئات من المشاهير والنافذين ماليا، وهم يعارضون الشيء الوحيد الذي يمكن القيام به للحد وعكس عملية هذا التصحر والمتمثل بإدارة الثروة الحيوانية بشكل سليم”.