لا يمكن بعد قراءة هذا المقال إلا أن نفكر بما قاله العرب قديما، وما نحفظه عنهم من حكم وأقوال مأثورة، ومنها أن “المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء“، وأن “الطعام نصفه يقيت ونصفه يميت“، وأن نفكر وبعمق بممارساتنا الغذائية والصحية، خصوصا وأنها تؤثر على نحو كبير في تغير بنية أجسادنا ككل.
وفي الحقيقة، لا توجد في أمعائنا أنواع كثيرة من الكائنات الحية المتعددة فحسب، بل إن أعدادها تتجاوز أعداد خلايانا بالتريليونات، وقد أطلق عليها العالم الراحل المختص بالبيولوجيا الجزيئية والفائز بجائزة نوبل جوشوا ليدربرغ Joshua Lederberg تسمية الـ “ميكروبيوتا” Microbiota، وعُرِّفَت بأنها “المجتمع البيئي للكائنات الحية الدقيقة المتعايشة، المتكافلة والمتسببة بالأمراض التي تشترك في مساحة أجسامنا“، ولعل المثير في هذا الأمر أنه أطلق عليها أيضا البصمة الجينية الثانية Second Genome، كون كل فرد منا يتمتع بتنوع حيوي من الكائنات الدقيقة Microbiome داخل جهازه الهضمي وعلى سطح الجسم، وتكون خاصة بكل فرد، بحيث أن تنوع هذه الكائنات وفرادتها في جسم كل شخص تميز بين إنسان وآخر.
وتظهر هذه التسمية Microbiome أهمية هذه الكائنات في الصحة والمرض، وتتواجد بشكل منسجم مع المضيف (الجسم) إلا في حالات المرض، وقد أظهرت الدراسات الحديثة اختلالا في توازن الكائنات الحية في أجسام المرضى في حالات عدة، ابتداء من البدانة وصولا إلى مرض السرطان.
تاريخيا
كان أول من اكتشف البكتيريا في الأمعاء طبيب الأطفال النمساوي – الألماني Theodor Escherich في ثمانينيات القرن التاسع عشر، وسميت تلك البكتيريا لاحقا باسمه Escherichia coli، وتبعها اكتشاف أنواع عدة إلا أن الأبحاث الموسعة على الميكروبيوم البشري انتظرت قرنين لتبدأ في أوائل القرن الحادي والعشرين وتحديدا بعد العام 2007، ليبدأ العمل في مشروع الميكروبيوم البشري العالمي Human Microbiome Project الذي امتد على سنوات خمس، للتعرف على المجتمعات الميكروبية في جسم الإنسان وعلاقتها بالصحة والمرض، وما ساعد هذا المشروع الهام بالتقدم، تقنيات تتبع المادة الوراثية DNA Sequencing Technologies الجديدة، دون الحاجة لزراعة العينات في المختبر، وفي السنوات الثلاث الأولى توصل العلماء إلى معرفة 200 نوعا من البكتيريا، ويقدر العلماء أن يصل العدد بين 900 وألف نوع، ما يجعل جينوم الميكروبيوم متنوعا بصورة هائلة، وعلى سبيل المثال فقد يحمل كف الإنسان حوالي 150 نوعا من البكتيريا، إلا أن 17 بالمئة من أنواع الميكروبات على اليد اليمنى واليسرى تتشابه، و13 بالمئة من البكتيريا تتشابه بين الأشخاص.
التوازن البكتيري والبدانة
وجد العلماء أن أمعاء الأشخاص البدناء تحتوي نسبة كبيرة من ثلاثة أنواع من الكائنات المجهرية، وهي:Prevotella و Firmicutesوالكائنات المنتجة للميثان archaea، مقارنة بالأشخاص ذوي الأوزان العادية، أو الذين خضعوا لعملية تغيير مجرى المعدة Gastric bypass surgery، ويعتقد العلماء أن هذه الكائنات الدقيقة هي أكثر فعالية في عملية استخلاص وحصاد الكربوهيدرات من المواد الغذائية، ليتم تخزينها لاحقا في الجسم على شكل دهون.
كما وجدت الدراسات أن نسبة الـ Firmicutes العالية بالنسبة لنوع من البكتيريا اسمها Bacteroidetes تزيد نسب البدانة، وبالتالي، فإن الأبحاث تتجه لزيادة نسب الأخيرة على حساب الأولى.
وفي دراسة مثيرة للغاية أظهر الفريق العلمي في جامعة كورنيل Cornell University في الولايات المتحدة الأميركية برئاسة الأخصائي بعلم المناعة والكيمياء الحيوية البروفسور أندرو جويرتز Andrew Gewirtz، أن وزن الفئران يمكن تغييره بنسبة تصل إلى 15 بالمئة بتغيير بنية وتنوع البكتيريا في أمعائها، ومع تغير البكتيريا، أظهر البحث إمكانية زيادة نسب البدانة ومرض السكري من النوع الثاني، كما أظهرت دراسات مشابهة أن زرع البكتيريا من أمعاء أشخاص بدناء في فئران، حولها نحو البدانة.
… وضغط الدم
وفي دراسة حديثة نشرت في الدورية العلمية Physiological Genomics، أظهر الباحثون علاقة بين البكتيريا في الأمعاء وضغط الدم المرتفع، وقد استخدم الباحثون مجموعتين من الفئران إحداها مصابة بارتفاع ضغط الدم والأخرى بضغط دم عادي، وتم تبادل زراعة البكتيريا بين المجموعتين في أمعائهما بعد معالجة كافة الفئران بالمضادات الحيوية للقضاء على أكبر عدد من البكتيريا، ولوحظ بعد فترة ارتفاعا في ضغط الدم لدى المجموعة ذات الضغط العادي، بينما شهدت المجموعة الأخرى انخفاضا طفيفا في ضغط الدم.
وهذه النتيجة، وفقا للباحثين، هي “دليل آخر للدراسة المستمرة على الكائنات الدقيقة والجراثيم في تطوير علاجات لارتفاع ضغط الدم لدى البشر، وذلك بدعم دور محتمل للبروبيوتيك Probiotics (الكائنات الدقيقة المفيدة الموجودة في الأمعاء)”، وكتب الباحثون “تبين الدراسات بأن استكمال النظام الغذائي مع البروبيوتيك يمكن أن يكون له تأثيرات متواضعة على ضغط الدم“.
تقول الأخصائية في الجهاز الهضمي ومؤلفة كتاب “الحل الميكروبيومي: الطريقة الراديكالية الحديثة في علاج جسدك من الداخل للخارج” The Microbiome Solution: A Radical New Way to Heal your Body from the Inside Out، روبين شوتكان Robynne Chutkan “إن عدم التوازن في microbiome، أو ما يسمى Dysbiosis، يصيب حوالي 30 مليون أميركي، وتم ربط هذه الحالة بمجموعة من المشاكل الصحية بما في ذلك أنواع معينة من السرطان، أمراض المناعة الذاتية مثل اضطرابات الغدة الدرقية، ومرض التصلب المتعدد Multiple Sclerosis ومرض السكري من النوع الأول، فضلا عن اضطرابات الجهاز الهضمي مثل مرض كرون Crohn’s disease ومرض القولون العصبي Irritable bowel syndrome ، كما وجدت الأبحاث تغيرا في Microbiome الأطفال المصابين بالتوحدAutism “.
وتؤكد شوتكان أن “التنظيف الفائق super sanitizing لبيئتنا من منظفات ومعقمات، ولا سيما استعمال المضادات الحيوية والتي تساهم وحدها بقتل حوالي ثلث الكائنات الحية الموجودة داخلنا، كما أن أدوية أخرى مثل المنشطات والهرمونات ومضادات الحموضة والأدوية المضادة للالتهاب ومسكنات الألم، على سبيل المثال ايبوبروفين ibuprofen، يمكن أن تلحق الضرر بالـ microbiome، ما قد يؤدي إلى تلف بطانة الأمعاء وأجهزة الجسم الأخرى، وتشمل أعراض الخلل في microbiome النفخة، وعدم تحمل الطعام، والطفح الجلدي، الضباب الدماغي ومقاومة إنقاص الوزن“.
وأضافت: “إن استعمال حبوب prebiotics لإعادة التوازن غير مجدٍ، بل على الشخص استبدال النظام الغذائي السريع بنظام يحتوي على prebiotics طبيعي مثل الثوم، والهليون، والكراث والبصل والشوفان والبقوليات، مثل العدس والخرشوف، وكذلك الأطعمة المخمرة مثل المخللات خصوصا مخلل الملفوف، الكيمتشي Kimchi (خضروات مخللة كورية) ما يساهم بإعادة التوازن في microbiome”.
كما أشارت في كتابها إلى عملية زراعة microbiome من البراز Fecal microbiota transplant من مانحين أصحاء لمرضى كعلاج للعديد من الأمراض.
ملاحظات هامة
يشكل ازدياد استعمال الصابون المضاد للميكروبات والمطهرات مشكلة كبيرة لأنها تقتل البكتيريا الجيدة وكذلك السيئة، كما أن الملوثات البيئية سامة للبكتيريا الجيدة تماما كما هي سامة بالنسبة لنا، فضلا عن أن التوتر العصبي يسبب إجهادا للبكتيريا وقد يبدو هذا الأمر غريبا، فكيف يشكل الإجهاد والتوتر العصبي الذي نعاني منه تأثيرا على البكتيريا؟ إن الإجهاد العقلي والعاطفي يتسبب بإفراز هرمونات الإجهاد من الغدة الكظرية Adrenal Stress Hormones، مثل الكورتيزول Cortisol والأدرينالين Adrenaline، وهرمونات التوتر هذه تعمل على الدماغ، وتحفز العصب المبهم أو العصب التائهVagus nerve ، وهذا العصب هو صلة الاتصال بين الدماغ والأمعاء، وهو العصب المشترك بحالات التوتر، ويعمل التوتر على تقليل تدفق كمية الدم اللازمة لعملية هضم الأطعمة وإدارة توازن البكتيريا، إلا أن هذا التوازن بين الدماغ والأمعاء هو طريق ذو اتجاهين، فكما يضر التوتر بعملية الهضم، يؤدي سوء الهضم الى الشعور بتوتر أكبر، وعندما تحصل هذه الحلقة المفرغة تقل كمية البكتيريا الجيدة Bacteroidetes، فتحصل زيادة أسرع في الوزن.
مجالات أخرى
من المتوقع أن يستمر البحث في هذا المجال لتسليط الضوء على الجوانب الأساسية لعلم وظائف الأعضاء البشرية الفيزيولوجيا Physiology، وتعديل التغذية البشرية لجهة تحسين فهم الاحتياجات الغذائية، ما يمكن أن يؤدي إلى تغييرات في التوصيات الغذائية والإنتاج الغذائي، بالإضافة إلى ذلك، يمكن للمعلومات حول الـ microbiome البشري، أن تؤدي إلى تطوير التقنيات في المنتجات الصناعية والعلاجات التشخيصية الجديدة لمجموعة متنوعة من الأمراض التي تصيب الإنسان.