سوريا والعروبة توأمان لا ينفصلان. واحدة منهما تعبر عن الأخرى، والثانية تجسد الأخرى. هكذا كانت سوريا منذ القدم، فيها ممالك الغساسنة والدول النومرية والصفاوية واللحيانية والبترانية، الخ… سكانها لم يتعربوا بعد الفتوح البيزنطية، وإن نزح قسم منهم الى الشمال تعاطفاً مع أتباع دينهم ، بل كانوا عرباً قبل ذلك. ان تقول عربياً أو آرامياً أو كنعانياً هو كأن تقول الشيء نفسه، اختلاف التسميات تعبير عن فروق اجتماعية بين مجتمع رعوي وآخر مستقر. في الحالة الرعوية تسمى الجماعة عرباً وفي الحالة الثانية الحضرية تسميها آراميين. وربما اختلفت الاسماء باختلاف الظروف التاريخية لكل من هؤلاء. سوريا بداهة عربية. العروبة في سوريا حالة قصوى لما هو موجود في بقية الأقطار العربية. يمكن ان يُسلخ الدين الجماعي عن هذه الشعوب العربية، وربما اعتبر البعض ذلك من حسن الحظ. اما الدين الفردي فهو يبقى، وربما اعتبر ذلك من حسن الحظ. تقوم دولة اسلامية في ايران وكذلك في تركيا، في كل منهما يسيطر الدين الجماعي السياسي. يستحيل ذلك في بلد عربي، واذا حاول البعض ذلك، فالحرب الاهلية أمر أكيد. يبدو مستحيلاً عند أكثر العرب اعطاء أولوية للدولة الدينية على الدولة السياسية.

لا تحتاج العروبة الى نظريات قومية هي وجود هذه المجتمعات، وجود ينتج عنه انتماء عربي، ومن يرفض ذلك يحق له ان يكابر. ربما اعتبرالبعض أن للدين أثراً في ذلك، لكن اللغة عامل أشمل وأوسع وأعمق امتداداً زمنياً في التاريخ. وقد رفضت العروبة شتى صنوف هندسة المجتمع، ان كانت قومية (بعثية) او دينية (اخوان مسلمون) او يسارية (ستالينية). كل وجود بحاجة للتعبير عنه. هكذا العروبة، هي تحتاج الى من يعبر عنها ويقول للقائلين بها لا الى من يدعي اعادة فبركتها وصياغتها كي تتخلص من حالها وتنفض عنها غبار الفقر والجهل والمرض وتصير لائقة بحكامها الطغاة أو بقادة حزبيين علمانيين او دينيين.

الخلافة المزعومة أنشئت على العرب. زال اثرها السياسي منذ اواسط العصر العباسي وصارت رمزاً دينياً شكلياً، الى ان الغاها السلاطين العثمانيون في عام 1514 عندما دخلوا سوريا ومصر. قبلها استورد المماليك شخصيات من العراق واعطوها المنصب الرمزي، وكلما تدخلوا في السياسة عوقبوا. استعاد العثمانيون لقب الخلافة بإيعاز من الانجليز في معاهدة كجك كينارجي عام 1774 كتسوية لابقاء السيطرة الرمزية على مسلمي القوقاز بعد ان خضعت للامبراطورية الروسية بعد حرب هزم فيها العثمانيون.

العروبة اهمية هذا الزمن. كرستها في ذلك ميادين التحرير في 2011 وما بعدها. فشنّت حرب عالمية ضدها، تشارك في ذلك انظمة الحكم العربية، ويشارك فيها جهاديو داعش واخواتها. مطلب العروبة هو الكرامة والعيش الكريم. مطلب الدواعش مراعاة ما يعتبرونه شرع الله. وفي حقيقة الامرهو شرعهم، هم نيابة عن الله. ومطلب الدول الاقليمية والعالمية هو محق العروبة وسحقها وجعلها امراً مسكوتاً عنه، يساعدها في ذلك وعي ممزق وجفاف روحي وانتشار طقوس دينية لدى المجتمع. يستهدفون العروبة لأنها مجموعة كبيرة من المجتمعات والشعوب التي تتكلم لغة واحدة وتطالب بما يتناقض مع النظام العالمي، وتصر على ذلك. تعرض نفسها للفناء بسبب هذا الامر، وهي معرضة فعلاً. لن يحميها تعميم لغة القرآن. كتب الانجيل والتوراة بلغات متعددة، مرحلة مرحلة، ولا ندري اللغة الاصلية لكل منهما، او لبعض نصوص فيهما.

مع وجود اسرائيل وبدونها، تتعرض البلدان العربية لحرب دولية مرة كل عشر سنوات. يسكن العرب شواطىء ثلثي المتوسط  ويمتدون الى الداخل القاري في افريقيا وآسيا. اذا توحدوا يشكلون خطراً على من يفترض عداءهم. العروبة انتماء ليس فيه عداء لأحد. هي وجود بشري له حقوق بالتالي له مطالب انسانية وحقوق بشرية. مطلبهم الاساس ان لا يبقوا في أدنى سلم الارتقاء، وان لا يصيروا مزبلة التاريخ، وان ينهضوا بمجتمعهم، وان ينخرطوا في العالم، وان يتبنوا الثقافة الغربية دون انتقائية، وان يصيروا جزءاً من العالم، وان لا يفرض عليهم افكار مزيفة وان لا يمارس البعض باسمهم عمليات مستهجنة كالانتحاريات والقتل العشوائي وغيرهما. انزلقت بلاد العرب الى ما دون المستوى الانساني الحقوقي والمعيشي. يريدون ان يستردوا انسانيتهم، وان يُحكموا بطريقة غير التي تُمارس في بلادهم. يريدون ان لا يكونوا كبش المحرقة في هذا النظام العالمي الذي تشارك فيه انظمتهم الجائرة.

العروبة أمة غير قومية، عبرت عن نفسها بجلاء في ميادين 2011 وحدة شعوبها مؤكدة، انطلاقاً من ذلك. اذا كان من وحدة مطلوبة فهي ستكون وحدة دول، اذا شاءت شعوبها بالطرق الديمقراطية. الخوف من وحدة الشعوب المتحققة، ومن نبضها الواحد في ثورات 2011 هو ما أهاج النظام العالمي ضد العروبة.

لم تكن الامة العربية موحدة قبل الحرب العالمية الاولى. لكن اتفاق سايكس بيكو ساهم في ذلك. كانت روسيا القيصرية شريكة، فضح السوفيات ذلك. ترسم روسيا الآن دستوراً لسوريا منزوع العروبة. هل عادت القيصرية ام ان ذلك اجماع نظام عالمي ؟ ما يسري على سوريا، يعبر عن وجهة نظر لدى النظام العالمي حيال عروبة العرب. نقرأ في الكتب القديمة عن عرب عاربة وعرب مستعربة، وعن عرب عاربة وعرب بائدة. نحن شعوب مختلطة وحدتها اللغة وعملية تعريب انطلقت من بلاد الشام واستمرت قروناً طويلة. العروبة قررها التاريخ الطويل. هل في النية وضع حدّ لهذا التاريخ ؟

أولياء الأمر في هذا النظام العالمي لا يدركون حساسية هوية العرب وارتباطها بمصيرهم الانساني. هل يريدون فرض حلول سياسية هنا وهناك دون الأخذ بالاعتبار هذه الحساسيات. هل يتوقف الصراع وتسكت اصوات المدافع وتتصفى النيات اذا انكرت الحلول السياسية عروبة العرب ؟ هل ينتهز التاريخ فرصة البؤس العربي لإلغاء العروبة ؟ هل يقال للعرب انتم لا تعرفون انفسكم، النظام العالمي يقرر ذلك بالنيابة عنكم ؟ وهل يقال للعرب ارادتكم لا تستحق البحث، ما يراد لكم هو ما تقرره الدبلوماسية الاجنبية ؟ هل يقال للعرب: انتم أمّعات الارض، وما عليكم الا الاستسلام لطغاتكم ولما تقرره المؤتمرات الدولية ؟ هل يقال للعرب: لم نسمع صوت ميادينكم ؟ ليس لكم صوت ؟ الخرس قدركم.

لا ترد العروبة في دساتير الدول ولا في ما يسمى القانون الدولي. عروبتنا يا سيدي ليست شيئاً نختاره أو ننكره، هي شيء ولدنا عليه ولا نقاتل من أجله ولا نناضل من أجل اثباته او انكاره. عروبتنا هي الالتزام بمشاعر ووجدان هذه الملايين التي تعتبر نفسها عربية، ولا خيار آخر، وهي تذبح لأنه ليس لديها خيار آخر. عروبتنا هي حقوق هذه الجماهير التي لا يتسنى لها التعبير عما في نفسها الا في أحيان نادرة، كظهور محمد علي (غير العربي أصلاً) وعبد الناصر الذي لا يهم ما كان أصله، وميدان التحرير الذي نعرف أنه أصل حقيقي في النضال العالمي من أجل حقوق  مليارات البشر الذين لا خيار لهم الا الفقر والعوز والبقاء خارج الفعل التاريخي.

هذا ليس نقاشاً في القومية وافكارها. الافكار تأتي وتذهب. وجود البشر هو موضع الحديث. وجود مجتمعات لا تعرف ان تعبر عن نفسها الا بلغتها العربية. في نزع العروبة محاولة استئصال لهذه الشعوب. حرب ابادة الوعي (التي تحدثنا عنها في المقالة السابقة) تستكمل بحرب طويلة لفرض هوية لا تعترف بها شعوبنا. عرف العرب هويتهم بلغتهم وبالمطالب الانسانية التي رفعوا شعارها في ميادين التحرير. والنظام العالمي يعاقب اصحاب المطالب بالسعي لضرب الهوية بسبب هذه المطالب. يرفضون المطالب فيشنون حرباً ضد الهوية المعتبرة اساسها. هي ليست هوية قاتلة. هي هوية لا يعرف اهلها غيرها، فهي ضرورية لكل حل سياسي. استطاعت هذه الهوية، عبر التاريخ التعايش مع هويات اخرى مثل البربرية والكردية والسريانية، الخ… وهي تستطيع ذلك الآن، فلماذا ازالتها ؟

لماذا يراد ان تكون التسوية السياسية أسوأ من اتفاق سايكس بيكو ؟ للأمة الروسية دولة تفيض عن الأمة الروسية. للأمة التركية دولة ذات اقليات عددها كبير، كذلك للأمة في ايران. هل يعتقد أولياء أمر النظام العالمي ان سوريا العربية لا تستطيع الوجود وفي داخلها اقليات لا تعتبر نفسها عربية ؟ أزمة العرب، في جانب منها، انهم أمة لا دولة لها. مصر، الدولة الكبرى مقيدة بمعاهدة كامب دايفيد. والدول العربية سلطاتها فاقدة الشرعية بسبب جنوحها عن تلبية مطالب شعوبها وهويتها. الجامعة العربية هي منتدى هذه الدول البائسة. تريد الشعوب العربية حلاً، او حلولاً، تريحها من حالة الحرب الدائمة والمتقطعة. يأبى النظام العالمي ذلك، يستكمل ما بدأته اسرائيل: نزع الهوية العربية عن فلسطين بتوسع ليشمل العرب جميعهم.

يريد العرب انخراطاً في العالم لا مواجهة له. لا يستطيعون ذلك الا عن طريق الدولة. الدول العربية فاقدة لمعنى الدولة. لا طريق الى ذلك الا بأن تستجيب دولهم والنظام العالمي لمطالب الشعوب العربية في سبيل الحرية والعيش الكريم والتنمية الحقة. جوهر السياسة هو العمل مع المجتمع، مع الشعوب، ومن خلالها، وفي اطار مطالبها. ليست السياسة في مواجهة الشعوب. الفرق كبير بين ان تكون الهوية في خدمة الناس أو يكون الناس في خدمة الهوية.

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This