نُظمت حملات على مواقع التواصل الإجتماعي مؤخرا، من أجل التوقيع على عريضة عنوانها تزويد بيروت الكبرى بالمياه في فترة الشحائح، أي في نهاية الصيف وبداية الخريف، باعتماد مياه نهر الدامور بدلا من جر المياه من نهر الأولي، إلا أن الحكومات المتعاقبة كانت قد تجاهلت هذا الخيار منذ سبعينيات القرن الماضي، أما “مجلس الإنماء والإعمار” فتابع تنفيذ مشروع شق نفق بطول 24 كيلومترا من نهر الأولي (وهو مسمى غير دقيق كما سيتبين لاحقا) وصولا إلى خلدة والحدث، بالإعتماد على قرض من البنك الدولي بقيمة 200 مليون دولار.
والمفارقة أن مياه الأولي هي إسم “بديل” لمياه الليطاني وهو المشروع الذي أخذ القرض على أساسه، ثم ألغي المشروع وبقي المرسوم، خصوصا بعد ما شاع عن مياه هذا النهر (الليطاني)، وما تحتويه من تلوث، كيميائي، صناعي وجرثومي غير مسبوق، وبمعدلات قياسية، ولو أنه يمكن معالجتها، إلا أن التقديرات الأولية لمعالجة مياه نهر الليطاني أشارت إلى تكلفة لا تقل عن مليار دولار، وعلى الرغم من ذلك، ما زالت مياه هذا النهر تزود المياه لمشاريع عدة.
سد نهر الدامور
منذ سبعينيات القرن الماضي، تقدم العالم الهيدروجيولوجي فتحي شاتيلا بمشروع بناء سد في منطقة الدامور، وتقدر تكاليف هذا المشروع وفقا لشاتيلا بحوالي 153 مليون دولار، بهدف جمع المياه لتزويد بيروت بكمية مياه تقدر بـ 250 ألف متر مكعب يوميا، وبينما تقدر حاجة بيروت للمياه في فترة الشحائح بـ 500 ألف متر مكعب، وفقا لتقديرات “مجلس الإنماء والاعمار”، ومن المقرر وفقا للمخطط الحكومي تزويد بيروت بالمياه لفترة الخمس عشرة سنة القادمة بجر مياه الأولي، عبر نفق وصولا إلى بيروت، وتقدر كمياتها بـ 250 ألف متر مكعب يوميا، بينما يتم تزويد الباقي (250 ألف متر مكعب يوميا) من مشروع سد بسري، وتقدر تكاليف إنشاء سد بسري وفقا لكتاب وضعه “مجلس الإنماء والإعمار” بتاريخ 27/12/2014 بـ 617 مليون دولار، يتضمن الإستملاكات ومحطات تكرير ومعالجة المياه ولا تتضمن كلفة جر المياه إلى بيروت (وافق البنك الدولي والبنك الإسلامي للتنمية على قرض بقيمة 800 مليون دولار لإنشاء هذا السد).
وتشمل هذه التكاليف قيمة الإستملاكات في المنطقة وقدرت بـ 155 مليون دولار، أما جر مياه الأولي فقدرت بـ 200 مليون دولار وحدها.
نجيم: بدعة جديدة
وفي هذا السياق أشار المنسّق العام للإئتلاف المدني والناشط رجا نجيم لـ greenarea.info إلى أن “المشرّعين في الحكومة أطلوا علينا بـ (بدعة جديدة) حملت اسما خاطئا أيضا، عند ذكرهم نهر الأولي لأن مياهه لا تكفي إلا لقسم من منطقة صيدا وجوارها، فقد الغي المشروع الأصلي وهو جر المياه من نهر الليطاني الى بيروت وإنما بقي المرسوم الذي أخذ عليه مجلس الإنماء والإعمار قرضا من البنك الدولي بقيمة 200 مليون دولار”.
وأضاف: “قرروا لاحقاً استعمال هذا المبلغ لنقل مياه نهر الأولي بدلاً من الليطاني (ليبقى المرسوم على ما هو عليه)، والحقيقة أن المياه لن تكون متوفرة لجرّها الى بيروت في هذه الأنفاق بقطر 3 أمتار إلا في حال نجاح مشروع سد بسري “المشكوك بأمره”، وذلك بعد مرورها ببحيرة “جون” حيث تختلط حكماً مع مياه الليطاني (القرعون) ومنها يُكمل النفق طريقه الى محطة تكرير جديدة في “الوردانية” (منطقة إقليم الخروب في الشوف)، فالدامور، فخلدة لتُنقل المياه من هناك إلى الحدث والحازمية بواسطة شبكة مستقلّة، وتوزّع في ما بعد إلى قسم من بيروت الكبرى وفقا للخارطة المرفقة، وقال نجيم: “من جهة أخرى، فإن تكلفة مشروع سد بسري لن تقل عن مليار دولار، فضلا عن تكلفة النفق وتجهيزاته والإستملاكات وشبكات النقل أعلاه التي تقدر بـأكثر من 200 مليون دولار”.
زعاطيطي: الفساد والهدر المالي
وقال الدكتور المختص في الهيدروجيولوجيا وخبير المياه الجوفية سمير زعاطيطي لـ greenarea.info: “إن لبنان واقع على مخزون هائل من المياه الجوفية نسبتها 75 بالمئة من ثروتنا المائية، وتقدر كميتها بـ 3 مليارات متر مكعب سنويا خصوصا ضمن طبقة الجوراسيك Jurassic ، بينما المياه السطحية لا تشكل إلا 25 بالمئة وتقدر بـ 1،3 مليار متر مكعب، كما أن الصخور لدينا ضمن المناطق الجبلية معظمها كارستية Karst تتسرب منها المياه، وهي غير صالحة لإقامة السدود، والدليل هو سد بريصا في الشمال الذي لم يجمع نقطة ماء واحدة حتى الآن”.
وأضاف “اعتمدنا في دراساتنا تقارير ودراسات جيولوجية عدة، منها التي قام بها الفرنسيون بين الأعوام 1938 و1955، وأكدوا من خلالها أن لبنان بلد المياه في الشرق الأوسط، فضلا عن تلميذهم الراحل الكبير (أبو الليطاني) المختص بالجيولوجيا التطبيقية المهندس ابراهيم عبد العال والذي قام بدراسات جيولوجية تطبيقية، ونبه وفي مناسبات عديدة إلى أن جبالنا هي مخازن مياه حقيقية، فضلا عن تقرير الأمم المتحدة للتنمية UNDP في سبعينيات القرن الماضي، وهو المرجع الوحيد حول المياه الجوفية، وأكدت كل الدراسات وجود هذه الكمية الهائلة التي لا تنضب من المياه، وللأسف على الرغم من الهدر في ملف المياه، فلم تتجه المؤسسات العلمية والحكومية إلى دراسات جيولوجية مستفيضة وحديثة لثروات لبنان المائية والبترولية، وكل اعتمادنا على دراسات سابقة، ولكنها هامة لجهة ثروة المياه الجوفية الموجودة في لبنان”.
وتساءل زعاطيطي: “لماذا التركيز على المشاريع الضخمة Macro and Mega projects، مثل السدود الكبيرة، بينما يمكن إيجاد الحلول بمشاريع صغرى Micro projects مثل حفر الآبار الجوفية، هل هو الفساد والهدر المالي؟”، مؤكدا أن “حفر 30 بئرا جوفية يمكنها تغذية بيروت في موسم الشحائح، في مناطق جسر القاضي وبين وادي شحرور وبسوس، لا تتعدى تكلفتها 3 ملايين دولار”، مشيرا إلى أنه “ليس ثمة سياسة وإدارة مائية سليمة في لبنان، ولا تخطيط هيدروجيولوجي أو اطلاع علمي، والتركيز على المياه السطحية وهي جزء قليل من ثروتنا المائية الحقيقية”، واستشهد زعاطيطي بمدن كبيرة مثل صيدا وصور والنبطية ومرجعيون والتي تعتمد على مياه عدد من الآبار الجوفية منذ سنوات دون الحاجة لمشاريع ضخمة كالسدود.
مديونية مالية وبيئية
يتمثل الإتجاه العام في السياسة المائية في لبنان نحو السدود دون رؤية شاملة ودراسات وافية لهذه الثروة، بالإضافة إلى عدم الإتجاه إلى تخفيض الهدر المائي المتمثل في عدم صيانة شبكات المياه، أو استحداث شبكات جديدة، ودون النظر إلى دراسة للآثار البيئية على السكان والتنوع البيولوجي للمناطق ما بعد بحيرة السد، فضلا عن خلق مسطحات واسعة من المياه الراكدة، ما قد يشكل بؤرة للتلوث، ثم أن كمية المياه الناتجة عن السدود هل تستحق كل هذه الأكلاف التي تترسخ ديونا وفوائد ديون، تجتاح اقتصاد البلاد ويترتب عليها مديونية مالية وبيئية ستدفعها الأجيال القادمة.
*أجريت بعض التعديلات على النص والصور المرفقة بتاريخ 11 شباط (فبراير) 20117