تتناقل صفحات التواصل الإجتماعي الأخبار بسرعة، وهي تفوقت بذلك على كافة وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، خصوصا وأنها تصل خلال ثوان إلى كل مكان في مختلف أرجاء العالم، بالمقارنة مع التلفزيون والراديو والصحيفة، وقد أدى شيوع استخدامها إلى ظاهرة يجوز تسميتها بـ “الإلهاء الشامل”، حيث تلاشى التواصل النظري eye to eye contact بين البشر، ليحل مكانها أفراد عيونهم شاخصة إلى شاشات هواتفهم النقالة أو الكمبيوتر اللوحي، يتواصلون مع أشخاص حول العالم في فترة زمنية قصيرة، وكأن العالم صار في متناول أيديهم، بينما تجدهم لا يتواصلون مع من حولهم إلا لماما.
لكن لهذا الأمر سلبيات عدة، فالخبر قد يكون حقيقيا، ولكن من جهة ثانية قد يكون مغلوطا، أو يحمل جزءا يسيرا من الحقيقة، وفي هذا المجال، تناقلت صفحات موقع التواصل الإجتماعي “فيسبوك” Facebook صورة لعدد كبير من الأسماك النافقة على أحد الشواطئ التونسية، ليتبين لاحقا أن هذه الأسماك قد جنحت في البرازيل، وبالتحديد في “شاطئ الصاروخ” Praia do Foguete التابع لمنطقة Cabo Frio قرب مدينة ريو دي جانيرو، وامتدت على طول كيلومترين، وأثارت هذه الصورة مناقشات عدة على الصفحة الخاصة للناشط البيئي المصري وعضو في جمعية الإنقاذ البحري وحماية البيئة المهندس سيد فوزي، ,والتي بدوره نقلها عن صفحة صديق تونسي بأنها من تونس، ما فتح الباب لتكهنات عدة، خصوصا أن هذا الأمر لم تذكره وسائل الإعلام التونسية، ولم تعقب عليه أي مراجع علمية، وإن كان مشهد الأسماك النافقة يدل على تفسخها على الشاطئ نتيجة صيدها ربما بوسائل غير قانونية.
نظريات عدة
بالبداية كان التعليق للخبير في الأحياء البحرية في الجامعة الأميركية في بيروت البروفسور ميشال باريش وقد أعاد نشر الصورة على صفحة Mediterranean Marine Life، وهي صفحة مختصة للحياة البحرية في حوض البحر المتوسط، نقلا عن صفحة الناشط المصري، وأكد باريش في حديث لموقعنا greenarea.info أن “هذه الصورة منقولة عن صفحة الناشط، ولكن ليس ثمة تأكيد للمعلومات الموجودة، أي إن كانت الصورة من تونس، فلم يأتِ تعقيب من الخبراء التونسيين، خصوصا أن السمكة موجودة أيضا البحر الأبيض المتوسط، وقد تكون Triggerfish وتحديدا the Grey Triggerfish واسمها العلمي Balistes capriscus، أما اسماؤها الشائعة بين الصيادين والبحارة فهو “خنزير، منفخ ومبرد”.
وشكك باريش بإمكانية تواجدها بهذه الأعداد الكبيرة في مياه البحر المتوسط، وقال: “توجد عادة في مجموعات من 7 أو 8 أسماك، ولم نشاهد مثل هذه الأعداد الكبيرة في مياهنا”.
وقد رجح البعض الصيد باستعمال وسائل الصيد غير القانونية مثل التفجير بالديناميت وغيره من المواد المتفجرة، وقد أشار البعض إلى أن السبب قد يكون مرضا أصاب هذا النوع من الأسماك، خصوصا وأن الأسماك النافقة من نوع واحد، أو تسمم بالطحالب السامة أو غيرها، وأكد باريش أنه “من غير المعقول أن يرمي الصيادون هذه الكمية من الأسماك خصوصا أن لها قيمة تجارية”.
وأتى الرد على الصورة من تونس، وبالتحديد من الخبيرة في العلوم البحرية والبيئية وعلم المياه البروفسورة جميلة بن سويسي صويلح Jamila Ben Souissi Souilahالتي أكدت أن “هذا المشهد ليس من تونس”، وهو ما أكده البروفسور باريش لاحقا، بمشاركته برابط خبر من البرازيل بتاريخ 11 شباط (فبراير) 2017.
وجاء في الخبر الذي نشر في الصفحة الإخبارية “هواة الصيد” Pesca Amadora البرازيلية أن هذه الأسماك من نوع caparico، وهي تسمية أخرى لسمكة Triggerfish، وتوجد أيضا في المياه البرازيلية قرب ريو دي جانيرو في المحيط الأطلسي، مرجحا أن يكون السبب التخلص غير القانوني من الأسماك، أو أن الشبكة علقت خلال إعادة سحبها، وإن كان الموقع يتبنى الترجيح الثاني.
وقال الهاوي في الصيد الذي التقط الصورة روبيرتو بمنتل فريرا Roberto Pimentel Ferreira على صفحته الخاصة على موقع التواصل الإجتماعي “فيسبوك” واصفا المشهد “إنه سيناريو مرعب، مع بزوغ الفجر، على شاطئ الصاروخ Praia do Foguete في كابو فريو Cabo Frio، وفي منطقة البحيرتين dos Lagos قرب ريو دي جانيرو، فاجأ مرتادي الشاطئ منظر أسماك خنزير البحر (بالبرتغالية peixe-porco وبالإنجليزية (porkfish على امتداد كيلومترين، فهل هي من الظواهر الطبيعية أو نفايات من بقايا الصيادين عديمي الضمير؟ كما جرت العادة، فنحن لن نعرف الحقيقة، ويستمر الصيد في البرازيل دون إدارة أو اتجاه”.
سمكة الخنزير
تنتشر سمكة خنزير البحر الرمادية Grey triggerfish، Balistes capriscus في كثير من المسطحات المائية، خصوصا غرب المحيط الأطلسي من منطقة Nova Scotia في كندا، وأيضا في الأرجنتينArgentina ، كما توجد في شرق المحيط الأطلسي وفي البحر الأبيض المتوسط وصولا إلى أنغولا Angolaفي أفريقيا، وهي سمكة صغيرة نسبيا يصل طولها إلى 60 سنتمترا ووزنها إلى 2،3 كيلوغرام، إلا أنها تعتبر غذاء بحريا ممتازا.
وتتميز هذه السمكة بفم يشبه المنقار، مع شفتين مكتنزتين، وتقع العينين في أعلى الرأس جسدها مفلطح نسبيا، وسطحها يشبه الجلد، وتحتوي الزعنفة الظهرية ثلاث أشواك، الأولى هي الأطول وهي شوكة حادة وقوية للغاية، وهي من الأسماك القاعية Demersal ، ويتألف غذاؤها عادة من الحيوانات في قعر المسطحات المائية التي تعيش فيها، مثل القريدس، سرطان البحر، دولار الرمال (نوع من نجم البحر) Sand dollar، الرخويات، قنافذ البحر، نجم البحر وخيار البحر، واكتشف العلماء طريقة تغذيتها المميزة، حيث تقوم بعمل ثقب في جسد الفريسة الصلب بواسطة أسنانها القوية، وفي حالة “دولار الرمال”، فهي تنفخ الرمال لتكشف مكان فريستها، ثم تقوم بحمله ورميه عدة مرات حتى يقع على جانبه الظهري، لتقوم بفتح ثقب فيه وافتراسه.
الظلامة البيئية
يبدو مما سبق أن الصيد غير المستدام هو وباء عالمي، لم تستطع الدول المختلفة أن تمنع استشراءه بهذا الشكل غير المسبوق، ما يهدد التنوع البيولوجي، ويظهر جانبا عنيفا آخر من حالات نفسية شاذة، لأنه بالمقابل، فإن التعاطف العالمي أيضا لصورة وخبر صغيرين، والكم الذي أثاره الخبر من حمية لدى الناشطين البيئيين من علماء وناشطين للبحث والتدقيق، هي ظاهرة أصبحت تنتشر في دول العالم، ومنشؤها الوعي البيئي والعلمي المنتشر، ولا سيما إثر الظلامة البيئية التي ينتهجها من يبتغي الربح السريع وبشتى الوسائل.