اعتبرت بحيرة أوروفيل Lake Oroville في شمال كاليفورنيا، وهي ثاني أكبر بحيرة اصطناعية في الولايات المتحدة الأميركية، عنوانا للجفاف الذي تعرضت له ولاية كاليفورنيا خلال الأعوام السابقة، بسبب “سد أوروفيل” (أطول سد في الولايات المتحدة الأميركية) وقد شيد في العام 1968، إلا أن موجة الجفاف الشديدة والتي تركت آثارا مدمرة على صعيد هذه الولايات لأكثر من أربع سنوات، أعقبتها فيضانات وسيول منذ الأول من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، بسبب متساقطات وصلت إلى ضعفي معدلها في هذه الفترة، ما أدى إلى تضرر كبير في القناة المركزية المخصصة لتصريف مياه السد، وبسبب الخوف من انهيار قناة صرف احتياطية بعد ضرر لحق بجزئها الأعلى نتيجة تدفق المياه بغزارة، فقد تم إعلام القاطنين في أسفل مجرى النهر بضرورة الإخلاء خلال ساعة فقط!

فيديو

https://www.youtube.com/watch?v=ETC8WagDOEU

حالة طوارئ

 

وقد أدى اندفاع الناس الغاضبين والمذعورين للخروج من المناطق المهددة بسبب السد، وقدرت أعدادهم بحوالي 190 ألف شخص، إلى اكتظاظ في الطرق الرئيسية والسريعة وبقاء الناس ساعات وسط حركة المرور الكثيفة، وهذا الأمر أثار تساؤلات حيال ما يمكن أن يحدث في حالة طوارئ حقيقية في مناطق ما بعد السدود في أميركا وحول العالم.

من جهة ثانية، فإن حالة الجفاف المستشرية في المنطقة طوال الفترة الماضية، كشفت أرض البحيرة التي احتوت العديد من القطع الأثرية لسكان البلاد الأصليين من الهنود الحمر، ما استقطب عددا من الهواة وعلماء الآثار لدراستها، إلا أن هذا الأمر تحول إلى النقيض يوم الثلاثاء الماضي في 14 شباط (فبراير)، فبعد هطول الأمطار بغزارة خلال نهاية الأسبوع تجمعت المياه وارتفعت إلى فوق مستوى قناة تصريف المياه، أما “التآكل الحاصل في بنية قناة التصريف الرئيسية، دفع المسؤولين إلى طلب الإخلاء من المواطنين ما بعد السد” وفقا للفرع المحلي لوكالة CBS News الإخبارية.

وقال المهندس إريك هولاند Eric Holland من “مصلحة الموارد المائية في كاليفورنيا” California Department of Water Resources قسم سلامة السدود Division of Safety of Dams “في كثير من الأحيان لا تكتشف السلطات ما حدث بالضبط، لأن مياه الفيضان تجرف كل شيء في مكان الحادث”، وأكدت مصادر أن التحقيق قد يأخذ أشهرا لتبين الأسباب، كما قال دوغ كارلسون من المصلحة إنها “سنة عالية بالرطوبة، ففصل الشتاء يشهد متساقطات كبيرة بشكل ملحوظ، وقد يؤدي هذا إلى عواقب عديدة وقد تكون خطيرة”.

ووفقا لصحيفة “لوس أنجلس تايمز” Los Angeles Times “فمن المتوقع حدوث عاصفة خلال فترة نهاية هذا الأسبوع مع إضافة عشرات الملايين الأمتار المكعبة من المياه إلى الخزان القائم خلف السد ما يجعل مسؤولي المياه في سباق مع الزمن”، وأضافت الصحيفة “إن أكثر ما يثير القلق أن أحد التلال التي تحافظ على المياه في بحيرة أوروفيل قد تنهار نتيجة ضغط الأمطار الهاطلة، ما يهدد حياة الآلاف من الناس من الفيضانات فى اتجاه مجرى النهر”.

وأظهرت السجلات أن هذه النقطة من القناة تمت صيانتها في العام 2013، وليس ثمة معلومات عن الصيانة التي تمت.

وأفادت وكالة أنباء “ميركوري” The Mercury News المحلية في ولاية كاليفورنيا أن تحذيرات بضرورة صيانة بنية السد، خصوصا قناة التصريف قد تقدم بها ناشطون بيئيون ينتمون لثلاث جمعيات بيئية، وهي: أصدقاء النهر Friends of the River، نادي سييرا  Sierra Club، ولجنة سكان نهر يوبا  الجنوبي South Yuba River Citizens League منذ تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2005، إلا أن المسؤولين في الحكومة وفي دوائر المياه في الولاية، تجاهلوا هذا الأمر.

وتم بناء قناة التصريف لتتحمل 200 ألف قدم مكعب من المياه في الثانية، إلا أنه وفقا للحادثة الأخيرة لم تتحمل إلا 5 بالمئة من هذه الكمية، وهي 10 آلاف قدم مكعبا من المياه في الثانية، ولفتت وكالة أنباء ميركوري إلى أن ” التخوف من تآكل الجزء العلوي من قناة تصريف الطوارئ، قد يسمح للمياه أن تتدفق أسفل التلال نحو مدينة أوروفيل وغيرها من المدن الواقعة على المصب”.

وأشارت المعلومات إلى أن المسؤولين تابعوا إزالة الأنقاض والأشجار التي سدت مجرى القناة، وعملوا على تخفيض مستوى المياه، وتزامن هذا الأمر مع عطل في معمل الطاقة الكهربائية أوقفه عن العمل، كما ينوي المسؤولون سد الثقوب في قناة التصريف الإحتياطية بإنزال صخور على شكل مستوعبات باستعمال طائرات مروحية.

 

تفسيرات متناقضة!

 

عادة، فإن كمية كبيرة من الأمطار في موسم الشتاء تبقى مجمدة في أكوام الثلوج في أعالي الجبال حتى الربيع، ولكن هذا العام، مع نسب هطول الأمطار الغزيرة والدافئة فقد ذابت معظم الثلوج التي هطلت، بعد وقت قصير، وقال كارلسون “تصل بحيرة أوروفيل إلى أعلى مستوى لها في شهر حزيران (يونيو)، أي بعد ذوبان الثلوج، والوصول إلى مثل هذه الذروة في منتصف شهر شباط (فبراير) هو أمر غير عادي”، وثمة مخاوف كبيرة من انهيار قناة التصريف الثانوية، خصوصا مع توقع هطول المزيد من الأمطار في وقت لاحق هذا الاسبوع.

ورأى أستاذ الهندسة في “معهد بحوث سييرا نيفادا” التابع لجامعة كاليفورنيا روجر بالز  Roger Bales أن “زيادة منسوب المياه في بحيرة أوروفيل يعود جزء منه إلى تغير المناخ”، وأضاف أنه “لا يتطلب الأمر الكثير من الاحترار المناخي لتغيير العواصف الثلجية إلى عواصف ماطرة”، مؤكدا أنه “مع مناخ أكثر دفئا، حصلنا على هذه العواصف في فصل الشتاء، التي تتسبب بهطول الأمطار بدلا من الثلوج”.

إلا أن الباحث في علم الهيدرولوجيا في |هيئة المسح الجيولوجي الاميركية” United States Geological Survey مايكل ديتنجر Michael Dettinger  فقال: “إن الأمر له تفسير علمي”، وأضاف “إن التقلبات في معدل هطول الأمطار من سنة إلى سنة في ولاية كاليفورنيا على نطاق واسع من الرطوبة حتى الجفاف هي أعنف من أي مكان في البلاد، وقد كانت كذلك دائما”، مؤكدا أنه “بالتحليل العلمي فإن 40 بالمئة من موجات الجفاف الموسمية في شمال الولاية، انتهت بعواصف مطرية مفاجئة، ونقلت الحال من جفاف متطرف إلى رطوبة عالية للغاية في أيام قليلة”، وشكك ديتنجر في “المبالغة في تفسير سبب الحدث في بحيرة أوروفيل بأنه تغير مناخي”، مع اقتناعه أن تغير المناخ سوف يضخم دورة الجفاف والفيضانات، إلا انه غير مقتنع أن تغير المناخ كان له أثر حتى الآن، إلا أن السكان في مركز الإجلاء في إقليم غلين Glenn County في مدينة أورلاند  Orlandأكدوا لوكالات الأنباء العالمية أنهم “مقتنعون بأن السبب هو تغير المناخ”.

يذكر أن السكان بدأوا بالعودة إلى منازلهم بعد عمليات الصيانة، إلا أن مخاوف من انهيار في السد لا زالت قائمة، مع تحذير بأن عملية الإخلاء قد تحدث فجأة.

 

مطالب الجمعيات البيئية

 

وطالب المدير التنفيذي في جمعية “أصدقاء النهر” البيئية إيريك ويسيلمان Eric Wesselman ومسؤول السياسة العامة في الجمعية رون ستورك Ron Stork في مقالة في موقع San Francisco Chronicle بضرورة “التوقف عن بناء المزيد من السدود لتجنب الكوارث”، وأشارا إلى تساؤل العديد من السكان “عن سلامة السدود الأخرى الموجودة، وعن كيفية وجهوزية مواجهة الحكومة للمشاكل إن حصلت، وعما يمكن القيام به لضمان وجود نظام مياه آمن وموثوق به، يمكن أن يحمي المجتمعات والأنهار التي تتدفق من خلالها”، وأنه “يجب على كاليفورنيا الاستثمار في حلول المياه المبتكرة للقرن 21 التي تنوع في أنظمة المياه لدينا وتعمل مع الطبيعة بدلا من ضدها”، وقال الناشطان أن تحذيرات الناشطين البيئيين من عدة جمعيات ومنها “أصدقاء النهر” تم تجاهلها لمدة 12 سنة، خصوصا بالنسبة لأطول سد في البلاد، سد أوروفيل، و”لكن على المسؤولين الآن الإستماع إلينا”.

وأكد الناشطان أن ولاية كاليفورنيا تأرجحت بين فترات من الجفاف والأمطار الشديدة التي يمكن أن تؤدي إلى فيضانات كبيرة، وقد ساهم تغير المناخ بجعل هذه التحولات بشكل متزايد وأكثر تطرفا، وأكدا على ضرورة “إزالة السدود غير الآمنة أو وقف تشغيلها إن لم تعد تخدم المصلحة العامة، وأن الاعتماد على حلول وأفكار القرن العشرين مثل بناء سدود جديدة لم يعد ببساطة يفيد”.

وأشار الناشطان إلى أنه “على مدى القرن الماضي، بنت ولاية كاليفورنيا شبكة واسعة من أكثر من 1400 سد، على الرغم من أن بناء المزيد لن يساهم في الحد من مخاطر الفيضانات أو زيادة إمدادات المياه، ولكنه سيكون إضافة لمليارات الدولارات من الديون للجيل القادم، فضلا عن تدمير أنهارنا”، وأمل الناشطان في “العمل على تخطيط البنية التحتية من قبل إدارة (دونالد) ترامب وولاية كاليفورنيا، وأن تكون أولويات التمويل اللازم بغرض صيانة المنشآت الموجودة بدلا من إضاعة مليارات الدولارات على السدود الجديدة، والتي لا توفر أكثر من صور تذكارية للسياسيين وهم يقومون بقص الشريط لافتتاح السدود”.

وطالب الناشطان بالعمل على 4 جبهات، أولها: ضرورة تحديد السدود الخطرة ودعمها وصيانتها والسيطرة على الفيضانات بشكل فعال، فضلا عن منع بناء سدود جديدة والعمل على إزالة بعض السدود الخطرة، ثانيا: الاستثمار في مشاريع مانعة للفيضانات مثل “معبر يولو” Yolo Bypass، وأن بناء مثل هذا المعبر ساهم بعدم إجلاء منطقة ساكرمنتو، ثالثا: توظيف حلول مستدامة وذات كفاءة لإمدادات المياه، للحد من المخاطر المرتبطة بالإفراط في الاعتماد على السدود بهدف السيطرة على الفيضانات وتوفير المياه، وأشار الناشطان إلى دراسة لمعهد المحيط الهادئ Pacific Institute، وهي منظمة مستقلة في السياسة المائية، وقد وجدت في دراسة أنه يمكن توفير ما يصل الى 14 مليون فدان – قدم (وحدة قياس الماء في مساحة من الأراضي) في السنة من المياه غير المستغلة في ولاية كاليفورنيا، وذلك بإعادة تدوير المياه وجمع مياه الأمطار، فضلا عن الممارسات الموفرة للمياه، وإن تحقيق 10 بالمئة فقط من هذه الإحتمالات من شأنها زيادة إمدادات المياه بمقدار ضعفي ما تحققه السدود الجديدة المقترحة، ورابعا: التوقف عن تشجيع التنمية والعمران في السهول الفيضية  خلف السدود، وتشجيع الناس على الابتعاد عنها.

 

إسقاط على الواقع اللبناني

 

في لبنان، فإن السياسة المائية في لبنان، إن صح تسميتها بهذا الإسم، تتجه بشكل مضطرد نحو حلول ليست غير مدروسة فحسب، بل إنها ليست مستدامة أو اقتصادية على المدى القصير والطويل، فعلى الرغم من تلبية سد القرعون للحاجات المائية في البقاع، يشكل حاليا بؤرة تلوث بيولوحية وكيميائية وصناعية، بحيث تكلف معالجة مياهه، أكثر من مليار دولار، أما السدود الأخرى فقد فشل بعضها في تلبية توفير المياه، منها سد بريصا الذي لم يحتفظ بالمياه ، فضلا عن تسرب المياه بنسب كبيرة (200 ليتر / ثانية) في “سد شبروح”، أما السدود الجديدة المنوي إنشاؤها فلا تخلو من المعوقات والمخاطر، فسدي “بسري” و”جنة” تحت عنوان “تغذية بيروت بالمياه” هما قائمان على مساحات ذات طبقات نافذة بحيث تتسرب المياه الى جوف الأرض، وهذه الطبقات تتنوع منها رملية وكلسية متفسخة ومشققة كارستية وأخرى من الجرفيات والترسبات النهرية، أما بالنسبة ل”سد جنة” على نهر إبراهيم فإن ثمة مخاطر  إضافية باستنزاف مصادر المياه الجوفية التي تغذي نبع جعيتا وبنسبة كبيرة ما قد يتسيب بنقصان كميات المياه الى النصف، بالإضافة إلى أن هذين السدين يهددان بإزالة كميات كبيرة من الأشجار تُعد بمئات الألاف، وتهدد النظام الإيكولوجي والتنوع البيولوجي والنباتي الفريد وتؤثر على المناخ فترفع نسبة الرطوبة ضمن مناطق المسطحات المائية التي سيتم إنشاءها فضلا عن زيادة في كميات الإنبعاثات المتوقعة من أي مسطح مائي راكد، كما ان ما لذلك من أضرار صحية محتملة على الأهالي ضمن المجتمعات القائمة حول سهولها لجهة انتشار الحشرات والتلوث، ويضاف إلى ذلك ما لتغيير طبيعة الأرض ونوعية ومستوى المعيشة، من تهديد بهجرة السكان إلى المدن وترك البيئة الزراعية نتيجة تقلص المساحات الزراعية بدرجة كبيرة، بسبب استملاكات السدود، أما الخطر الأهم فيتمثل في أن سد وبحيرة بسري واقعان في قسمه الشمالي ضمن إطار خط إتصال الصفائح التكتونية البحرية مع البرية (Mt Lebanon Thrust) وفي القسم الجنوبي منه ضمن مجال فالق روم “المتحرك” والمتصل مباشرة بفالق اليمونة، فهو على بعد بضعة مئات من الأمتار من نقطة إرتكاز الهزات الأرضية الدائمة في المنطقة (جوبة بسري)، وهذا الواقع الثابت يهدد بنشاط زلزالي قد يقوض بناء السد ويؤدي الى انهيار جوانب وأرضية حوضه كما يهدد منشأة السد نفسها، وهذا شبيه بسيناريو سد أورفيل بالمقابل فـ”سد القيسماني” الواقع في أعالي حمانا، يقع في منطقة ذات نشاط زلزالي وطبقات صخرية كارستية لا تحفظ المياه، وإن حصل واحتفظ بالمياه، فقد يهدد المنطقة تحت مجرى المياه كبلدة حمانا وغيرها بفيضان في حال حدوث انهيار في جدار السد ناهيك عن تلوّث مياه الشاغور ونبع حمانا كما يحصل اليوم، لذا على المسؤولين ان يتماشوا مع تطور العلم “والّا يكونوا رايحين الى الحج والناس راجعين منه”، والنظر في حلول مستدامة حديثة ومبتكرة لكن مع أولوية المحافظة على البيئة وحمايتها لكي تساهم بتوفير كميات كافية من المياه النظيفة بعيداً عن مياه السدود العكرة والتي قد تصبح آسنة نتيجة ركودها، وألا نوقع لبنان في الحلقة المفرغة من الإستدانة وفوائدها بالتوازي مع تدمير طبيعته وبالإضافة إلى الإحتراز والوقاية من نتائج التلوث والتبخر والتسّرب لمياه السدود كما لمخاطر انهيارها.

 

 

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This