“ساهم الجفاف الكارثي في سوريا في الفترة بين الأعوام 2007 و2010 في تهجير أكثر من مليون شخص وفي تأجيج الصراعات خصوصا الحرب الأهلية في سوريا”، هذا ما أشارت إليه دراسة بحثية حديثة صدرت عن جامعة ريدينغ The University of Reading البريطانية، ونشرت في الدورية العلمية Geophysical Research Letters journal، كما أكدت “أن الأسوأ لم يأت بعد”.
لا شك أن للجفاف تبعات عدة على المجتمعات، في الماضي والحاضر، وقد كشفت البيانات التي جمعها الفريق العلمي من صخور الصواعد Stalagmite في زيارة علمية لدولة العراق، بعد استخدام هذه العينات لتقديم أول إعادة بناء للمناخ بتفصيل أكثر من أي وقت مضى، لأهم منطقة للزراعة في الجزء الشرقي من منطقة الشرق الأوسط، أو ما يسمى بـ”الهلال الخصيب” Fertile Crescent، وقد شملت الدراسة 2400 سنة من التاريخ الحديث، وأكدت الدراسة “أن طرق البحث السابقة مثل النماذج المناخية وحلقات الأشجار يمكن أن تكون قد قللت من شدة الجفاف الذي من المحتمل أن يضرب المنطقة في المستقبل”.
الكهوف القديمة
تعود سجلات الأرصاد الجوية في منطقة الشرق الأوسط إلى ما بين 50 إلى 100 سنة خلت، لذا قام الفريق العلمي الميداني برئاسة عالمة الآثار المختصة بالشرق الأوسط الدكتورة باسكال فلوهر Dr Pascal Flohr، المشاركة في هذا البحث، بتنفيذ ما يقرب من 25 ألف اختبار على الصواعد بطول 38 سنتمترا تم جمعها من كهف Gejkar في شمال العراق، وذلك بأخذ القياسات من طبقات من المعادن المترسبة عبر الزمن، والتغيرات في كمية الأمطار، فتمكنوا من إعادة إعداد تصور مناخي مفصل للجزء الشرقي من المنطقة الزراعية الأكثر أهمية بالشرق الأوسط، أو “الهلال الخصيب” كما يطلق عليها، فضلا عن التغيرات في المناخ على مدى آلاف السنوات الماضية، وقد سمح هذا الأمر للفريق العلمي بمعرفة المزيد حول توقيت ومدة وشدة الجفاف في الماضي القريب بتفاصيل غير مسبوقة، ويعتقد العلماء أن التوقعات من قبل العلم قد تكون قد قللت من تقدير شدة الجفاف المحتمل في منطقة الشرق الأوسط في السنوات المقبلة.
وقالت فوهلر لصحيفة الـ “دايلي ميل” البريطانية ان “الجفاف الأخير تسبب بنزوح 1.5 مليون شخص إلى مناطق مختلفة في سوريا للحصول على الغذاء والعثور على عمل”، وأضافت: “لم يكن هذا الجفاف عاديا – كان الأشد خلال الألف أو ألفي سنة الماضية”.
وبين البحث أن فترات الجفاف المدمرة في الفترة بين الأعوام 1998 و2000، والأعوام 2007 و2010 كان الأشد خلال الـ 1100 عام الأخيرة، ويعتقد العديد من العلماء أن هذا الأمر ساهم في الاضطرابات التي شهدتها سوريا في السنوات الأخيرة، ووجد الباحثون أن المناخ أصبح أكثر جفافا منذ القرن الـعاشر، وقد فشلت النماذج المناخية في إظهاره على مدى السنوات في القرون الثمانية الماضية.
العاصفة المثالية للتغيير المجتمعي
وقال رئيس المشروع الباحث في علم الآثار Archaeology وعلم المناخ القديم Paleoclimatology البروفسور دومينيك فلايتمنProfessor Dominik Fleitmann: “إن استخدام الصخور الصواعد stalagmites التي تتشكل تحت سطح الأرض بعد هطول الأمطار فوق الكهف، لدراسة المناخ قد يظهر على أنه أمر غريب، ولكن من خلال اخذ قياسات لطبقات المعادن في هذه الصخور، والتغيرات فيها التي تبين تذبذب كمية الأمطار يمكننا إعادة بناء أنماط المناخ من سنة حتى مئات الآلاف من السنوات الماضية”، وأضاف: “لقد وجدنا أن حالات الجفاف الأخيرة، مع الطلب المتزايد على المياه في سوريا والعراق بسبب النمو السكاني السريع، قد خلق العاصفة المثالية للاضطراب المجتمعي”.
ويعاني الشرق الأوسط الآن من أكبر نسبة عجز في المياه في العالم نظرا لعدد السكان المتزايد، فضلا عن زيادة الطلب على المياه، بالإضافة إلى تغير المناخ، وتعتبر هذه المنطقة (الهلال الخصيب)، التي تغطي أجزاء من العراق، سوريا، لبنان، الأردن، وفلسطين، هي المنطقة التي بدأت فيها الزراعة وظهرت أولى الحضارات منذ عدة آلاف سنة.
واستخدم فريق البحث طرقا مبتكرة في التحليل الكيميائي في جامعة ريدينغ، بما في ذلك قياسات النظائر Isotopes وهي طرق دقيقة لمعرفة المزيد حول توقيت ومدة وشدة الجفاف في الماضي القريب، وبتفاصيل لم يسبق أن تم الحصول عليها من قبل.
وقالت الدكتورة فلوهر: “خلافا لحلقات الأشجار وطرق المحاكاة Simulation الحالية، فإن هذه الصواعد تبين لنا الصورة الأكبر والأكثر اكتمالا حول الاتجاهات المناخية في منطقة الهلال الخصيب”، وأشارت إلى أن “هذا الأمر يكشف الجفاف استمر لعدة عقود، والتي يمكن أن يكون لها تأثير تراكمي ومدمرا على المجتمعات الضعيفة”.
ويعمل الفريق على كهوف أخرى في الشرق الأوسط في دول مثل تركيا وإيران والمملكة العربية السعودية، وذلك باستخدام نفس المبادئ بهدف الوصول لفهم أفضل للمناخ.
ويأمل العلماء أن تساعد نتائج هذه الدراسة على تحسين التنبؤات الجوية، فضلا عن تشجيع سياسات إدارة مياه أكثر مسؤولية في المستقبل وفي التخفيف من آثار الجفاف الضخمة في المستقبل.
وختمت فلوهر: “إن التعداد السكاني يرتفع وهناك مياه أقل وأقل، وستكون الأوضاع صعبة للغاية”.