قالوا إنّ حرش بيروت أصبح (عاد) لكلّ الناس. مرحى مرحى، فرِحنا، وقلنا لنذهب إليه. هناك، هجمت علينا الكلاب “الشاردة”! أب وطفله يمشيان تحت صنوبر “الغابة” العتيقة، فإذا بكلاب شرسة، نباحها أشبه بالزمجرة، تركض نحوهما. ظنّها الصغير تلاعبه، فتقدّم نحوها، لولا أن سحبه والده. وقفت مكشّرة عن أنيابها. لم تبتعد إلا بعد رشقها بالحجارة، وردّ العواء بعواء، والتكشير بتكشير، مع ترديد “وشت وشت وشت”.
قُضي الأمر. ضُرِب المزاج. لنعد إلى المنزل. عليك أن تستكلب قبل أن تأتي إلى الحرش. عند البوابة، سأل الوالد “حرس البلديّة” عن وضع الكلاب في الداخل، فقالوا “عادي يا زلمي”. قالوا أيضاً، بعد إلحاح، إنّهم تحدّثوا سابقاً مع إحدى جمعيّات “الرفق بالحيوان” لإخراج الكلاب، فجاء مندوب الجمعيّة، عاين القضيّة، ثم “ذهب ولم يَعُد”. واحد مِن الحرس قال: “لا تخف مِنها، إنّها تعوي فقط، حرّك لها رجلك أو ارمها بحجر، فإنّك تجدها تهرب”. شُكراً. ألن توزعوا على الناس منشوراً توجيهيّاً لكيفية التعامل مع تلك الكلاب؟ هذا السؤال الذي لم نطرحه. لم تكن الحادثة الأولى التي تحصل. لقد وصلت الرسالة. عليكم أن تخافوا مِن الحرش. في الفصحى هو الحرج، ولكن الغالب، في المحكيّة، أن يُقال “الحرش”.
بعدها بأيّام، في حادثة أخرى، يُقرّر جمال اصطحاب خطيبته الأجنبيّة، وهي في زيارة لبيروت، إلى ذاك المكان. وقعا في “كبسة” الكلاب. ما يحصل أشبه بكمين. تختبئ تلك الكائنات بين الأشجار وتنقضّ فجأة. خطيبة جمال تسمّرت في أرضها. تقدّم هو أمامها، حماها، فصار وجهاً لوجه مع الكلاب. مارس العواء أيضاً. ما مِن خيار. راح يُحرّك رجليه راكلاً الهواء، كما يقول، حتّى لو رآه أحدهم مِن بعيد لظنّه يرقص. جميل، إنّه يُراقص خطيبته تحت أشجار الصنوبر، في مكان هادئ، أمّا الجمهور فـ… كلاب. خذها مِن الجانب الإيجابي يا جمال. لا تحزن. في أثناء مغادرته، وبعد استفساره عند البوابة، سيُعطيه حارس البلديّة التعليمات إيّاها. سيضيف هذه المرّة: “هيديك اليوم لبطه بأجري قام هرب، ما بخوّف، ولا يهمّك”. شكراً يا “ريّس”. هل يعود جمال مرّة أخرى. ربّما، لكنّها مجازفة. الرسالة وصلت. كلاب! طريقة بدائيّة لتكريه الناس بالحرش، لكنّها، على ما يبدو، نافعة. إنّها تعمل. سمعنا عن خطّة، بل قرار، لإنشاء بناء طبّي (مضخّم) في المكان. هذا يعني قضم مساحة. قبل ذلك سمعنا عن نقل “الملعب البلدي” إلى الحرش. هذا يعني بناءً إسمنتيّاً ضخماً. إنّه مشروع قضم آخر. سمعنا عن أشخاص، مِن أبناء المنطقة، يَضربون كلّ تجمع احتجاجي على تلك المشاريع. هؤلاء الذين جرى استلابهم. كأنّ الحرش، الذي يُنقّي الهواء في صدورهم، أصبح عدوّهم. هل ستشرح لهم وأنت أمامهم؟ ستُضرَب.
هذا الحرش الذي كان، لسنوات طوال، يُقفل أمام أبناء البلد، فيما لا نرى داخله، مِن خلف الأسوار، إلا مجموعة أجانب (مِن الشقر تحديداً) يتمشّون ويركضون ويتنزّهون. كان حرش “الخواجات”. مطالبات كثيرة حصلت. تحقيقات صحافيّة أكثر. كتابات على جدران المدينة مثل “ليش الحرش مسكّر”. أخيراً فُتِح المكان لأبناء المكان. لكن المسألة ضاقت بأعين بعض “المومياءات” الحيّة. آخرها كلاب! ما الذي تحتاجه هذه الكائنات، لو أحسنا الظن، لإخراجها؟ قضيّة الشرق الأوسط هي يعني! أصلاً كيف دخلت؟ مِن أين؟ يوجد ثغرة؟ سدّوها طيّب. سوء الظن، هنا، يُصبح واجباً. أصلاً لا ينبغي أن يكون إلا كذلك حيال سُلطة، أيّ سُلطة. في هذه الحالات قيل قديماً إنّ “سوء الظن مِن حسن الفطن”.
أكثر مِن ذلك، عندما فُتح الحرش للجميع، أخيراً، كان مسموحاً إدخال الطابة للأطفال. قبل مدّة وجيزة مُنِعت الطابة. لا يوجد مزروعات اصطناعيّة، أو غير ذلك، تُبرّر المنع، ما دام الناس يسيرون أصلاً على الحشائش. إنّها رسالة أخرى. آخر قرار “مِن فوق” كان بمنع إدخال العربات الصغيرة للأطفال. كانت مسموحة. أصلاً في الداخل لا يوجد “مراجيح”. ما الذي يبقى للطفل أن يفعله؟ أصبح ممنوعاً إدخال “أيّ شيء” باستثناء الثياب التي على جسد الزائر… والكلاب.
بالمناسبة، حكاية الكلاب ليست مستجدّة على الحرش. قبل نحو سنتين، وفيما كانت مطالب الناس تزداد بدخوله، حُكي عن “كلاب شاردة” بداخله. قيل يومها إنَ سيّدة “محظيّة” تعرّضت لهجوم كلبي. أرأيتهم! “المدام” (مدري مين) تعرّضت لهجوم، أرأيتهم، الحرش ليس جاهزاً. لاحقاً، بقدرة قادر، حُلّت المشكلة “الحيوانيّة”. عادت اليوم، فجأة أيضاً، كما غابت فجأة.
في نهاية القرن التاسع عشر، قيل إن الوالي العثمائي في بيروت، نصوحي أفندي، كان، خلافاً للقانون، يَسمح بإمرار “صفقات” قطع أشجار الحرش مِن قبل “التجّار”. قيل مرّة إنّه تقاضى، كرشوة، مبلغ 900 ليرة مقابل السماح لأحدهم بقطع عدد كبير مِن الأشجار. نصوحي أفندي حيّ فينا.