بعد أكثر من 800 ألف سنة، عادت العوالق البحرية من النوع Neodenticula seminae الموجود بشكل طبيعي في المحيط الهادئ للظهور في شمال المحيط الأطلسي، ويظن علماء البحار أن هذه الكائنات المجهرية الدقيقة، قد أتت من الممر الشمالي الغربي، الذي كان مسدودا حتى بضع سنوات خلت بحائط جليدي دائم، إلا أن فصول الصيف الأخيرة أذابت هذا الحاجز بسبب تغير المناخ.
وليس ذوبان الثلج هو السبب الوحيد الذي يتسبب به تغير المناخ لجهة تغيير طبيعة المحيطات فحسب، بل إن دراسة نشرت في شباط (فبراير) الماضي، أثبتت أن مستويات الأوكسجين الذائب في المحيط آخذ بالإنخفاض بشكل كبير، أما دراسة أخرى هامة فأظهرت أن العوالق البحرية الضرورية لتوازن الغازات في جو الأرض معرضة للخطر.
ويعتقد بعض العلماء أن هذا الأمر جيد على الرغم من أنه قد ينبئ بتغييرات قد لا يمكن إصلاحها، فإن هذه المعلومات الجديدة، قد تشير إلى أن المقاربات الجيوهندسية قد تساعد بإنقاذ المحيط من المشاكل التي تطرأ عليه نتيجة تغير المناخ، ولكن هل نغامر بهذه المقاربة بما يمكن أن يؤثر على المحيط، فضلا عن اللعب بأيكولوجية المحيط؟ ولكن ألا نقوم بممارسات سيئة في هذا المجال؟
فمن المعروف أن نفوق الحيوانات القشرية وتبيض المرجان فضلا عن هجرة الأسماك الجماعية ترتبط بشكل أكبر بكون المحيطات أكثر حامضية، ولكن آراء العلماء انقسمت حيال تأثير التغير المناخي على العوالق البحرية، وخصوصا النباتية منها phytoplankton.
أهمية العوالق النباتية
تنتج العوالق نصف كمية الأوكسجين الموجودة في الهواء، ما يجعلها رئة كوكب الأرض، كما تعتبر قاعدة السلسلة الغذائية للكائنات الحية الصغيرة والكبيرة على حد سواء، فهذه الكائنات البحرية الشبيهة في عملها بالنباتات تعيش قرب سطح المحيطات، وهي حساسة للغاية تجاه التغيرات في البيئة، إلا أن بعض العلماء لا زالوا يعتقدون أن ارتفاع نسب ثاني أوكسيد الكربون carbon dioxide في الجو تؤثر على نحو إيجابي على نمو هذه الكائنات، وفي العام 2015 أثبت فريق من الباحثين في “جامعة جون هوبكنز” الأميركية Johns Hopkins University أن نوعا من هذه العوالق البحرية النباتية واسمه Coccolithophore، قد تزايدت أعدادها عشرة أضعاف في منطقة شمال الأطلسي في الفترة الممتدة من 1965 إلى 2010.
إلا ان بحثا ثانيا، قدمه الباحث ويليام تشايفرز William Chiversفي “جامعة نيو كاسل” The University of Newcastle في أستراليا، أكد أن هذا الأمر لا ينطبق على كل الأنواع، بل أن بعضها يعاني، إذ لا يمكن للعوالق النباتية أن تسبح، لذلك عندما تتحول وتتغير أوضاع المياه، فلديها ثلاثة خيارات: التكيف، أو ركوب تيارات المحيط إلى بحار أكثر ملاءمة، أو الموت.
في الواقع، فإن العمليات الثلاث تحصل بوتيرة غير مسبوقة، ولو أن العوالق النباتية Coccolithophoresقد تكيفت، فأنواع أخرى لم تكن محظوظة، فوفقا لتشايفرز “ثمة أنواع من هذه العوالق الهامة في شمال الأطلسي لم تتكيف وتقلصت أعدادها على مر العقود، ولم تستطع النجاة من المحيطات الحامضية”، وليس الـ Neodenticula seminae النوع الوحيد من العوالق المهاجرة، فقد وجد تشايفرز وفريقه تريليونات من العوالق النباتية تجوب المحيط في بحث يائس عن موائل مناسبة، وقد وجد الفريق العديد من الأنواع الرئيسية تتحرك نحو القطب بمعدلات تصل إلى 99 كيلومترا خلال العقد (10 سنوات) سعيا وراء المياه الباردة (انظر صورة الخارطة map) وهذا الأمر يشكل تهديدا للكائنات الحية المتوطنة في القطب threat to polar species، أما البعض الآخر فيموت، بما في ذلك أحد أهم الأنواع التي تعتمد عليها مصائد الأسماك بشكل حاسم.
ولا تعاني مصائد الأسماك فحسب، فالعوالق النباتية هي قاعدة الشبكة الغذائية في المحيطات ويعتمد عليها كل شيء في البحار كغذاء، من الأسماك والحيتان والدببة القطبية، كما أنها تنتج ما يقرب من نصف الأوكسجين في الغلاف الجوي من خلال عملية التمثيل الضوئي – أكثر من كل الغابات على الأرض – فالأوكسجين في المحيطات هو رئة الكوكب.
وتأتي الأخبار المقلقة إثر أبحاث أجراها الباحث سونكي شميدتكو Sunke Schmidtko وفريقه من “معهد هيلموتز لأبحاث المحيط” Helmholtz Centre for Ocean Research في كييل Kiel بألمانيا، ووجدوا أن معدلات الأوكسجين قد انخفضت في المحيطات بمعدل 2 بالمئة خلال الخمسين سنة الماضية، ولا يظهر هذا النمط قدرة على التعافي.
نمط لا يمكن مقاومته
من الواضح أننا بحاجة لإنقاذ العوالق النباتية. ولكن كيف؟
في هذا المجال، قالت الباحثة في علم المحيطات من “معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا” Massachusetts Institute of Technology: MIT ستيفاني دوتكيويتش Stephanie Dutkiewicz والتي تبحث في نمذجة أنواع العوالق النباتية modelling phytoplankton groups “أولا، نحن بحاجة لفهم هذه الأنماط، وهو أمر لا يزال العلماء يعملون عليه”، وأضافت: “إن معظم النماذج تشير إلى أنه بوجه عام، سيكون هناك انخفاض في أعداد العوالق النباتية، لكننا ببساطة لن نعرف على وجه اليقين كيف سيكون الحال في فترة الـ 20 إلى 30 سنة القادمة”، وأشارت إلى أن ” ثمة عددا كبيرا من العوامل المتغيرة، بما في ذلك التيارات المحيطية وقدرة الأنواع التطورية على التكيف”.
ومع ذلك، فهناك نمط واتجاه واحد يمكن للعلماء التنبؤ به بثقة، وهو أن أنواع العوالق النباتية الصغيرة، مثل Coccolithophores، ستزداد أعدادها، بينما تلك الأكبر حجما مثل Neodenticula seminae سوف تنخفض أعدادها، وذلك لأن سطح المحيط ومع ارتفاع درجات الحرارة، ما يؤدي إلى اختلاط أقل للمياه السطحية الدافئة والأقل كثافة، حيث تعيش العوالق النباتية، مع المياه الباردة والأكثر كثافة أسفل المحيط، والتي تحتوي على معظم المواد الغذائية التي تحتاجها العوالق من أجل البقاء، كما أن العوالق النباتية الكبيرة تحتاج لتركيزات أعلى من الفوسفات والنترات الذائبة، وبالتالي من المتوقع أن تنخفض أعدادها بشكل أكبر.
وهذه أخبار سيئة، فالعوالق النباتية الكبيرة تتحمل العبء الأكبر باستهلاك حصة الأسد من الكربون من الجو والبحر، بينما الأنواع الأصغر والمتوقع أن تزدهر في المستقبل ليست فعالة في تنحية الكربون، وفي المحصلة فإن العوالق النباتية قادرة على إزالة ما يقرب من نصف ثاني أوكسيد الكربون CO2 المنبعثة من الصناعات البشرية، ما يجعلها حاسمة في معركة إبطاء عملية تغير المناخ.
وبما أن الكثير من الأمور على المحك، فإن علماء مثل دوتكيويتش يؤكدون على ضرورة وجود أبحاث لرفع إنتاجية هذه الكائنات المجهرية، ولكن من الضروري أيضا أن نلقي نظرة جديدة إلى الهندسة الجيولوجية للمحيطات، وهي فكرة تم تجاهلها.
واشتهر الباحث في معهد هيلموتز لأبحاث المحيط فيكتور سماتيتشيك Victor Smetacek بتسميد (بذر) ocean seeding المحيط قرب القطب الجنوبي بكمية تقدر بـ 7 أطنان من مسحوق كبريتات الحديد Ferrous Sulfate، وهو منتج من النفايات الصناعية، في محاولة لتحفيز نمو العوالق النباتية، وأدى ذلك إلى ازدهار كبير في أعداد من الدياتومات (نوع من العوالق البحرية)، وقد نجت لأسابيع قليلة فقط قبل أن تموت وتسقط إلى قاع المحيط.
وقد جادل سماتيتشيك لفترة طويلة، قائلا أن “عملية تسميد الحديد، يمكن أن تكون وسيلة غير مكلفة نسبيا لامتصاص الكربون من الغلاف الجوي وتخزينه في رواسب المحيطات”، ولكن العديد من العلماء وخبراء البيئة ترددوا في هذا الأمر، قائلين ان مثل هذه التجارب يمكن أن تكون لها عواقب غير مقصودة.
ولا يستبعد مدير “مؤسسة السير أليستر هاردي لعلوم المحيطات” Sir Alister Hardy Foundation for Ocean Sciences في المملكة المتحدة البروفسور ويلي ويلسون Willie Wilsonعملية الإخصاب بالحديد، لكنه يحذر من أن التدفق المستمر الضخم من المواد العضوية يمكن أن يسمم في نهاية المطاف المحيطات، ويخلق مناطق خالية من الأوكسجين ومعادية للحياة البحرية.
فبدلا من الإزدهار المثير للجدل لهذه العوالق التي تموت بسرعة، قال سيماتشيك: “ماذا عن استدامة العوالق بطريقة أكثر استدامة وطبيعية؟”، وأضاف “إن المشكلة الحقيقية في المحيطات تتمثل بالقضاء على الحيوانات الضخمة فيها، منها الأسماك الكبيرة والحيتان، التي كانت تحفظ النظام الحيوي في حالة توازن في أوقات سابقة”.
وكان فقدان هذه الأنواع المفترسة من الأخبار السيئة عن العوالق النباتية، التي تتغذى على المواد الغذائية الغنية في براز هذه الكائنات، وعندما كانت الحيتان أكثر وفرة، كانت تعمل على جلب المواد المغذية من العمق إلى السطح عبر خضخضة القاع بحثا عن الغذاء.
ويقترح سيماتشيك محاكاة هذا الأمر عن طريق ضخ المياه من أعماق المحيطات إلى السطح باستعمال سلسلة من أنابيب طويلة راسية على جزر اصطناعية، وبذلك فإن المواد المغذية في أعماق هذه المياه تساعد العوالق النباتية على التجدد، ما ينعكس إيجابا على النظام البيئي في المحيط ككل.
ويرى البعض أن ثمة مشكلة في هذا المجال، وقالت الباحثة في علم المحيطات ستيفاني هنسون Stephanie Henson من “جامعة ساوثهامبتون” University of Southampton في المملكة المتحدة أن المياه الباردة القادمة إلى السطح يمكن من خلالها استخلاص CO2 في المحيط بصورة أسرع وتعزز حموضة المحيطات.
إلا أنه العلماء لا يعارضون جميعهم الفكرة، ويجد الباحث في وكالة “ناسا” NASAمايكل بيرينفيلد Michael Behrenfeldأن “تجارب الهندسة الجيولوجية على نطاق صغير، وعلى المدى القصير أثبتت نجاح هذه النهج. ومع ذلك، فإنه لا يزال مثل العالمة هنسون والعديد من العلماء الآخرين “شديد الحساسية حول تغيير النظام البيئي في المحيط بطرق غير معروفة”.
ولكن ثمة أمور تحتاج إلى تغيير ضروري، فقد وجدت الدراسة الخاصة بنضوب الأوكسجين أيضا أنه إذا لم يتم فعل شيء، فإن الأوكسجين في المحيط قد ينخفض بنسبة 7 بالمئة بحلول عام 2100، وهذا التغيير سيكون له تأثير كبير على الحياة في المحيطات، وإذا حدث ذلك، ستصبح العوالق النباتية المنتجة للأوكسجين أكثر أهمية في الحفاظ على الحياة البحرية، وقال سيماتشيك “يتهمني الناس بالتدخل بالطبيعة، ولكن ألا تفعل أي شيء هو الخيار الأسوأ”.