الشرط الضروري لحريتنا، كما لدى غيرنا من البلدان، ان نكون مواطنين في دولة. الدولة مفهوم جغرافي (حدود). هي تجريد ينفذ في النفوس. في اطاره ينشأ العقد الاجتماعي. على اساس العقد ينشأ الفرد الذي يمارس ذاتيته. غياب معنى الدولة من نفوسنا يعني غياب الدولة، وبالتالي غياب المواطنة. الحرية في بلادنا يشوبها غياب الدولة وثقل النظام الذي ينقصها ويدفعها الى التلاشي. لسنا أفراداً مستقلين، بل أعضاء في طوائف. الطوائف تصادرنا، وضمائرنا مرتبطة بها. الحرية مفقودة بسبب الطائفية. نحن اعضاء في طوائف لا في دولة. ما تشكل عندنا هو نظام الدولة مع غياب الوعي بالدولة. نظام طائفي يجعل من الحرية شبهة، اصحابها مصادرون، فاقدو الذاتية والشخصية. هم اتباع الطائفية، بل اتباع زعماء الطوائف الذين يبيعونهم في سوق نخاسة المال لطبقة عليا تقل عن واحد في المئة من السكان. هي حرية فوضوية لا تأبه للقانون الذي لا انتظام له الا عندما يجتمع زعماء الطوائف.
نحن نتكلم اذا عن الحرية المرجوة والمتوقعة والمأمولة.
هذه الحرية هي ان تكون مواطناً (في دولة) تعمل حسب ضميرك؛ ان تكون لك مشيئة او ارادة تتيح لك المشاركة، وتتحقق في المشاركة. الحرية ان تكون انت شبيهاً بنفسك لا كما يطلب منك؛ ان تكون ذاتك كلاً متماسكاً مهما تعددت الهويات لكل واحد منا. تعدد الهويات لدى الفرد أكثر من تعدد الهويات الطائفية. هذه الاخيرة مصنوعة لنا. التعدد داخل الفرد لا يمكن مصادرته. هو ما يتيح الخيارات المتعددة. هو المصدر الوحيد للحرية.
الحرية هي عندما تنغرز الدولة في وعينا فتصير دولتنا نحن، لا دولتهم هم. يعرف القارىء من “هم” . هم هؤلاء المقيمون الغرباء عن ارضهم، والذين لا يعنيهم من الوطن سوى انه دار مقام، فندق عبور. أقل من واحد في المئة من السكان اموالهم في الخارج، ليس عندهم ادنى ارتباط بما تعتقدونه وطنا. لكنهم يتعاملون بأموال المقيمين وايداعاتهم.
الحرية ان نعرف القانون ونسلك حسبه. قانون وضعناه نحن. ما نلتزم به هو القانون. اذا اراد البعض الالتزام بالشريعة يكون ذلك خارج اطار الدولة والنظام. فيكون الدين مدنياً لدى الجميع، ويكون الهياً عند من يعتقد بذلك. المحاكم جميعها لا تطبق، ولا يجب ان تطبق، سوى القانون المدني الوضعي.
لا خوف على الدين في الدولة المدنية (الغرب مثلاً) اذ كلّ يكون على شريعته خارج القانون الملزم به. في البيوت وفي التجمعات الوطنية يتصرفون كما يشاؤون. اما في المجال العام فلا تطبيق الا للقانون، قانون الدولة.
ان نكون احراراً يعني ان تكون لكل منا ارادة. والارادة تختار الهوية وتصنعها. وفق ذلك يكون لكل واحد منا الخيار الديني، ولا يُعتبر ذلك ردّة.
الحرية ان تتعدد الامكانات وان يكون لنا الخيار من بينها. عندما ترى الخيارات أمامك متعددة، فأنت مضطر للسعي من أجل تحقيق واحد منها. انت تضطر للعمل وبذل الجهد، لا الاستسلام لما أعطي لك ولا لما يقرر لك، ولا لمن تزعمك منذ ولادتك.
الاخلاق هي ان تقوم بما يجب القيام به لأنك يجب ان تقوم به. والحرية متاحة عندما تتعدد خيارات ما يجب القيام به. تختار واحدة من الهويات وتصنعها وتخرج من القفص الذي صنع لك مع منحك تذكرة الهوية. تتلاشى الاخلاق مع غياب الامكانات وغياب حرية الاختيار.
الحرية هي ان تتحرر من قلق الحاجة الناتج عن الفقر والعوز والبطالة. لا تتحقق الحرية في بلد لا يملك نصف سكانه شيئاً من الثروة الوطنية، بينما الدخل السنوي غير متاح الا لمن يعملون، ومجالات العمل مغلقة أمام معظم الشباب (والمسنين ايضاً).
الحرية يحتاج تحقيقها الى ردم الهوة الاقتصادية (والاجتماعية والسياسية) بين قلة من الاغنياء وكثرة من الفقراء. كاد الفقر يكون كفراً. ويصير أشد وأوهن عندما يجنّد فريق منهم لضرب كل تحرك مطلبي في سبيل عدالة التوزيع، الذي بدوره لا بدّ ان يحتاج الى عدالة في جباية الضرائب. لا يشعر بالمواطنية من يحرم من العمل والدخل ومن زيادة الرواتب، في حين يكون هو من يطلب منه دفع الضرائب لتمويل العجز.
لا يعقل ان يتماسك المجتمع بوجود قلق معيشي ينتاب اكثر سكانه. معنى ذلك ان يشارك أقلية من السكان في صنع سياسة البلد ومستقبله؛ ومعنى ذلك ان تحرم الاكثرية من المشاركة. وهي تحرم في أحيان كثيرة برضاها، فيتناول الزعامة (القيادة) فتية يرثونها عن ابائهم، وهؤلاء ورثوها أيضاً. التابعون جزء من الاملاك الموروثة. التوريث يحصل في مناسبات حزينة. شعب قلق. طبقة سياسية حزينة. لا فرح الا عند ذوي الانياب المالية.
يصادرون الضمير لصالح الطائفة. يدمرون الارادة على اعتابها. مطالب الشعب وجماعات الحراك المدني قيد مماطلة لا تنتهي. نضالات لا طائل منلها، ولا نتائج ترجى عبرها. المواطن لا تسمع كلمته. هو ليس مواطناً في الاصل. محاولاته في سبيل المواطنة تبوء بالفشل. ماذا يبقى من الحرية غير تقنياتها السطحية.
بعضنا، ممن يتاح له الامر، يجلس في المقهى مع الاصدقاء. كلام في كلام. تعلو الاصوات، والحمدالله انه لا تعقبها اعتقالات. حرية جوفاء نتلذذ بها. هي نعمة مقارنة ببلدان أخرى. ننعم بتفاهة وجودنا، ننعم بضمير معطل وارادة مكسورة. ما نريده هو المتاح لنا. لا نصنع شيئاً ولا ننتج، كما اننا لا نصنع الافكار. افول الابداع حدث منذ زمن طويل.
يجتمع في المقهى يومياً ثلاثة اشخاص على قدر كبير من الوعي. أحدهم كادر حزبي متمرس. ثانيهما باحث في أحد العلوم الانسانية. ثالثهما مثقف متعدد الهوايات. الكادر الحزبي هو صاحب المبادرة بالسؤال. الباحث يتأنى في الجواب، وذلك بحكم مهنته. المثقف يطرح سؤالاً على السؤال. بؤس الانتلجنسيا العربية يكمن في ان الممارسة النظرية شبه معدومة. المسكوت عنه اكثر بكثير مما يقال.
الحرية غير ممكنة الا في مجتمع مفتوح مشرع الابواب. الافكار من حيثما أتت مقبولة؛ سواء من الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب. اغلاق المجتمع يقضي على توليد الافكار ويمنع الممارسة النظرية. تبقى الحرية معدومة (حتى ولو كانت تقنية) ما لم ينفتح المدى للافكار والنظريات والفلسفات. هذه لا تجدي شيئاً على المدى القريب، لكنها تصنع وعياً على مدى المستقبل.
يحشرنا المسكوت عنه في الزاوية. الفضاء مشرع لأفكار هي ليست ابداعات، بل تكرار لتجارب اثبتت فشلها. منذ 1948 ونحن نردد الشعارات ذاتها، ونحولها الى افكار، ونعلن اننا ابدعنا. المجتمع المغلق ضد البدع. البدع مكروهة في مجتمعنا. اصحابها الى النار. بدل ان يحررنا التفكير، نحن سجناء في اقفاص من افكار مجترة مكرورة.
يتطلب التحرر بعض النزق الفكري. عدم الخوف من البدع. عدم الاستهابة من السباحة ضد التيار. الشك بالمسلمات والبديهيات. المسكوت عنه فيه كثير من الشك والكفر بالمسلمات. لكن الحرية هي القدرة على الافصاح.
القمع لا يمارسه الاستبداد وحسب. هو ايضاً صنع المجتمع الذي يخلو من أصحاب النزق الفكري والممتلىء بكارهي البدع.