التحرر طريق الحرية. تحقيقها يتطلب نضالات مستمرة. النضال من أجلها يصطدم بعقبتين داخليتين هما الاستبداد السياسي وهيمنة الوعي السائد لدى المجتمع. تداخلهما أصبح يحتاج الى تفكيك، اذ ان ما هو نتيجة الآخر صار سبباً له.
في منتصف القرن العشرين، كان الدين فردياً. كانت تأدية الفروض الاجتماعية طقوساً لا علاقة لها بالسياسة. في سبعينات القرن العشرين بدأ انور السادات يتلاعب بالدين ويستخدمه كوسيلة دعائية. تبعه البعث العراقي والبعث السوري، اذ سمحا للدعوات الدينية بالانتشار في مواجهة الحركات الاسلامية المعارضة كالاخوان المسلمين وما تفرع عن جماعتهم.
الوعي السائد صار وعياً دينياً حتى صار ” هوى الزمان ” كما يقال. صار اتباع السلطة، من غير الكوادر الحزبية العلمانية، يتبنون اشكالاً من الممارسات والدعوات الدينية التي اعتبرتها السلطة السياسية غير خطرة بالنسبة لها. مع اشتداد المعارضة ضد الاستبداد، الذي تتميز به جميع الانظمة العربية، صار هذا الدين غير السياسي سياسياً، بل صار هو المحور الرئيسي لايديولوجيا المعارضة، وصار عنصراً فعالاً في الحروب الاهلية التي تبعت ثورة 2011. قبل ذلك كان الاحتلال الاميركي للعراق، امتدت آثاره الى سوريا. تعممت الحروب الاهلية في المشرق العربي، حتى في مصر، وامتدت الى ليبيا. هذه الحروب الاهلية هي الشكل الذي اتخذته الثورة المضادة، الهادفة الى تدمير الدولة والمجتمع وكل ما يقف في طريقها.
صار على المناضلين من أجل التحرر السياسي ان يناضلوا في نفس الوقت من أجل التحرر الفكري، باعتبار ان التقدم الفكري في المجتمعات العربية تعرض لمصاعب كبيرة خاصة بعد ظهور النفط وصعود السلفية الدينية التي صار لها مخالب مالية. في كنفها نشأت بنية تحتية من الدعوات والجامعات التي تخرّج الائمة والقضاة الشرعيين وبقية أعضاء مؤسسة دينية موازية للمراكز التقليدية في الازهر والزيتونة والقرويين. ارتكزت هذه المؤسسات على ما اعتقدته شريعة آلهية، استجابت لها الانظمة العلمانية، بشكل أو بآخر. وظهر اسم الله على العلم العراقي في أيام البعث، ولم يعد بالامكان غير ذلك. تلاعبت الانظمة العلمانية بالدين، وعندما اشتدت المعارضة السياسية لها صارت السلفية هوى الزمان، وكانت المعارضة اكثر قدرة على هذا الاستخدام. بل صار هذا الاستخدام قاعدة انطلقت منها جميع الحركات المتطرفة، الجهادية وغيرها. جميعها ارتكز على سلفية جامدة تنكر التاريخ والتطور وتعتبر تراثها الوحيد هو بعض التفسيرات الجامدة للكتاب المقدس، وانكرت العلم الحديث والفلسفة والتواصل مع العالم. بيئة اعتبرت الدين هو نقيض الاستبداد. اهملت السياسة ولم تعتبر ان السياسة هي النقيض الفعلي للاستبداد. صارت تقمع السياسة والنضال السياسي كما تفعل السلطات السياسية الاستبدادية. صارت هي والانظمة وجهين لعملة واحدة.
تنوعت اشكال الاستبداد. ما عاد يقتصر على قمع السلطة السياسية لمجتمعها ومثقفيه؛ بل تواكب ذلك مع قمع المجتمع لافراده. “هوى الازمنة” يسيطر على الوعي. صار الوعي السائد مخيفاً لمن يخرج على ما اعتبر اجماعاً، حتى ولو كان الامر يتعلق بتفسيرات خاطئة لدى اصحاب الدين لنصوص الكتاب المقدس. صار المزاج الديني يحدد الوعي السائد، صار سلطة ثقافية ارتكبت حوادث قمع عديدة، كالسجن والتعذيب والنفي، الخ… وصار الاتهام بالردة سيفاً مسلطاً على رقاب المعارضين.
لذلك صار السعي من أجل التحرر لا يقتصر على النضال السياسي ضد السلطات الحاكمة، بل يشمل ايضاً اشكالاً من النضال الثقافي الذي يجعل المناضل او الساعي من أجل الحرية مضطراً لمواجهة المجتمع، أو جزء منه، وجعلته يتحمل اعباء لم تكن ضرورية لولا اختلاط الدين بالسياسة وتلاعب الانظمة بالدين، وانتشار مزاج ديني عام لم يكن موجوداً من قبل.
صار النضال السياسي اكثر تعرضاً للخطر اذ لا يحميه المجتمع الذي يزمع الدفاع عنه. صار المسكوت عنه اكثر بكثير مما يمكن التصريح به. الانفصام بين الكلام المباح وبين التفكير المضمر صار واقعاً. أدى ذلك الى انفصام في شخصية المثقف والمناضل. اضطر هؤلاء الى استخدام خطاب في السر وخطاب نقيض في العلن. السلطة السياسية تمارس التهديد والقمع بأشكالهما القاسية. المجتمع يمارس القمع بالتحليل والتحريم اللذين يستندان الى آراء بعض المشايخ و” العلماء ” والدعاة. يكفي ان يظهر على الشاشة شيخ معمم لمنع كتاب او فيلم سينمائي. الانظمة تحاكم المعارضين بتهمة خدش الشعور القومي، والمشايخ يدفعون الى المحاكم بمن يتهمونهم بخدش الحياء الديني.
سيطر على الوعي العام ” الجهل المقدس ” كما يسمونه. عندما كشّرت الثورة المضادة عن انيابها، بعد ثورة 2011، كان الجهل المقدس وسيلة للسلطة السياسية ولسلطات الهيمنة المجتمعية، على السواء. لا يهم اذا كان التعاون مقصوداً أو غير مقصود. تعددت الاسباب والموت واحد.
اذا كانت الحرية هي وعي الضرورة، فالطريق الى التحرر تمرّ حتماً بالأخذ بالاعتبار جميع انواع القمع والاستبداد.. الواجب يفرض ” ممارسة نظرية ” ترفض الاستبداد بجميع اشكاله.
تجاوز المألوف، الخروج مما يسمى التراث، نقد الافكار السائدة، تحليل الوعي السائد ورفضه، تدمير بنية هذا الوعي، الانخراط في العالم، تبنّي الثقافة الغربية بعلومها المادية والانسانية لا بتقنياتها وحسب؛ كل هذه الامور وغيرها ضرورية لتخليص المجتمع من نفسه، وتخليص المجتمع من أنظمة الاستبداد في آن معاً.
اغلاق العقل العربي سمة من سمات الثورة المضادة. لكنها أيضاً سمة من سمات المجتمع. طريق التحرر أكثر كلفة بالنسبة للمثقف والمناضل العربي مما هو عليه في جميع مناطق العالم الاخرى. يتطلب الامر كثيراً من النزق الفكري والجرأة. الواجب الآن هو عدم الخوف من الخوف نفسه.