صحيح أنَّ موارد المياه العذبة في المنطقة والعالم قد انخفضت، لأسباب متعددة، إلا أن الترويج لندرة المياه وأن هذا الانخفاض هو بمقدار الثلثين في السنوات الأربعين الأخيرة… وأن مناخ العالم سيتغير والجفاف آتٍ لا محالة مع زيادة السكان وزيادة الطلب والترويج لمفاهيم التنمية والرفاهية…
أمر غير بريء على الإطلاق. فمعظم الأرقام المضخمة تصدر عن جهات دولية، دُمج فيها بين مصالح أممية ومصالح القطاع الخاص، ولا سيما المعولم في قطاع المياه، والصناديق المالية الدولية… بهدف تبرير مشاريع إنشاء سدود مكلفة وتخصيص المياه وتحويلها إلى سلعة للبيع والتجارة، أي تحويل هذه المادة الأساسية والضرورية للحياة، كالهواء تماماً، من حق إلى سلعة والاتجار بها وبيعها. لذلك، كان لا بد من إنشاء أو تجميع قوى جديدة في المجتمع المدني العربي والعالمي تحمل قضية الدفاع عن هذا المورد الحياتي، عن سلامته أولاً، وعن فكرة كونه حقاً من حقوق الإنسان، على أن يدمج هذا الموضوع لاحقاً مع باقي المواضيع ذات الصلة.
لاحظنا في السنوات الأخيرة كثرة الدراسات الدولية التي تتحدث عن تأثيرات التغير المناخي على أكثر الأراضي خصوبة كدلتا النيل. بينها دراسة أجرتها منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو) أخيراً تؤكد أن ارتفاع درجات الحرارة قد يسبّب تقصير مواسم الزراعة أسابيع، وخفض المحاصيل الزراعية بنسبة تبلغ 27%، وستصل إلى 55% بحلول نهاية القرن الحالي. وكذلك الأمر في كل دول المنطقة، وبينها لبنان، حيث يجري تبني نظرية تغير المناخ وزيادة الجفاف وزيادة الحاجات والسكان والطلب… لتبرير القول بضرورة تخزين المياه. عند هذا الحد، يمكن أن يكون كل ذلك صحيحاً. ولا مانع من أن نسلّم جدلاً بكل ذلك، خصوصاً أننا لا نتبنى في الأصل مفاهيم مثل التنمية وضرورة زيادة الإنتاج، بل مفاهيم مثل الكفاية وضرورة تقليد الطبيعة والانسجام معها بدل تحديها.
لكن ما الذي يطرحونه علينا لحفظ المياه؟ الفكرة المركزية التي لا تزال تسيطر على العالم، بفعل قوة المؤسسات الدولية المستثمرة في المياه، والتي لديها عملاؤها في لبنان وفي كل دول المنطقة، هي إنشاء سدود سطحية. فإذا سلمنا معكم بأن مناخ العالم سيتغير وأن درجات حرارة الأرض سترتفع، فكيف علينا أن نقتنع بأن تخزين المياه يجب أن يكون سطحياً وفوق الأرض بأكلاف ومخاطر خيالية، ونعرض المياه للمزيد من التبخر والتلوث بفعل الحرارة التي سترتفع أكثر وأكثر!؟
لا تقتصر محاولات الاستغلال على الجانب المائي فقط، بل على كل ما يتعلق به أيضاً. هذا ما حصل تاريخياً، حين جرت زيادة مشاريع المياه بالتزامن مع تغيير عادات الشعوب في الزراعة وتغيير نوعية المحاصيل، تناسب التجار وشعوباً لديها إمكانات أكبر على الاستهلاك وتتبنى أفكار الرفاهية التي سبق للتجار أن أنتجوها وروجوا لها. وبما أن الزراعة تُعَدّ المستهلك الأكبر للمياه العذبة، فقد يُستغَلّ هذا الجانب للترويج مرة جديدة لزراعات جديدة، قد تكون معدلة جينياً هذه المرة، بحجة تشجيع أنظمة إنتاج زراعي تستهلك قدراً أقل من المياه وتكون أكثر قدرة على مقاومة تأثيرات التغير المناخي.. وتغيير منظومات الأغذية ومواءمتها بحيث تصبح أكثر فعالية في الشكل وأكثر ربحاً للشركات المسوقة في الجوهر، وترهن مصالح الناس والأصول الوراثية للنباتات للشركات المستغلة إلى الأبد.
فأين “مبادرة الفاو الإقليمية لندرة المياه” من هذا الموضوع؟ وفي أي اتجاه ستسير سياسات المياه وعملية تغيير خيارات المحاصيل والتغذية؟ فكيف سيكون استبدال زراعة أساسية مثل القمح بحجة “أن 400 ليتر من المياه يجري إهدارها لكل كيلوغرام من القمح يُنتَج”. وما سيكون مصير الأسر الريفية، وخصوصاً أن المزارعين أصحاب الحيازات الصغيرة، هم الأكثر عرضة للأخطار والأعباء التي ستترتب على هذه التغييرات؟ وبأية طريقة سيتمكن المجتمع الدولي من تحقيق أهداف التنمية المستدامة، خصوصاً الهدفين الأول والثاني، وهما القضاء على الفقر والجوع بحلول 2030؟
فهل يجب على الشعوب، ولا سيما الضعيفة والمستضعفة، أن تتأقلم مع ما تفرضه المؤسسات الدولية والشركات الكبرى والحكومات المتعاملة وأسواقها، وتسير مع الأساليب الجديدة والخطيرة من الاستغلال، أم عليها أن تتحصن بممارساتها القديمة وتحاول تحسينها وتحصينها عبر التمسك بالزراعات البعلية القديمة، القوية والمستدامة، والعودة إلى نظام التبادل في المحاصيل القليلة والمتنوعة؟ وهل تدرج قوى المجتمع المدني هذه السياسات من ضمن برامجها المقاومة بالتعاون مع المجتمعات المحلية المستضعفة؟ هو التحدي الأبرز لمنتدى المياه بالمنطقة العربية الذي انطلق حديثاً.