نعتقد أن الكثيرين باتوا يدركون أن التلوث البيئي، بكل أنواعه ومصادره، الناتج عن سوء إدارة العديد من الملفات البيئية، ولا سيما منها ما يتعلق بإدارة النفايات الخطرة وغير الخطرة، الغازية والسائلة والصلبة، على علاقة ترابط وثيقة مع تدهور الوضع الصحي العام، وازدياد التعرض للأمراض المميتة والمزمنة، وازياد كلفة الإستشفاء والعلاج والطبابة عموما على الاقتصاد الوطني، وعلى تراجع كبير في رفاه عيش اللبنانيين ومعاناتهم الصحية الثقيلة. وبالتالي يصح القول إن البيئة السليمة شرط لصحة سليمة، وأن حماية البيئة مدخل ضروري لحماية الصحة العامة.
تختلف النفايات باختلاف أنواعها ومصادرها، ويمكننا التأكيد على أن أي محاولة جادة لوضع سياسات واستراتيجيات وخطط سليمة لإدارة النفايات تشترط تصنيفها في فئات، حيث كل فئة تتطلب خطة خاصة بها ترتكز على خصائص تلك النفايات وميزاتها. يمكننا تصنيف النفايات وفق العديد من المعايير، عل سبيل المثال، إذا اعتمدنا مصدر النفايات معيارا لتصنيفها، يمكننا أن نميز فئات النفايات المنزلية البلدية، الصناعية، الطبية من مؤسسات العناية الصحية، الزراعية، نفايات عمليات البناء، النفايات الكهربائية والإلكترونية، نفايات قطاع النقل من زيوت معدنية وخردة وإطارات، الخ… وإذا اعتمدنا خصائص النفايات معيارا لتصنيفها، يمكننا تمييز فئة النفايات الخطرة، وغير الخطرة ، والمختلطة، من كل المصادر. ويمكننا أيضا التمييز بين نفايات غازية وسائلة وصلبة إذا اعتمدنا الحالة الفيزيائية للنفايات معيارا لتصنيفها.
إذن علينا تحديد الفئة من النفايات التي نتصدى لوضع خطة إدارة بيئية سليمة لها، وليس تناول النفايات بالجملة دون تحديد صحيح ودقيق عن أي فئة ونوع من النفايات نتحدث.
إن تغييب تصنيف النفايات إلى فئات، تتنوع من حيث مصادرها وميزاتها وخطورتها وطبيعتها، يكمن في أساس السياسات غير السليمة التي تعتمد حتى الآن في لبنان، وفي سوء إدارة النفايات وما نتج وينتج عنها من أزمات وآثار بيئية وصحية عالية الخطورة، ومن هدر فاضح في الأموال العامة.
عندما نتحدث عن النفايات الخطرة، من الضروري تحديد ميزات الخطورة التي تحملها هذه النفايات، وميزات الخطورة وفق إتفاقية “بازل” بشأن النفايات الخطرة هي عديدة جدا، ولكن الميزات الأساسية هي ما يتعلق بالقابلية للإنفجار، والقابلية للإشتعال، والسمِّية البشرية، والسمِّية البيئية، والحارقة والكاوية للجلد.
إن أي سياسة أو إستراتيجية يجب أن ترتكز على رؤية، وهذه الرؤية مبنية على مباديء عامة. ورؤيتنا لسياسة وإستراتيجية وخطة إدارة النفايات مبنية على مباديء عامة قوامها وضع نظام متكامل يتمتع بثلاثة سمات عامة هي، سليم بيئيا، وآمن صحيا، وعقلاني الكلفة، كي يكون حلقة في تحقيق التنمية المستدامة، من جهة، ومن جهة أخرى أن يرتكز على اعتماد النظام الدائري، أي تجدد واستمرار الموارد عبر المحافظة على القيمة الموجودة في النفايات واستردادها. سياسة تكون أهدافها العامة تحقيق إدارة سليمة ومستدامة في الواقع، وحماية البيئة والصحة العامة، ومشاركة المجتمع، وتحسين مستمر باتجاه تحقيق كامل أبعاد الإستدامة البيئية والصحية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية.
هذه الرؤية هي واحدة ومشتركة لكل خطط إدارة كل أنواع النفايات. يتحقق تطبيق الرؤية من خلال وضع خطط وطنية لإدارة مختلف أنواع وأصناف وفئات النفايات. تكون الخطط الوطنية لإدارة النفايات خاصة بكل نوع منها حسب تركيبها وخصائص مكوناتها المختلفة.
على مستوى التشريعات والقوانين والمراسيم، نحن بحاجة إلى قانون عام لإدارة النفايات يتضمن الرؤية، والمهمَّة والمباديء والقيم، والأهداف الإستراتيجية، والوسائل والآليات، والهيئة الرسمية المعنية بالسهر على تطبيق القانون. هذا القانون يكون منسجما وعلى تناسق تام مع القانون الإطاري لحماية البيئة رقم 444 للعام 2002. في هذا السياق، نحن ندعو إلى إنشاء “هيئة وطنية لإدارة النفايات في لبنان” تكون مسؤولة عن تطبيق قانون النفايات ومراقبة حسن تنفيذ الخطط الوطنية لإدارة مختلف أنواع وفئات النفايات.
في ورشة التشريعات أيضا، نحن بحاجة إلى استكمال وضع المراسيم التطبيقية للقانون 444 للعام 2002. هل يعقل أننا، بعد 15 عاما على إقرار هذا القانون الهام، الذي يشكل أساسا صلبا وأرضية رائعة لإدارة سليمة لكل ملفات البيئة في لبنان، بحاجة إلى إقرار ما يزيد عن 70 مرسوم تطبيقي لكي ينطلق البلد في خطط وطنية واضحة في كل مجالات الإدارة البيئة؟ هل يعقل أن المرسوم الوحيد الذي أعد وأقر في العام 2002 هو مرسوم تحديد أنواع النفايات الصحية وكيفية تصريفها رقم 8006، الذي عدل بالمرسوم رقم 13389 في العام 2004؟ على الرغم من أن عددا إضافيا من مشاريع المراسيم جرى إعدادها في العام 2001-2002، أقر منها، بعد صراع كبير ومرير، مرسوم تقييم الأثر البيئي فقط، في حين أن المراسيم المتعلقة بتصنيف وإدارة النفايات الصناعية لم تقر حتى هذه اللحظة؟
نحن نرى أن من أولويات وزارة البيئة أن تستعيد دورها ونشاطها، بعد أن أضعف عدد من الوزراء، الذين تعاقبوا على حقيبتها، موقعها، وشوَّهوا دورها، وتنازلوا عن صلاحياتها، ومسخوها إلى دور إستشاري فقط، في حين أنها، وفق قانون إنشائها، وزارة مكتملة الأوصاف لناحية دورها الفعال في السلطة التنفيذية، ولناحية صلاحياتها الواسعة في وضع سياسات وإستراتيجيات وخطط الإدارة البيئة لكل مناحي البيئة في البلد. نعم، هناك ورشة يمكن لوزارة البيئة فتحها بقوة للعمل على وضع المراسيم التطبيقية لقانون حماية البيئة 444 للعام 2002، لأن هذا القانون يبقى غير قابل للتطبيق دونها، وهذا ما يجعل البلد مستمرا في فوضى السياسات والخيارات البيئية السيئة، التي ينتج عنها تدميرا ممنهجا لعناصر البيئة كلها، واستزافا خطيرا للموارد الطبيعية وتلويثها، وكذلك ما ينتج عن كل ذلك من أثار خطيرة على الصحة العامة، ومن نهب منظَّم ومفضوح للمال العام. 15 عاما من الإنتظار المدمِّر كافية، وعلينا الإنطلاق الفوري بوضع المراسيم التطبيقية ورسم سياسات الإدارة السليمة بيئيا في كل المجالات والأبعاد.
إن واقعنا البيئي الذي نعيشه الآن، يتسم بسوء إدارة كل الملفات والقضايا، وعلى رأسها ملف النفايات الصلبة المنزلية، الذي يشهد إدارة غير سليمة بيئيا تؤدي إلى تلويث كبير لكل أوساط البيئة، الهواء والتربة والمياه السطحية والجوفية والبحر، وكذلك تدمير الشاطيء وسوء إدارته ووضع اليد على أملاكه العامة وردمه تلبية لمصالح فئوية لقوى في السلطة وأزلامها. ويشهد أيضا إدارة غير آمنة صحيا تسببت بتلوث كبير بملوثات خطيرة على الصحة العامة تؤدي إلى ارتفاع نسبة التعرض للأمراض السرطانية والقلبية والتنفسية والولادات المشوهة والعقم والخلل الهرموني والموت المبكر. وهذه الإدارة عالية الكلفة، مترافقة بهدر كبير لأموال الصندوق البلدي المستقل والمال العام. نتج عن سوء الإدارة هذه، بالإضافة إلى كل ما تم ذكره، انتشار أكثر من 880 مكبا عشوائيا (مزبلة)، تشهد حرائق تلقائية ومفتعلة بحيث تبث سمومها على اتساع الجغرافيا اللبنانية، وتوزع سمومها على كل الشعب اللبناني في كل المناطق.
تشير مراجعة القوانين والتشريعات البيئية السارية المفعول في لبنان على أن عدم إدارة النفايات بطريقة سليمة هو “جريمة بيئية”. ونحن نطرح السؤال الجدي من هم المسؤولون عن هذه الجريمة الموصوفة؟ ونطالب بإحالتهم إلى القضاء ومساءلتهم ومحاسبتهم.
إن ما يعيق وضع نظام متكامل للإدارة السليمة بيئيا والآمنة صحية ومعقولة الكلفة، وما يعيق أيضا وضع مرسوم ينظم إدارة النفايات هو الفساد والفساد والفساد المتفشي في كل تلافيف السلطة السياسية في لبنان.
أولويات الإدارة المتكاملة
نرى أن في طليعة أولويات الإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة المنزلية في لبنان، التي نبحث عنها، تكمن الإستدامة والحفاظ على البيئة بكل عناصرها، وتوفير الأمان الصحي للمواطنين من هذا الجيل والأجيال القادمة. وأن يتم التعامل مع النفايات على أنها موارد ذات قيمة، نسعى لاستردادها، لا لتبديدها وتدميرها وضياعها عبر طمرها أو حرقها بأكلاف إضافية كبيرة على الإقتصاد الوطني، وعلى جيوب اللبنانيين وصحتهم جميعا. فالإسترداد المادي للموارد الموجودة في النفايات تشكل حاجة ملحَّة لقطاعات واسعة من الصناعة اللبنانية، وبهذا يعتبر هذا الإسترداد أولوية مطلقة. ويمكن أيضا إسترداد الطاقة من النفايات العضوية، وهي تشكل النسبة الأكبر من بين كل مكوِّنات النفايات الصلبة المنزلية والبلدية، وذلك حصرا عبر عمليات الهضم اللَّاهوائي، واستبعاد كل أنواع الحرق لعدم ملاءمتها لتركيب وخصائص نفاياتنا، ولخطورتها على البيئة والصحة العامة، ولصعوبة مراقبتها والتحكُّم بنتائجها التلويثية الخطيرة، ولارتفاع كلفتها، إن لجهة تدميرها الموارد ذات القيمة، وإن للكلفة العالية لإدارة هذه التقنية المعقدة وذات الحساسية البيئية الكبيرة.
الأسئلة الإستراتيجية
عند التصدي لمهمة وضع وتطوير إدارة متكاملة للنفايات الصلبة المنزلية، علينا في البداية طرح ست أسئلة إستراتيجية:
الأول، ما هو تركيب النفايات الصلبة المنزلية اللبنانية؟ وهنا أقول اللبنانية، وليس الأميركية أو الأوروبية، كما يحلو للكثيرين، تجاوز التركيب الخاص والمميز للنفايات اللبنانية، الذي يرتبط بالعادات الغذائية الخاصة للشعب اللبناني، وكذلك العادات الإجتماعية التي تميِّز مجتمعنا اللبناني والعديد من المجتمعات العربية، ويذهبون إلى إسقاط نماذج أجنبية لا تستقيم مع التركيب الخاص لنفاياتنا، إن من حيث المكوِّنات، أو من حيث نسب هذه المكونات في النفايات.
والثاني، ما هي كميات النفايات المتولدة في كل لبنان، وفي كل منطقة، وقضاء، وبلدية وإتحاد بلديات؟ لكي يصار إلى تقدير أفضل الخيارات وأكثرها جدوى إقتصادية، أخذا بعين الأعتبار إحترام المباديء العامة لإدارة النفايات، التي تقول بأفضلية معالجتها في أقرب مسافة ممكنة عن مكان تولُّدها.
والثالث، ما هي المعالجات الممكنة؟ وذلك بالعلاقة مع الإجابة على السؤال الأول، وعلى ضوء تركيبها الواقعي والدقيق.
والرابع، أي نظام للجمع مطلوب إعتماده؟ وذلك بالعلاقة مع الإجابة على السؤال الثالث وعلى ضوء المعالجات الممكنة والأكثر عقلانية وجدوى.
والخامس، أي نظام للنقل مطلوب إعتماده؟ وذلك بالعلاقة مع الإجابة على السؤال الرابع وعلى ضوء نظام الجمع الأفضل والأكثر جدوى الذي تم اختياره.
والسادس، ما هو حجم وقدرة المعمل؟ وذلك بالعلاقة مع الإجابة على السؤالين الثاني والثالث وعلى ضوء كميات النفايات والمعالجات الأفضل والأكثر جدوى لكل مكوِّن منها.
فيما يتعلق بالمسألة الأولى، تركيب نفاياتنا، نرى أن المكونات العضوية تشكل حوالي 55-60 بالمئة من مجمل النفايات الصلبة المنزلية، وهذا ما يجعل من هذه المكونات، وفق رؤيتنا، أساس مشكلة النفايات، ومفتاح حلِّها في آن معا. إن هذه المكونات العضوية، هي القابلة للتحلل والتعفن وإطلاق الروائح الكريهة، ونمو الجراثيم واجتذاب الحشرات والقوارض، وهي التي تولِّد عصارة تنز وتتفاعل مع المكونات الأخرى للنفايات من معادن وملوثات من طبيعة كيميائية متنوعة.
هناك أيضا، فئة النفايات الخطرة المنزلية، وهي وإن تكن تشكِّل نسبة لا تتجاوز 2-3 بالمئة من مجمل النفايات، ولكنها تتمتع بأهمية كبيرة لجهة ضرورة فصلها عن مجمل النفايات الأخرى، ووضع نظام خاص بها للجمع والنقل والتخزين والمعالجة ضمن خطة وطنية مركزية خاصة بالنفايات الخطرة، تضعها الحكومة لإدارة النفايات الخطرة، والتعامل معها. وإن لم تفصل، كما يحصل حاليا، وتبقى مختلطة مع المكونات الأخرى للنفايات، فإنها تكون مسؤولة عن تلويث مجمل النفايات، وإعاقة سلامة إدارتها، والتسبب بتلويث كبير للبيئة وتبعات عالية الخطورة على الصحة العامة. تشمل هذه المجموعة عبوات مواد كيميائية والأدوية منتهية الصلاحية، والبطاريات من كل الأنواع والأحجام، ومصابيح التوفير التي تحتوي على الزئبق السام، وعبوات مواد التنظيف والتجميل والعناية الشخصية، وكذلك التجهيزات الكهربائية والإلكترونية، وعبوات الغاز من كل الأحجام، وعلب الدهانات والمعاجين الصناعية، وعبوات الأدوية الزراعية ومبيدات الحشرات. يمكن لهذه المواد والتجهيزات المصنفة نفايات خطرة منزلية، أن يتم جمعها بشكل منفصل، مرة كل شهر أو أكثر، لتخزن على مستوى القضاء أو المحافظة، وتضاف إلى نظام إدارة النفايات الخطرة على المستوى الوطني، وحسب أنواعها. إن نظاما وطنيا من هذا النوع لإدارة النفايات الخطرة لم ير النور بعد في لبنان، على الرغم من أنه يشكل حاجة ملحة وعلى درجة عالية من الأهمية.
في المسألة الثانية، تقدر كمية النفايات الصلبة المنزلية المتولدة في كل لبنان بحوالي 6350 طن يوميا، تتوزع بين المناطق والمحافظات، حيث تكون كمية النفايات في بيروت حوالي 900 طن/يوم، وفي جبل لبنان حوالي 1600 طن/يوم، وفي محافظة الشمال حوالي 700 طن/يوم، ومحافظة البقاع حوالي 450 طن/يوم، ومحافظة الجنوب حوالي 300 طن/يوم، ومحافظة النبطية حوالي 350 طن/يوم. ويكون الفارق بين هذه الكميات والكميات الإجمالية المذكورة ناتج عن النازحين السوريين المنتشرين في كل المناطق اللبنانية.
بالعلاقة مع المسألة الثالثة، ما هي المعالجات الممكنة بالعلاقة مع أولويات الإدارة المتكاملة وتركيب النفايات في لبنان، نرى بأن الكمية الأكبر هي من المكوِّنات العضوية، التي يمكن لها أن تصل خلال فصل الصيف إلى أكثر من 65 بالمئة من مجمل النفايات، وكما أشرنا سابقا، هي المسؤولة عن التعفن والتحلل والروائح وتولد العصارة ونمو الجراثيم واجتذاب الحشرات والقوارض الناقلة للأمراض.
إن هذه المكونات يمكن لها أن تعالج بالتفكُّك الهوائي أو التسبيخ Composting، حيث يمكن خلط المكونات العضوية المتولِّدة عن المنازل والمطاعم مع نفايات الحديقة من أوراق شجر متساقطة وأغصان وأعشاب و”غازون”، وكذلك مع روث المواشي مثل البقر والماعز. عملية الهضم الهوائي هي عملية بسيطة وسهلة، ويمكن تطبيقها تقنيا بحيث يتم اختصار مدة التفاعل، وتحسين نوعية المنتج. ينتج عن هذه العملية ما يسمى سبيخا أو compost، ويستعمل لتحسين خصائص التربة الزراعية كمحسِّن للتربة وسماد طبيعي للتربة الزراعية. إن لبنان يستورد هذا المنتج من بلدان أوروبية مثل هولندا وغيرها لتلبية حاجات السوق اللبناني لهذا المنتج، أي من بلدان وضعت إدارة متكاملة لنفاياتها، وتُحسِن إدارة نفاياتها العضوية. لكي نحصل على منتج عالي الجودة علينا جمع المكونات العضوية من أماكن تولُّدها، في المنازل وأسواق الخضرة والحدائق والمطاعم، مفصولة على حدة عن باقي أنواع النفايات.
يمكن أيضا أن نعالج المكونات العضوية للنفايات الصلبة المنزلية، بعمليات الهضم اللَّاهوائي Anaerobic digestion. تسمح هذه العملية بجمع المكونات العضوية للنفايات الصلبة المنزلية والبلدية مع نفايات المطاعم والمؤسسات السياحية ومطابخ المؤسسات الإستشفائية ونفايات الحدائق المنزلية والبلدية ونفايات أسواق الخضار والفواكه ونفايات المسالخ والملاحم، باستثناء العظام، التي تتطلب إدارة ومعالجة منفصلة، حيث يمكن استعمالها لتصنيع الغراء، وكذلك الدهون والزيوت النباتية والحيوانية والنفايات العضوية من معامل صناعة المشروبات والعصائر، مثل عصائر البرتقال والتفاح والجزر وغيرها، ونفايات عضوية من معامل الصناعة الغذائية وتعليب المواد الغذائية، ونفايات مزارع المواشي، ونفايات مصانع الحليب ومشتقاته، ونفايات أسواق السمك، وكذلك، وهذا مهم جدا بالنسبة للبنان، الوحول المتولِّدة عن محطات معالجة المياه المبتذلة.
ينتج عن عمليات الهضم اللَّاهوائي كميات هامة من البيوغاز الذي يحتوي على حوالي 50-60 بالمئة من غاز الميثان CH4 ويشبه بخصائصه الغاز الطبيعي. يمكن استعمال هذا الغاز في مولِّدات لتوليد الطاقة الكهربائية، وكذلك وقودا لإنتاج الطاقة الحرارية والكهربائية.
عند خلط المكونات العضوية من النفايات المنزلية والبلدية مع الوحول المتولدة عن محطات معالجة مياه الصرف الصحي تزيد كمية البيوغاز المتولد عن عمليات الهضم اللَّاهوائي، وتزيد نسبة الميثان في البيوغاز المتولد، أي تزيد القيمة الطاقوية للمنتج.
ينتج عن عمليات الهضم اللَّاهوائي، إضافة لكميات هامة من البيوغاز المولِّد للطاقة، كميات من السوائل الغنية بالمواد المغذية، ومن المواد الصلبة الشبيهة بالكوبوست، الغنية أيضا بالمغذيات، وتستعمل سمادا عضويا لإغناء وتحسين التربة الزراعية.
في سياق رؤيتنا البيئية والصحية والمستدامة للإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة المنزلية، نحن نستبعد نهائيا خيار الحرق لعبثيته، حيث أن المكونات العضوية تحتوي على 50-60 بالمئة من وزنها ماء، وتحتاج إلى كميات كبيرة من الطاقة لكي تجف وتصبح قابلة للحرق، وكذلك بسبب أن كمية الطاقة التي تحتويها هي أصغر بكثير من كمية الطاقة التي تحتاجها لكي تحترق، وبالتالي إن حرقها هي عملية خسارة للطاقة وليس إستردادا للطاقة كما يروِّج زورا وتضليلا مؤيدو الحرق في إدارة النفايات الصلبة المنزلية.
إن لعمليات الهضم اللَّاهوائي، في معالجة المكونات العضوية للنفايات مع كل تلك النفايات العضوية القابلة لأن تجمع سوية، أفضليات كبيرة، حيث أنها تشكل المساحة الآمنة والمفيدة المشتركة بين توليد الطاقة عبر البيوغاز الناتج عنها، وبين التسبيخ المولِّد للسماد المستعمل في الزراعة.
إن كل طن من خليط النفايات العضوية يولد حوالي 156 مترا مكعبا من البيوغاز، أي ما يعادل 95 مترا مكعبا من الغاز الطبيعي المتكافيء، أي حوالي 3610.000 ميغاجول من الطاقة الحرارية، أي ما يعادل 1 ميغاوات من الطاقة الكهربائية.
على ضوء أولويات الإدارة السليمة المتكاملة التي وضعناها، وبالعلاقة مع تركيب النفايات، تعالج المكوِّنات الأخرى بتحضيرها وبيعها للتدوير، حيث تتم المحافظة على الموارد وتسترد القيمة. فالورق والكرتون يشكل حوالي 17 بالمئة من نفاياتنا الصلبة المنزلية البلدية، تنقل لإعادة التدوير في معامل الورق والكرتون اللبنانية المتعطشة لهذه الموارد، ولإدخالها في دورتها الصناعية، حيث يتميز هذا الإدخال بجدوى إقتصادية هامة. وكذلك البلاستيك، الذي يشكل حوالي 10 بالمئة من نفاياتنا، ينقل إلى معامل البلاستيك لإعادة التدوير، حيث يتم إدخاله بنسبة حوالي 20 بالمئة مع الحبيبات الجديدة للبلاستيك. وهذا يرتبط بجدوى إقتصادية هامة.
إن لبنان، كان يستورد ولا يزال نفايات بلاستيكية لحاجة الصناعة اللبنانية، وذلك من بعض البلدان العربية مثل السعودية وقطر وليبيا. وكذلك كان يستورد نفايات الزجاج المفرز من النفايات من الأردن تلبية لحاجة صناعة الزجاج في لبنان.
نحن نستبعد كليا خيار حرق الورق والكرتون والبلاستيك لأفضلية تدويرها لناحية الحفاظ على الموارد وعدم تدميرها، ولتفادي التلويث البيئي الخطير المهدِّد للصحة العامة.
أما خردة المعادن والعلب المعدنية التي تشكِّل حوالي 5 بالمئة من مجمل نفاياتنا فهي ذات قيمة عالية تحتاجها المصانع اللبنانية، كما يمكن تصديرها. وكذلك الزجاج الذي يشكل حوالي 3 بالمئة من النفايات، يستقبل معمل التصنيع الحرفي في الصرفند الجزء الملوَّن منها. أما الزجاج غير الملون، فمع الأسف الشديد أقفل مؤخرا معمل “سوليفر” في الشويفات، وهو المعمل الأخير للزجاج في لبنان، بعد معمل “ماليبان” في البقاع، الذي دمرته الطائرات الصهيونية خلال عدوان 2006. معمل “سوليفر” كان يتعطش لإستقبال كل كميات الزجاج في نفاياتنا لو أنها جمعت ونقلت لإعادة التدوير. أما المنسوجات، التي تشكل حوالي 3 بالمئة من النفايات فتستقبلها جمعية Arcenciel لتدويرها وتصنيعها. وهذا ما عرفناه مؤخرا حين تم إعلان ذلك في مؤتمر عقد مؤخرا في بيروت بشأن إدارة النفايات. وكذلك الخشب، الذي يشكل حوالي 4 بالمئة من نفاياتنا، فإنه قابل لإعادة التدوير والتصنيع. أما النفايات الأخرى غير محددة التكوين، التي تشكل حوالي 5 بالمئة، فيمكن جمعها مع متبقيات عمليات تدوير الورق والكرتون والبلاستيك والخشب والمنسوجات، والتمعن في تركيبها وخصائصها لكي يتم تصنيع منتجات غير تقليدية من بعض مكوناتها، أو تصنيع وقود بديل نظيف وخال من المكونات الخطرة.
المسألة الرابعة، المتعلقة بنظام الجمع الملائم ربطا مع كميات النفايات والمعالجات المطروحة. نحن نرى أن من أجل تحقيق أولويات الإدارة السليمة المتكاملة للنفايات الصلبة المنزلية، ولتحقيق أعلى درجة نجاح في تنفيذ المعالجات، تتضمن خطتنا نظاما للجمع يرتكز على جمع منفصل للمكونات العضوية من مصادر تولدها، أي نظام فصل النفايات العضوية عن غير العضوية. يتميز هذا النظام ببساطته، وبكونه يتطلب تغييرا سلوكيا بسيطا وسهلا وغير معقد يعتاد عليه الناس بسرعة. هذا الفصل، يجب أن يكون ملزما بقرار واضح مترافق مع محفزات وعقوبات وحملات توعية واسعة ومستمرة.
المسألة الخامسة، المتعلقة بنظام النقل المناسب، الذي يشمل إعتماد آليات للنقل متناسبة مع نوع النفايات التي تنقلها، أي المكونات العضوية من جهة، وغير العضوية من جهة أخرى، وكذلك مع نوع العمليات التي ستخضع لها بعد النقل، وكذلك أن تكون متناسبة مع شوارع وطرق وأزقة القرى والبلدات والمدن التي تخدمها. يعتمد نظام النقل برنامجا زمنيا يلائم نوع النفايات التي ينقلها. فالمكونات العضوية من كل المصادر، يمكن جمعها ونقلها 3 مرات أسبوعيا، مثلا، الإثنين والأربعاء والسبت، حيث تجمع في مستوعبات مزودة بغطاء قابل للإقفال. أما المكونات غير العضوية، أي النفايات الأخرى، يمكن أن تجمع مرة واحدة أو مرتان أسبوعيا، مثلا، الثلاثاء و/أو الخميس، تجمع في مستوعبات أو أكياس متينة كبيرة الحجم تفرغ في الآلية عند جمعها، لتنقل إلى معمل الفرز والتوضيب.
المسألة السادسة، المتعلقة بمعامل الإستقبال والتحضير والتوضيب و المعالجة، حيث تنقل النفايات العضوية إلى مركز المعالجة. يتم هناك تحضيرها قبل إدخالها إلى مفاعل الهضم اللَّاهوائي. وتشمل عمليات التحضير، إزالة الآلات المعدنية بواسطة المغناطيس، حيث يمكن وجود ملاعق وشوك وسكاكين، وفرمها بعد ذلك إلى قطع بحجم 1 سم3 تقريبا، ويصار إلى بسترتها Pasteurization بهدف تعقيمها عبر تعريضها لحرارة 70 درجة مئوية لمدة ساعة واحدة على الأقل، ويتم بعد ذلك إدخالها إلى مفاعل الهضم اللَّاهوائي لتوليد البيوغاز الغني بالميثان.
تنقل المواد غير العضوية إلى مركز للإستقبال، حيث يتم فصل المواد عن بعضها، الورق والكرتون والبلاستيك والمعادن بأنواعها، الحديد والنحاس والألمنيوم، وكذلك الزجاج والمنسوجات والخشب. توضَّب المواد كل على حدة، وتحضر لإرسالها إلى مصانع التدوير المناسبة.
يتم فصل المتبقيات من المواد غير المصنفة، حيث يدرس إمكانية تصنيع منتجات غير تقليدية من بعض مكوناتها، ويتم فرم الباقي من المواد وغسلها وتجفيفها لتصبح وقودا بديلا صالحا للإستعمال في مصانع الإسمنت. أو يصار إلى طمرها في “مطمر صحي” وفق المواصفات العالمية، إذا كان هذا المطمر موجودا على مسافة قريبة من مركز الإستقبال والفرز والمعالجة، لا في مكب عشوائي أو مزبلة قائمة.
مركزية القرار ولامركزية التطبيق
هذه الخطة الوطنية المتكاملة لإدارة النفايات الصلبة المنزلية تُقر مركزيا على مستوى الحكومة، وتصدر بمرسوم، وتطبق لامركزيا على مستوى الأقضية أو إتحادات البلديات، أو مجموعة بلديات آخذة بعين الإعتبار الأبعاد البيئية والصحية والإقتصادية والإجتماعية.
معامل الإستقبال والمعالجة تكون قريبة من مناطق جمع النفايات تفاديا للنقل إلى مسافات بعيدة. عند تطبيق هذه الخطة يتم الإلتزام الكامل بقانون حماية البيئة رقم 444 للعام 2002، وكل المراسيم المتعلقة به، ولا سيَّما مرسوم “تقييم الأثر البيئي” وكل القوانين والتشريعات البيئية الأخرى، مثل حماية الهواء من التلوث وغيرها.
إن حسن تطبيق هذه الخطة يتطلب من الوزارات والمؤسسات الحكومية المعنية الإسراع بوضع لوائح مواصفات لكل ما يتعلق بالنفايات لناحية تعريف المواد، وتصنيفها، وطرق نقلها، وتخزينها، ومعالجتها، وإعادة إستعمالها وتدويرها، ومواصفات الوقود البديل المصنع من بعض متبقيات مكوناتها.
هذه هي الخطة المتكاملة، السليمة بيئيا والآمنة صحيا ومعقولة الكلفة، التي تتميز بالإستدامة وحفظ الموارد واسترداد القيمة، والتي تنتمي إلى المفاهيم الحديثة للإقتصاد الدائري، أي تجدد واستمرار الموارد عبر المحافظة على القيمة الموجودة في النفايات واستردادها دون تدميرها.