ليست أزمة آنية ولا عابرة، بل هي نتاج تراكمات أزمة مزمنة، أزمة النفايات وهي تنتقل من منطقة إلى أخرى في لبنان، في ظل معالجات قاصرة حيالها رغم مخاطرها البيئية والصحية، وغياب الخطط المتكاملة والمستدامة المفترض أن تتعامل مع الأزمة بشكل عام، تستند إلى دراسات شاملة لكافة المعالجات والمقاربات المقترحة من كل الجوانب واستشارة الخبراء من أكاديميين وخبراء سموم مشهود لهم في معالجة أزمات شبيهة، بهدف الوصول إلى حلول مستدامة تقي البلاد تداعيات هذه الأزمة التي تطاول ليس بيروت فحسب، بل كافة المناطق ومؤخرا صيدا!
أطلت أزمة جديدة من عاصمة الجنوب صيدا، وقد بدأت تعيش فصولها منذ العام 2015، أي مع بداية أزمة النفايات، ولكن ما هو قائم في صيدا منذ تلك الفترة يعتبر أكبر مما واجهته المدينة مع “جبل النفايات” الذي تمكنت من معالجته بعد إنشاء معمل معالجة، إلا أنها الآن تواجه “جبلا” جديدا من العوادم، فضلا عن خمسمئة طن من النفايات الطبية المعالجة.
Arc En Ciel
وفي هذا السياق تابع greenarea.info مشكلة النفايات الطبية مع القيمين والمعنيين بمعالجة النفايات الطبية، والتقى المسؤول عن مراكز تعقيم النفايات الطبية في “جمعية أركنسيال” Arc En Ciel روماريك كازاريان بوجود مساعده مارك كرم.
أشار كازاريان إلى أن “Arc En Ciel تأسست في 21 تشرين الأول (أكتوبر) من العام 1985، وبدأت عملها بمساعدة الأفراد ذوي الحاجات الخاصة خصوصا بعد الحرب الأهلية لتأمين انخراطهم في المجتمع، وأصبحت تتابع ما يتطلبه المجتمع على الأرض لتنفيذه”.
وقال: “صدر في العام 2003 عن وزارة البيئة مرسوم يعنى بمعالجة النفايات الطبية التي تحمل مخاطر العدوى، وأسست (أركنسيال) بالتالي مركزا لمعالجة نفايات المؤسسات الصحية DAS، عندما وجدت أن لا مراكز لمعالجة هذه النفايات الخطرة، وأطلقت شبكة وطنية لإدارة هذه النفايات، ويتضمن برنامجها دورات تدريبية لموظفي مؤسسات الرعاية، وجمع ومعالجة هذه النفايات في خمسة مراكز تغطي كافة مناطق لبنان”،
وأضاف كازاريان: “بدأ العمل بشاحنة منذ العام 2004، لجمع النفايات الطبية من كافة مؤسسات الرعاية، من مستشفيات ومختبرات وغيرها، وطلبت من بلدية بيروت استحداث مركز ثابت، وهو مركز جسر الواطي، ومركز في مستشفى أوتيل ديو لمعالجة نفاياتها، وقد نستعمل هذا المركز لمعالجة نفايات مناطق أخرى في حال حدوث أعطال، ومركز في زحلة وصيدا وزغرتا، لمعالجة النفايات محليا في كل منطقة، إلا أن مركز زغرتا أُقفِل ونحاول إعادته للعمل، وعلى الرغم من إقفاله لم يتوقف عملنا ولا زلنا نوزع هذه النفايات على المراكز الأخرى لمعالجتها، وبعلم وزارة البيئة التي تحاول مساعدتنا على إيجاد موقع في الشمال لإعادة المعالجة والتقليل من كلفة المواصلات، خصوصا أننا جمعية لا تبغي الربح وتكلفة المعالجات تعد الأقل في محيطنا في الشرق الأوسط”.
وقال: “بدأ الموضوع يعرف أكثر، خصوصا مع التزام المستشفيات ومتابعة وزارة الصحة بين الأعوام 2009 و2010، حيث وصلنا إلى نسبة معالجة 50 بالمئة من هذه النفايات، وقامت وزارة الصحة بإلزام المستشفيات كافة بتعقيم النفايات الطبية الناتجة عنها في 2012، عبر نظام اعتماد المستشفيات Accreditation الذي تتابعه وزارة الصحة، وتفرضه على المستشفيات، كما أن وزارة البيئة تقوم بكشوفات دورية لتتأكد من التزام هذه المؤسسات بمرسوم وزارة البيئة رقم 2004-13389، وهو يحدد هذه النفايات الناقلة للعدوى وأنواعها وطرق المعالجة”.
وأشار كازاريان إلى أن “أزمة النزوح السوري زادت من الأعباء الملقاة على عاتقنا خصوصا بعد العام 2012، حيث اضطررنا لمتابعة النازحين الحالات الإجتماعية والصحية، لدرجة التوقف عن التعاقد مع المزيد من المستشفيات، وحتى أننا طلبنا من المؤسسات التي نتعامل معها بالإنتباه إلى كمية نفاياتها حتى أتينا بأجهزة أكبر وأحدث قادرة على استيعاب الكميات، ومنذ العام 2015 لم تزدد التكلفة، لأن الكمية تعوض على التكلفة، مع العلم أن نفايات المستشفيات كمياتها أكبر وأسعارها أقل من المختبرات ومراكز البحوث”.
النفايات الخطرة
وأشار إلى أن “عملنا محدد من نفايات المؤسسات الصحية التي تقسم إلى قسمين، النفايات الطبية غير الخطرة وهي مشابهة للنفايات المنزلية وتشكل 75 بالمئة من نفايات المستشفيات وفيها الأوراق، المحارم الورقية، بقايا الطعام والأزهار وغيرها، ويبقى منها النفايات الخطرة ونسبتها بين 20 و25 بالمئة، وهذه النفايات تقسم إلى قسمين أيضا نفايات حاملة لخطر العدوى وهي على تماس مع إفرازات الجسم البشري من سيرنغات Syringes، وبقايا أعضاء وأكياس وحاويات بلاستيكية وغيرها، والنفايات الخطرة الأخرى من العلاجات الطبية منتهية الصلاحية، والمواد الكيميائية والمشعة وغيرها، والأخيرة لا نعالجها لأن حل لهذه المواد إلا بالحرق، وليس لدى (أركنسيال) توجها لمعالجتها أو استحداث منشأة خاصة، ولهذا فعملنا يتجه لجمع هذه الكميات القليلة من كل المؤسسات المتعاقدة معها ووضعها في مستوعب واحد وترحيلها لتعالج في الخارج، ولكن هذا الإتجاه تعترضه الكثير من المصاعب، منها أذونات وموافقات بالمرور ببلدان معينة وفقا لاتفاقيات دولية، خصوصا اتفاقية بازل التي تحكم بلدان العالم الثالث مثل لبنان بإرسال هذه النفايات إلى بلدان العالم الأول، ولا زلنا نعمل على هذا الموضوع، والكمية قليلة للغاية لتستوعبها محرقة خاصة لنا من ناحية الجدوى الإقتصادية، ففلاتر مثل هذا النوع تشكل 65 بالمئة من تكلفة المحرقة الخاصة بهذا النوع من النفايات، ولا نتعامل مع المواد المشعة والكيميائية”.
وقال كازاريان: “تبقي المستشفيات المواد المشعة لفترة في مستوعبات خاصة مصنوعة من الرصاص، وكون أقصى مدة لها (منتصف حياة) half-life بالإنكليزية أو بالفرنسية demi vie هو 8 أشهر، تتخلص المستشفيات بعدها منها كنفايات توضع داخل الأرض ويصب فوقها باطون مسلح، ولكن هذا النوع من النفايات لا نعلم كيف يعالج بالمجمل، وإن كان ثمة رقابة على هذا الموضوع”.
من ناحية الرقابة، قال إن “وزارة البيئة ووزارة الصحة تتابع عملنا عن طريق كشوفات دورية”، مؤكدا أن “العمل شامل وكبير، وإن كانت الرقابة علينا بهذا الشكل المهني فلا بد أن تكون ممتازة، وهي جزء من إعتماد المستشفيات، كما نرسل تقريرا كل 3 أشهر لوزارة البيئة للكميات الناتجة عن المستشفيات وهي تتابع هذا الأمر، خصوصا إن تقاعست أي مؤسسة صحية عن إرسال نفاياتها”، وأضاف: “قد تمتنع بعض المستشفيات بسبب الكلفة الإضافية ولكننا أقل كلفة في محيطنا المتوسطي كما قلنا فهي تتراوح بين 64 سنتا ودولار واثنين وسبعين سنتا للكيلو، كما نعالج كافة الحقن غير المستعملة منتهية الصلاحية من الجمعيات والأفراد، خوفا من استعمالها لمن يتعاطون المخدرات، كما أن بعض الأفراد ممن يستعملون الحقن بشكل متواصل مثل الأطباء ومرضى السكري وأطباء الأسنان، ونحاول العمل مع النقابات الطبية ليرسلوا إلينا هذه المواد، ولا نستطيع لا نحن ولا الوزارات المعنية ضبط كافة المصادر، من منازل وغيرها، ولا نستطيع مع اقفال مركز زغرتا تحمل المزيد من الأعباء، كما أن هناك مراكز خاصة في مستشفيات معينة مرخصة من وزارة البيئة تعالج نفاياتها بنفسنا، ونستطيع القول أننا نعالج حوالي 85 بالمئة من هذا النوع من النفايات في لبنان”.
أزمة صيدا
أما عن صيدا، فقال كازاريان: “في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، أي منذ بدء أزمة النفايات لم تكن المدينة تعالج نفاياتها الطبية، بل كنا نعالجها في مركز بيروت، ومع توقف ومنع جلب النفايات المعالجة والمعقمة من المناطق إلى بيروت، شاهدنا ما حصل مع أزمة النفايات، ونؤكد أن هذه النفايات المعالجة أنظف من نفايات المنازل كونها تخضع لعملية تعقيم ضد الجراثيم باستعمال مؤشر خاص عبارة عن أبواغ (spores) لبكتيريا معينة (Geobacillus stearothermophilus) (الصورة رقم 1) نستعمله مع كل عملية،كما نستعمل مؤشرا آخر للوصول لدرجة الحرارة (140 درجة مئوية) والضغط العالي (5 بار)، (الصورة رقم 2) لتعقيمها بشكل كامل، وبالتالي تكدست النفايات في بيروت وصيدا، وخلال أسبوع في بيروت كانت كمية النفايات كبيرة للغاية، ما اضطرنا للتوقف وأبلغنا المستشفيات أنه خلال 24 ساعة سنتوقف عن جمع نفاياتها، وتحرك المعنيون عبر ضغط إعلامي، خصوصا بعد توقف المستشفيات عن استقبال المرضى، وبالتالي دفع هذا بوزارتي البيئة والصحة برفع كتاب إلى مجلس الإنماء والإعمار، فطلب من المشغل سوكلين في ذلك الوقت، حتى وإن توقف عن جمع النفايات من كل أنحاء بيروت، أن يأخذ نفاياتنا، فالفريق المعاون للوزيرين وجد من الحكمة انه يكفي على الناس أزمة النفايات ولن نضيف أزمة ميكروبات وجراثيم، وتم حل المشكلة في بيروت، أما في صيدا، فلدينا مساحة أكبر، ما جعلنا نكدس كمية أكبر، وقد بلغت كميتها حتى الآن 500 طن، وقد اجتمعنا مع وزير البيئة يوم 16 آذار (مارس) 2017، وتجاوب مع مطالبنا بضرورة التخلص من النفايات وبأسرع وقت، خوفا من أن يتكرر ما حصل في بيروت مع صيدا، وعلمنا أنه أرسل كتابا إلى مجلس الإنماء والإعمار بضرورة التخلص من هذه النفايات المعالجة والمعقمة في مطمر صحي، وتبين أنه ليس لبلدية صيدا طريقة لمعالجة هذه المشكلة، ولديها شركة خاصة مخولة بمعالجة نفاياتها، هي شركة IBC، واجتمعنا مع مجلس بلدية صيدا ممثلة برئيسها محمد السعودي وشركة IBC التي تعاني أيضا من تكدس عوادم في نطاق شركتها، لا تبلغ كمية نفاياتنا 5 بالمئة من نفاياتها، ولا نعلم ماهية الإتفاق بين البلدية والشركة ومجلس الإنماء والإعمار، ولكن الوضع صعب للغاية، ولدينا طنا ونصف الطن إلى طنين يوميا، ولا ندري كيف سنتصرف”.
وقال كازاريان: “حاولت IBC التعامل مع نفاياتنا كما تتعامل مع بعض العوادم بصناعة بلوكات منها على شكل حجارة كبيرة للزينة، ولكن لم تنجح وكان الرد أن رائحة كريهة تصدر منها، كما لم توافق نقابة المهندسين على اعتماد هذه المواد، وحاولنا إرسالها مع العوادم الخاصة بالشركة ولكن لم يأت رد، ونسبة هذه النفايات قليلة لا تتجاوز 1 إلى 1،5 بالمئة من النفايات، لذا يمكن التعامل معها، وقد حاولنا الوصول إلى حلول مع البلدية ولكن دون نتيجة، في الخارج تعالج هذه النفايات باستخراج المعادن منها مثل الحديد وطمرها بمطمر صحي أو حرقها وتوليد الطاقة، وسنحاول عدم التوقف، ولكن لا نستطيع استيعاب المزيد، وأن يتكرر سيناريو ما حصل في بيروت وايقاف استقبال النفايات وقد تتوقف المستشفيات في عاصمة الجنوب عن استقبال المرضى”.
وزارة البيئة
وأرسل موقع greenarea.info كتابا لوزير البيئة طارق الخطيب، طلب منه توضيح هذه المسألة أو من ينتدبه، وبالفعل تجاوبت وزارة البيئة وكان لقاء مع رئيسة دائرة السلامة الكيميائية في مصلحة تكنولوجيا البيئة في وزارة البيئة فيفيان ساسين، فقالت: “بداية هناك نص قانوني يرعى هذا الموضوع وهو المرسوم 13389 الصادر في العام 2004، ويحدد ويصنف النفايات الصادرة عن المؤسسات الصحية، ووفقا للمرسوم، فإن مركز Arc En Ciel في صيدا هو منشأة لمعالجة وتعقيم النفايات الخطرة والمعدية الصادرة عن المؤسسات الصحية، وبعد المعالجة تصبح هذه النفايات معقمة شبيهة بالنفايات المنزلية، ووفقا للمرسوم يمكن إرسالها إلى أي مطمر صحي، وفي ظل الوضع القائم ومشاكل المطامر الصحية، ونتيجة حاجة لمركز أركنسيال أسوة ببقية المراكز الموجودة، أرسل معالي الوزير وبعد اجتماعه مع وفد منهم ودراسة قدرة استيعاب المطامر الموجودة وكمية النفايات الصادرة عن المركز كتابا إلى مجلس الإنماء والإعمار، وتمنى عليهم استيعاب هذه النفايات طيلة تشغيل المطمر الصحي المؤقت قرب مصب نهر الغدير أو ما يعرف بالكوستابرافا، لأن قدرة الإستيعاب كانت الأكبر بين المطامر الموجودة”
وأضافت: “مشكلة الأركنسيال بدأت بعد أن نقلت بلدية صيدا وظيفة معالجة النفايات إلى شركة IBC”، وعما إذا كانت ثمة بوادر لحلول سريعة، قالت ساسين: “ننتظر جواب مجلس الإنماء والإعمار بهذا الخصوص، حتى يصار إلى تأمين حل جذري”.
وتابعت ساسين: “لا يخفى أن المرسوم يفرض على كل مؤسسة صحية ضرورة معالجة نفاياتها بنفسها، ولا ينص المرسوم على إعطاء نفاياتها لمؤسسة خارجية لمعالجتها، ولدينا طاقما فنيا لمراقبة هذه العملية وبشكل مستمر ودوري على شكل كشوفات وتقارير بناء على التعميم رقم 11/1 بتاريخ 2011، خصوصا مراكز المعالجة داخل المستشفيات، فعلى الملوّث تدبير مركز لمعالجة نفاياته، أما الوزارة فيشمل عملها إعطاء الإطار القانوني لهذه العملية، ولكننا نتتدخل لمساعدة أي جهة بحاجة لمشورة أو مساعدة في هذا المجال، لإيجاد حلول بيئية لتخفيض الأثر البيئي لأي ممارسة”.
تساؤلات مشروعة
في ظل هذه الأزمة والأزمات البيئية المزمنة، ألم يحن الوقت لحل جذري وشامل؟ وإلى متى تكون سلطة وحكم مجلس الإنماء والإعمار فوق سلطة الوزارات المعنية؟ وهل الأزمة مفتعلة بهدف استحداث مطامر جديدة، أو وضع المواطنين والمؤسسات الصحية والوزارات المعنية والتنفيذية أمام الأمر الواقع؟ وذلك بهدف تشريع المحارق التي لم يدرس مدى فاعليتها وقدرتها على استيعاب هذه النفايات والتخلص منها بشكل صحي، خصوصا وأن هذا النوع من النفايات يتطلب فلاتر ذات تقنية وتكلفة باهظة، ما يترتب عليها ديون إضافية وتلوث جديد لنتعامل مع مشكلات أكثر تعقيدا، وهي الرماد الناتج فضلا عن الغازات الضارة التي ستضيف إلى أجوائنا ملوثات أكثر سمية.
وماذا عن جبل عوادم شركة IBC؟ هل ننتظر مجلس الإنماء والإعمار ليأخذ قرارا ويطلب من الشركة المشغلة (جهاد العرب) حل هذه الأزمة؟ أم تتجه الحكومة بإلزام كافة الأطراف بأمر تنفيذي مبرم بحل هذه المشكلة وبأسرع وقت، وقبل أن يصل مريض في حالة طوارئ ويرفض استقباله؟