قبل سنوات عدة، ظنّ أهالي صيدا والجوار أن أزمة النفايات المستعصية، وجبل النفايات الكارثي الذي كان جائما على شاطئ المدينة الجنوبي الغربي قد وجدت طريقها إلى حل جذري، تمثل في بناء معمل لفرز ومعالجة نفايات الجبل المتراكمة، ونفايات المدينة والجوار بطرق حديثة وتقنيات متطورة، وتوسّموا خيراً بعد أن سمعوا كلاماً كثيراً عنها، توج في مهرجان “مبهرج” نظمته بلدية صيدا في 4/10/2012 برعاية وحضور وزير البيئة الأسبق ناظم الخوري، في باحة “مستودعات البساط” مقابل موقع المكب على البولفار البحري، وتخلله توقيع اتفاقية إطلاق المشروع بين وزارة البيئة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، بمشاركة رئيس بلدية صيدا المهندس محمد السعودي، وكانت آمال سكان المدينة الطيبين معلقة على هذا المشروع الذي سيحررهم، بحسب العقود الموقعة، من الانبعاثات القاتلة التي كانت تنتشر في سماء المدينة والجوار لسنوات طويلة.
إلاّ أن الانتظار لم يطل بهم ليكتشفوا أنهم وقعوا فريسة خديعة مركبة، لجهة أن المكب الذي قيل إنه سيزول فيما تم فقط تخفيض ارتفاعه وطمره بالأتربة والرمول لتوفير مبالغ طائلة من عملية النقل والفرز والمعالجة لصالح المتعهد، وتحت حجة تحويل المكان بعد سنوات إلى حديقة بعد استنفاذ مخزون غاز الميثان المتصاعد من المواد العضوية التي طمرت في المكان. أما الوجه الآخر للخدعة، فتمثل في أن الشركة المشغلة لمعمل النفايات كانت قد وقعت عقد المشروع عام ألفين واثنين مع البلدية، وضمن شروط محددة تقوم الشركة وفق أحدها بمعالجة 200 طن يومياً من نفايات المدينة ومحيطها مجاناً لمدة عشرين عاماً، مقابل أن تصبح أرض المعمل ومساحات الطمر حوله والتي تزيد مساحتها عن 50 ألف متر مربع كجزء من ملكية الشركة، إضافة إلى أن كمية النفايات التي تزيد عن 200 طن المتفق على علاجها مجاناً يتم معالجتها مقابل مبلغ يتراوح بين 28 و44 دولار للطن الواحد، إلاّ أن الشركة التي تأخرت عشر سنوات لبدء تنفيذ العقد لم تلتزم ببنوده، لا سيما تلك التي تلزمها بالمعالجة المجانية لـ200 طن من النفايات، فطالبت مقابل معالجة طن النفايات خلال أول سنتين من بدء التنفيذ بـ 85 دولار، ثم رفعت التكلفة إلى 95 دولار للطن، وهذا يعني أن مبالغ طائلة قد دخلت إلى حساب الشركة تتجاوز 7 ملايين دولار سنوياً هي من حق أبناء المدينة وجوارها، وهنا لابد من وضع علامات استفهام عديدة على دور البلدية وعدم متابعتها إلزام شركة IBC تنفيذ بنود الاتفاقية، ومَن المستفيد من وراء هذه التغطية المتعمدة للسرقات التي تقوم بها الشركة للمال العام؟ إضافة إلى عدم القيام بمهمة معالجة النفايات بما يتلاءم مع وعودها لناحية السلامة الصحية والبيئية وانتشار الروائح الكريهة وعدم الحاجة إلى مطامر صحية؟ فمن يعرف موقع المعمل غير البعيد عن مكان جبل النفايات القديم، سيرى ويلمس أن نسبة التلوث الهوائي التي كانت قبل الاحتفال بإزالة الجبل قد زادت، وأن الروائح المنتشرة في المنطقة توسعت دائرتها وأصبحت أكثر خطورة مع بناء الحاجز البحري، وتحول المساحة خلفه إلى بركة آسنة لمياه المجاري وعصارات النفايات التي تطمر بها من دون معالجة سليمة، ما يهدد سلامة المياه الجوفية وصحة المواطنين في المنطقة.
البيضاوي: البداية كانت كارثية
كثيرة هي الأسئلة هنا، كذلك المعلومات عن الفساد المستشري بين الأطراف الراعية والمنفذة لمعمل فرز ومعالجة النفايات على شاطئ صيدا الجنوبي، وقد حمل موقع greenarea.info بعضها للحصول على أجوبة من المدير العام لهذا المشروع المهندس سامي البيضاوي الذي جهد بلباقته وحرفيته أن يبتعد عن كل ما يكشف عورة أصحاب المشروع ورعاتهم، إلا أن في كلامه ما يوصل إلى هذا الهدف، إذا ما قرأنا في السطور وما خلفها.
وفي ما يلي نص الحوار:
Green Area: هل لك أن تطلعنا على كمية النفايات التي يتم معالجتها وفقاً لشروط العقد يومياً علما أن طاقة التشغيل بحسب الشركة المصنعة تقدر بـ 300 طن يومياً؟
سامي البيضاوي: يستطيع المعمل معالجة 550 طن يومياً، ولكن لا يوجد أرقام دقيقة وثابتة للكميات التي يتم استلامها، أحيانا تزيد وأحيانا تكون أقل، إنما أعطيك نموذجا كعينة ليوم أمس: بلديات صيدا والزهراني التي تشمل 16 بلدية من بينها مخيمي عين الحلوة والمية ومية، وصلنا منها 240 طنا، ويصلنا نحو 12 طن يومياً من نفايات قضاء جزين، يضاف إلى هذه الكمية 160 طنا من نفايات العاصمة بيروت، وهو جزء من اتفاق لأخذ 250 طن يومياً وبشكل متدرج، لأن عملية ما يسمى (الهضم اللاهوائي) لا تمكننا من أخذ الكمية مرة واحدة.
Green Area: ما النسب المئوية لأنواع النفايات المفرزة في المصنع؟
سامي البيضاوي: هناك العوادم الثقيلة من أحجار واتربة ورمول وردميات وزجاج، وحتى نواة الفواكه تطحن معاً، وكل هذا نسبته نحو 4 بالمئة. وهناك العوادم الخفيفة، أي ما نسبته 20 بالمئة. والمواد التي يمكن تدويرها وتصل إلى نسبة 21 بالمئة عند الفرز، وربما نصفها من أكياس نايلون تتقلص نسبتها عند التدوير. أما الباقي أي 55 بالمئة فيتكون من مواد عضوية. هناك مراقب من وزارة الصناعة وآخر من اتحاد بلديات صيدا الزهراني للتأكد من الكميات التي نستلمها. من الناحية العملية يمكن تقدير كمية المواد العضوية المستخدمة من كمية الغاز المنتج، حيث إن كل طن عضوي غير مستنفذ ينتج 150 مترا مكعبا من الغاز، وتخف هذه الكمية مع زيادة نسبة التخثر قبل الوصول إلى المعمل، مثلاً الكمية الآتية من بيروت لا نستطيع معرفة تاريخها ودرجة التخثر، لذلك قد لا يتعدى إنتاج الطن المئة مترا مكعبا من الغاز. نتقاضى كشركة 95 دولارا كبدل لمعالجة طن النفايات. وهنا نشير الى ثلاثة أهداف:
-تكبير معالجة العضوي.
-تكبير كمية المواد القابلة للتدوير.
-وحكما تقليل نسبة العوادم.
عملية الفرز هي الأكثر تكلفة في هذه العملية، وهناك عملية تجميع وتخمير المواد العضوية في معدات ستانلس ستيل تتعرض للاهتراء كل مدة رغم أنها من أجود الأنواع، ونتكلف أكثر من مليون يورو قطع غيار نتيجة هذا الاهتراء.
Green Area: ما هو عدد الموظفين والعمال في هذا المعمل؟
سامي البيضاوي: العدد الإجمالي لا يقل عن 250 شخصا في شتى الميادين، أما التكلفة فلا أستطيع التحدث عنها فهي خارج نطاق عملي وصلاحياتي. ولكن دعنا نكون واقعيين، من يدخل في مثل هذا المشروع لا بد أن يجني الأرباح، وأقول لك إن هناك تطويرا كبيرا حدث في هذا المعمل، وبصراحة البداية كانت كارثية ولا شيء كان (زابط)، وقد علمتنا التجربة والزمن. بتقديري أن الكلفة الاستثمارية لمشروع كهذا بإنتاجية 550 طن يومياً تبلغ 50 مليون يورو، وكلفة المعالجة تتراوح بين 60 و65 دولارا للطن الواحد. وهناك مردود كبير من المواد القابلة للتدوير، لا سيما إذا استخدمت الطاقة الحرارية لإعادة تدوير المواد البلاستيكية. أما حجم الأرباح فهذه أمور لا أعرفها وخارج صلاحياتي، ولكن بإمكاني القول إن هناك مستثمرين يفكرون باستعادة أموالهم مع أرباحها خلال 6 سنوات وآخرين خلال 9 سنوات. وهنا أود الإشارة إلى ضرورة الاستفادة من القروض المقدمة من البنك المركزي في هذا الإطار، وهي مغرية جداً وبفوائد مخفضة لسنوات عدة. وأعتقد أن القطاع الخاص أضمن لتشغيل مثل هذه المرافق، ولكن لابد أن يترافق ذلك مع تشدد الدولة في مراقبة هذا القطاع وإلزامه بالشروط الأفضل صحياً وبيئياً، وإلا سيحدث تسيب كما حدث مع شركة سوكلين ومطمر الناعمة، حيث دفعت الدولة أكثر من مئة دولار، مقابل خدمة سيئة ومضرة بيئياً وصحياً لم تكلف الشركة أكثر من 25 إلى 30 دولارا للطن الواحد. وهذا النموذج السيء أرعب الناس ولم يعودوا مستعدين لقبول أي مشروع لمطمر صحي في مناطقهم لفقدان الثقة بالجهات المنفذة وإهمال الدولة، وساد الخوف من إمكانية تحول هذا المطمر إلى بؤرة للأوبئة والأضرار الصحية والبيئية. ولو أن الوضع في لبنان صحي كان من الممكن أن تقوم البلديات بهذه المهمة، لا سيما البلديات الكبرى والاتحادات، إلا أن رؤساء البلديات بمعظمهم يرون هذه المهمة ككرة النار لا يريدون الاقتراب منها أو يتقاذفونها في ما بينهم، على الرغم من الفؤائد المادية والاجتماعية التي قد تجنى من جراء ذلك للبلديات. وإذا كان التخوف من التجاذبات السياسية وعدم تسديد الدولة لمستحقاتهم فهذه حجة ضعيفة، والشاعر يقول: “وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا”، فنحن حوّلنا هذه التجاذبات لطاقة ايجابية وهذا المصنع أكبر مثال. فجميع المستحقات من الدولة حصلنا عليها بالكامل، وبطريقة جعلت كافة القوى في السلطة دون استثناء ورغم حدة التناقض السياسي بينها، تتسابق وبصمت لإظهار دعمها للمشروع ومستحقاته.
Green Area: ما نسبة النجاح المئوية التي تعطيها لهذا المشروع كصديق للبيئة وضمن المواصفات المتفق عليها؟
سامي البيضاوي: لا شك أن هناك نواقص لهذا المشروع من بينها عدم وجود شبكة لإيصال المياه الساخنة التي بالإمكان إنتاجها، بعض الجهات تطرح علينا تركيب محارق، فكيف سنستفيد من الطاقة الحرارية الكبيرة المنتجة وبشكل إيجابي يقلل من مساوئ هذه الطريقة في المعالجة أي الحرق المباشر، وهنا لا بد من التذكير بما خلص إليه أساتذة وخبراء في الجامعة الأميركية في بيروت والذين يعارضون بناء مثل هكذا محارق، لأننا بحسب قولهم غير مهيئين لذلك، لغياب الجهات المراقبة للتنفيذ والانبعاثات، وعدم وجود مختبرات متخصصة لمعرفة مستوى التلوث الناتج، يضاف إلى ذلك عدم وجود ثقة بالجهات المنفذة وبالسلطة السياسية. لذلك طرحنا على أصحاب مصانع الإسمنت في سبلين وشكا والكورة، التصالح مع محيطهم وطمأنته صحياً وبيئياً بخطوات ملموسة وشفافة، عندها سيكون من السهل حل مشكلة النفايات غير العضوية، والاستفادة من الطاقة الحرارية لها في مجالات عدة. من ناحيتي لا أحبذ الحرق المباشر في الوقت الراهن، وأفضل استرداد الطاقة بالحرق غير المباشر، وهذا ما تم فعله وتجربته على أرض الواقع. فبعد أن عجزتُ في إقناع أصحاب مصانع الترابة لأخذ هذه العوادم المتراكمة خلف المصنع والتي تزيد عن 20 ألف طن، ابتكرت طريقة لتحويل هذه العوادم إلى مواد صديقة للبيئة، مواد شبه طبيعية يتم استخدامها لترميم واستصلاح الأراضي المشوهة من المقالع والكسارات والمرامل، وقد قمت بإنتاج عينات على شكل أحجار الباطون لعرضها على الجهات المعنية، للحصول على رخصة تركيب جبالات ومعدات للتخلص من هذه العوادم التي أصبحت تمثل تحدياً رئيسياً لنا، وبدأنا نجهز أراضٍ كثيرة لاستيعاب الكميات التي سيتم إنتاجها، وتطبيق مقولة صفر عوادم.
مشكلة عجزت الدولة عن حلّها
وفي سياق متصل، قال بيضاوي: “أنا على يقين أنه وبفترة زمنية لا تتعدى الأشهر القليلة نكون قد تخلصنا من هذه المشكلة في حال تم إعطاؤنا رخصة الجبالات الخاصة، وهذا خيار لم ألجأ إليه إلا بسبب عدم توفر مطامر صحية أو محارق، لا سيما وأن معالجة طن العوادم بهذه الطريقة وخلطه بالإسمنت والبحص والرمل ومواد أخرى ستكلفنا 30 دولارا إضافيا.
وعن مدى نجاح هذا المشروع كصديق للبيئة وضمن المواصفات الدولية، قال: “لا أعتقد أنني الجهة التي عليها أن تقيّم، أنا أحاول أن أحل مشكلة عجزت الدولة عن حلّها، ومنفتح على كل الاقتراحات التي قد تحمل حلولاً أفضل صحياً وبيئياً.
وختم قائلا: “نحن أمام كأس نصفه ماء والبعض قد ينظر للنصف الفارغ. لقد تخلص المعمل منذ بدأ العمل قبل 4 سنوات ونصف السنة من 310 آلاف طن، وما بقي فقط نحو عشرين ألف طن، وربما طمرنا في البركة المجاورة 20 ألف طن آخر، فيكون مجموع ما لم يتم التخلص منه حتى الآن 40 ألف طن، أي أننا تمكنا من التخلص من النسبة الأكبر من كمية العوادم المستخرجة، وهذا نعتبره نجاحا إذا ما نظرنا الى واقع الحال وعجز الدولة والقطاع العام عن إيجاد خطة كاملة بديلة وأكثر نجاحاً.
صرخة أبناء المدينة ومطالبهم
في مقابل ما حاول البيضاوي تجميله، تبقى الحقيقة الناصعة لحيتان المال التي تحاول باستمرار البحث عن الوسائل والاساليب الخادعة التي تستطيع من خلالها زيادة سرقاتها وحساباتها المصرفية على حساب الوطن والمواطن. وتبقى ايضا صرخة أبناء المدينة المدوية ومطالبهم المحقة والتي لا تنازل عنها، وملخصها:
1-التزام كل من البلدية والشركة المشغلة بتطبيق العقد الموقع بينهما عام 2002، وخصوصا البنود المتعلقة بمعالجة 200 طن يومياً من نفايات اتحاد بلديات صيدا الزهراني، من دون كلفة ولمدة 20 سنة، ومعالجة الكمية التي تزيد عن ذلك بكلفة تتراوح بين 28 و 44 دولارا للطن.
2-تحذير البلدية ومن يقف خلفها من مغبة نقل ملكية الأرض المردومة إلى شركة IBC.
3-استكمال تجهيز المعمل بالمعدات والتقنيات الحديثة وفقاً لشروط العقد، لرفع الضرر البيئي والصحي عن الأحياء والمناطق المجاورة للمعمل.
4-رفض أي توريد للنفايات إلى المعمل من أي منطقة خارج إطار صيدا واتحاد بلديات الزهراني، والتقيد بالطاقة التشغيلية للمعمل وهي 300 طن يومياً.
5-رفض أي زيادة على كلفة المعالجة الحالية والبالغة 95 بالمئة، والمطالبة بتخفيضها، لا سيما أن الشركة كانت مستعدة – وفقاً للعقد – لمعالجة طن النفايات بكلفة لا تتعدى 44 دولارا.
6-السماح بمراقبة شعبية مختصة ومن المجتمع المدني لسير أعمال المعمل ومطابقتها للعقد والشروط البيئية والصحية.