للمرة الأولى في التاريخ يتظاهر العلماء في العالم قاطبة، وفي أكثر من 600 مدينة، رفعوا قبضاتهم وهتفوا تزامنا مع “يوم الأرض”، منتصرين للعلم في مواجهة سياسات التضليل والاستقواء.
في عصور الجهل والظلام كان العلماء يُقمعون، يُكفّرون ويُحرقون، أما اليوم فبات بإمكانهم التعبير عن آرائهم بعيدا من سياسة القمع والاضطهاد، التي سادت أوروبا في العصور الوسطى، ويبدو أن قدر العلماء أن يعيشوا – حتى في عصر العلم وثورة المعلومات – هذا الصراع بين الجهل والمعرفة، وإن بدا الأمر اليوم صراعا بين العلم ومصالح الدول، بين الحقيقة العلمية ونقيضها، ففي جدلية هذا الصراع يتبدى الوجه الظلامي ذاته، ولئن عبر عن نفسه سابقا بين السلطات الدينية والعلماء، فها هو يطل برأسه اليوم على نحو فاضح، موارب ومخاتل، في محاولة لتشريع تدمير الأرض.
نتفهم أن يتظاهر عاملون في قطاعات إنتاجية لتحسين ظروف معيشتهم، أما أن يتظاهر العلماء انتصارا لأبحاثهم، فهذا ما لا يمكن تصوره، فهذا المشهد السوريالي يبدو غريبا، عصيا على الفهم في القرن الحادي والعشرين، خصوصا وأن من يقود الحملة على العلم والعلماء هو رئيس الولايات المتحدة الأميركية، الدولة التي نظّر كثيرون بـ “انتهاء التاريخ” عند نموذجها الرأسمالي، وروجوا لانتصاره على غرار ما فعل فرنسيس فوكوياما في كتابه “نهاية التاريخ” الصادر عام 1992، وجاء الكتاب في لحظة ظن فيها فوكوياما أن انهيار الاتحاد السوفياتي شرع لأميركا التفرد بقيادة العالم، بنظرة ساذجة غلفها بمعايير أخلاقية لا تمت إلى الحقيقة بصلة.
ويأتي تحرك العلماء ليعبر أكثر عن أزمة الولايات المتحدة السياسية والاقتصادية، عن وهم تفوقها، عن نظرتها الدونية إلى سائر شعوب العالم، خصوصا مع تبني رئيسها دونالد ترامب خيارات مجنونة، ليعوض دورا لن تستعيده الولايات المتحدة وهي تواجه استحقاقات فضحت هشاشة اقتصادها، وأزماتها المالية.
إن من يتقصى ويعيد النظر بالتوجهات الأميركية منذ أكثر من نصف قرن حيال أوروبا والدول النامية، ويستعيد بعضا من أدبيات قادتها منذ مطالع القرن الماضي، يتأكد أن الساسة الأميركيين مهجوسون بلعب دورٍ “رسولي”، وأنهم بعثوا لتحرير العالم من قيود موروثاته وأيديولوجياته، ويمثل ترامب امتدادا لأسلافه في البيت الأبيض، ألم يخض جورج بوش (الإبن) الحرب على العراق برؤيا (بالألف) توراتية؟
لقد أظهر العالم بالأمس دعمه للعلم، وفي ذلك رسالة لا لبس فيها: سقوط وهم التفوق الأميركي!