القدرات العقلية لدى الكائنات الحية غير مرتبطة بحجم الدماغ، وهذا ما يتأكد في ما لو قاربنا عالم الطيور، ووقفنا على ما تتمتع به من ذكاء يفوق بمرات كثيرة بعض أنواع الثدييات الضخمة، وهذا ما خلصت إليه أيضا الكثير من الدراسات والأبحاث، وما تزال ثمة أسرار لم تُحل رموزها مرتبطة بسلوكيات الطيور عموماً، لا سيما وأنه في بعض الأحيان نجد أن لكل فصيلة ونوع عالما قائما بذاته.
من هنا، تبقى رحلة البحث واستكشاف هذا العالم مستمرة، مع وجود آلاف الأنواع من الطيور حول العالم، لذلك ما نعرفه عنها حتى الآن يكاد يقتصر على تصنيفها (نوعها، حجمها، ألوانها …الخ)، ذلك أن دراسة طبائعها دونها صعوبات، إن لناحية كثرتها، وإن لناحية خصوصية كل نوع، والوقت الذي تستغرقه كل دراسة، فضلا عن مصادر تمويلها.
لا يعني ذلك أننا لا نزال بعيدين عن معرفة بعض خصائص الطيور، فهذه باتت من البديهيات، لجهة وظيفتها، وأهميتها في النظم الإيكولوجية، ولا نتحدث هنا عن مفاهيم عامة، وإنما عن ما هو أبعد بكثير، أي ذكاء هذه الكائنات وقدرتها على التأقلم، وما تملك من إمكانيات لجهة استنباط وسائل تتيح لها الحصول على غذائها على سبيل المثال.
أكثير من غريزة
ما يهمنا في هذا المجال ليس الذكاء الفطري، وإنما الذكاء المكتسب تبعا للحاجة، وثمة دراسات أماطت اللثام عن تفاصيل كثيرة، خصوصا وأن ثمة 10.400 نوعا من الطيور، أي ما يزيد عن ضعف عدد أنواع الثدييات، ويقدر العلماء عدد الطيور البرية بين 200 إلى 400 بليون، وبعض أنواعها تتسم بذكاء شديد، كونها قادرة على حل ألغاز معقدة.
وبحسب مؤلفة كتاب “عبقرية الطيور” جنيفر أكرمان Jennifer Ackerman (راجع greenarea.info)، فإنه لا يمكن الحديث عن “ذكاء الطيور”، وهي ترى أن هذا التوصيف “لا يعد منصفا بالنسبة للفكر التعقيدي البارع للأنواع في كافة أنحاء العالم، وأن الوصف الأفضل هو عبقرية الطيور”.
وتقول أكرمان أن ما كان موضع اهتمامها ودراساتها، هو معرفة الخلايا العصبية وكيفية اتصالها ببعضها، حيث أن أدمغة الطيور منظمة بشكل مختلف عن أدمغتنا البشرية، وهي تضم العديد من الخلايا العصبية في مناطق رئيسية، ما يجعلها أكثر تعقيدا مقارنة بالشمبانزي وإنسان الغاب”، لكنها تستدرك لتقول “ليست كل الطيور ذكية بطبيعة الحال”.
الذاكرة المكانية وفطرة الهجرة
وفي هذا السياق صدر كتاب أواخر العام الماضي لا يقل أهمية، للمتخصص في عالم “الأحياء المعرفية” ناثان إيمري Nathan Emery، وهو يقدم إضافات علمية مهمة، بعد أن شهدت دراسة ذكاء الطيور تقدما هائلا، فقبل عشرين سنة كان ينظر إلى الطيور على أنها أشبه بآلات تحكمها غريزة بسيطة تستجيب فقط إلى المحفزات في عوالمها الخارجية، قبل أن يكتشف العلماء أن بعض الطيور لديها عوالم داخلية معقدة كذلك.
ويوفر هذا الكتاب، وهو بعنوان “دماغ الطير: استكشاف ذكاء الطيور” فرصة استكشاف عالم الطيور بأكثر مما هو معروف عنها، وقد بدأ ناثان منذ تسعينيات القرن الماضي يعنى بالأبحاث المتعلقة بذكاء الطيور، ويستعرض في كتابه بشكل رائع للعلوم الإدراكية، وعلم سلوك الحيوان، والمناقشات الحادة حولهما.
وبحسب ملخص عن الكتاب نشرته دورية “نايتشر” Nature، فإن ناثان يقارن أدمغة الطيور بأدمغة الثدييات، ليكشف أوجه التشابه الوظيفي في علوم التشريح المتفاوتة بينهما (مشبِّهًا إياها بالكعك العادي، والكعك المكوَّن من عدة طبقات، على التوالي)، ويمر في طريقه على الذاكرة المكانية، وفطرة الهجرة، واستخدام الأدوات، وغير ذلك.
يقدِّم الكتاب عرضا بارعا، بدءا من رقص طائر Tetrao tetrix على السياج، حتى استدراج البومة من نوع Athene cunicularia إلى الروث.