الدولة التي فشلت في إيجاد إطار تنظيمي بيئي واقتصادي ثابت وعلمي وعادل لقطاع المقالع والكسارات والمرامل في خلال 25 سنة مع حكومات ما بعد اتفاق الطائف… كيف يمكنها أن تعيد تنظيمه بمهلة شهر (بحسب قرار وزير الداخلية)؟! ما هي إشكاليات هذا الملف؟ وكيف يعمل؟ ولماذا فشل التنظيم طوال تلك السنوات؟ وما هي الأفق الآن بعد أن وصلنا إلى حالة فلتان مطلقة يستحيل تنظيمها؟ أم أن المطلوب تسوية تجعل من إعادة العمل مناسبة للاستفادة الإضافية (على حساب الطبيعة وخزينة الدولة) ومناسبة لإيجاد مصادر مالية إضافية للأطراف المستثمرة، لتمويل الانتخابات القادمة؟!
ليست المشكلة في عدم وجود إطار تشريعي ومخطط توجيهي علمي وفني محايد لتنظيم قطاع المقالع (على أنواعها) والكسارات والمرامل فقط، فحتى المراسيم المرعية الإجراء لم يتمّ احترامها.
وهنا لا حاجة إلى الكثير من البراهين عن عدم التزام القوى الأمنية ووحدات الدرك في المناطق اللبنانية كافة بتطبيق المراسيم والقرارات، ولا سيما لناحية التشدّد في ضبط مخالفات المقالع والكسارات والمرامل، والاحتيال على القوانين عبر إعطاء تراخيص (من قبل المحافظين والقائمقامين بالحفر أو نقل ستوكات أو استصلاح أرض او تأهيل مواقع)… لفتح مقالع وكسارات ومرامل.
ويمكن الجزم أن أحداً في لبنان لا يعرف حجم الاستثمار في هذا القطاع في السنوات الأخيرة.
مسح عام 2010
كان آخر مسح حصل حول هذا القطاع منذ سبع سنوات، حين وجه وزير الداخلية والبلديات زياد بارود كتاباً بتاريخ 20/3/2010 إلى المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي طلب فيه وجوب التشدّد في ضبط مخالفات المقالع والكسارات والمرامل، ورفع جدول شامل بجميع المقالع والكسارات والمرامل المنتشرة على كامل الأراضي اللبنانية، وذلك بعد أن ضغط “حزب البيئة” آنذاك على وزيري الداخلية (بارود) والبيئة (محمد رحال) لتنظيم هذا الملف.
تلك الفترة طلب وزير الداخلية أن تتضمن الجداول بالنسبة إلى كل موقع، كامل هوية صاحبه وموقعه الجغرافي ووضعه القانوني (مرخص، غير مرخص).
أُنجزت التقارير بين 23 و24/3/2010 وتم توقيعها من وحدات الدرك وقيادات السريات في المناطق كافة. شاب هذه التقارير التي نشرتها جريدة “السفير” آنذاك عيوب عدة، أهمها أن جداولها لم تكن موحّدة في الشكل، ولم يتم الاستعانة بخبراء لوضع تصاميم هادفة للمساعدة في تنظيم هذا القطاع. فبعض الجداول والمحاضر كان خالياً من تحديد نوع الأعمال (مرامل أو كسارات أو مقالع أو ستوكات…)، وبعضها الآخر لا يحدّد الجهة المانحة للتراخيص مع التواريخ ولا تاريخ التوقف عن العمل والختم بالشمع الأحمر. وقد تم التأكيد لاحقاً أن الكثير من المواقع التي أُدخلت في خانة «لا تعمل»، لم تتوقف عن العمل إلا لفترات بسيطة، لتعود وتستأنف العمل.فوضى الجداول
أظهرت الجداول آنذاك أن هناك عدداً قليلاً جداً، من المقالع والمرامل والكسارات، يعمل فقط من أصل 658 موقعاً تم رصدها حسب تقارير المناطق! وهنا طرح سؤال: كيف تستمر أعمال البناء إذا كان ذلك صحيحاً؟!
وإذ أظهرت الجداول أن معظم الستوكات ومعامل الباطون تعمل، ومعظم المقالع والكسارات والمرامل متوقفة! تأكد أيضاً أن هناك نوعاً من الاحتيال على القانون والتنظيم، فيحصل البعض على تراخيص لنقل ستوكاج أو حفر أو استصلاح أرض، ويتم تشغيل الكسارات والمرامل والمقالع تحت هذه الحجج أو الذرائع، مع العلم أن قرارات وزيري البيئة والداخلية كانت قد منعت آنذاك المحافظين والقائمقامين من إعطاء تراخيص لمثل هذه الأعمال، وحصرت حق إعطاء التراخيص بالمجلس الوطني للمقالع الذي يرأسه وزير البيئة، حسب القوانين والمراسيم المرعية الإجراء!
غياب المحاسبة
لم تتم محاسبة أحد في تلك الفترة، كما لم تتشدد القوى الأمنية في وقف أعمال حتى من لديهم تراخيص من المحافظين والقائمقامين والتي لم تعد تنفع بعد صدور القرارات التي تنقضها، وذلك لدفع المستثمرين للحصول على تراخيص قانونية بحسب آخر تعديلاتها (صدر آخر تعديل للمرسوم رقم 8803/2002 وتعديلاته – المرسوم رقم 1735 بتاريخ 23/04/2009 ونشر في الجريدة الرسمية عدد 18 تاريخ 23/04/2009). مع العلم أن تنظيم أعمال المقالع والكسارات والمرامل، حسب الأصول، والحصول على تراخيص قانونية من المجلس الوطني للمقالع، يمكن أن يدرّا أموالاً مهمة إلى خزينة الدولة (من خلال رسوم الترخيص والمراقبة والاستثمار المقدرة بـ ٢٠٠ مليون دولار سنوياً، بالإضافة إلى الكفالة المصرفية لضمان حُسن الالتزام بالترخيص وعدم تشويه المواقع)، بدل أن تذهب إلى جيوب البعض، كما يمكن أن توقف هذا التشويه في جبالنا والأعمال العشوائية.
بالرغم من صرف الأموال على دراسة المواقع المشوهة، لم نفهم حتى الساعة ماذا ستفعل وزارة البيئة بالمواقع المقفلة (إذا تم إقفالها) والمشوهة والتي لن يُسمح لها بالعودة إلى العمل مجدداً؟ وماذا عن المقالع والكسارات التي حصلت قديماً على تراخيص استثنائية لمدة طويلة عن غير وجه حق؟ وهل سيفتح أحد في وزارة البيئة تحقيقاً مع المديرية العامة في الوزارة حول كيفية التلاعب بالمخططات التوجيهية والتراخيص (السرية) وكيفية اختفاء بعض ملفات أحد المستثمرين الكبار من وزارة البيئة وإفقاد الدولة مستندات مهمة أثناء النزاع معه في المحاكم؟
بداية التشريع
بالرغم من كل المناشدات لأهم البيئيين المتابعين للملف بضرورة التنظيم ووضع قانون خاص ينظّم القطاع يتضمن توجهات رئيسية بضرورة حصر الاستثمارات ووضع الدولة اليد على القطاع، بالإضافة إلى نقاط تنظيمية جيدة ملحوظة معظمها في المرسوم رقم 8803/2002 وتعديلاته، إلا أن مشروع هذا القانون لم يبصر النور في وزارة البيئة حتى لحظة كتابة هذه السطور!
تعود بداية التشريع البيئي المتعلق بقطاع المقالع والكسارات في لبنان (كما بينت دراسة حزب البيئة اللبناني عام 2006) إلى الثلاثينيات بوجود قانون لاستثمار المقالع (قرار 253/ل.ر عام 1935) وقد تألف القانون مما يزيد عن 60 مادة تغطي كافة جوانب تنظيم القطاع، وبالتالي فقد شكل آنذاك قانوناً إطارياً ممتازاً. إلا أن هذا القانون ما عاد مطبقاً في هذه السنوات، نظراً إلى صدور نصوص تشريعية أخرى (قانون التنظيم المدني الصادر عام 1983) ألغت مفعول هذا القانون عندما أخضع الترخيص لشروط وقواعد تحددها المديرية العامة للتنظيم المدني بالاشتراك مع الإدارات المعنية ضمن مرسوم تطبيقي يُتخذ في مجلس الوزراء، وقد اكتملت هذه الحلقة بصدور المرسوم 8803/2002 وتعديلاته عام 2009 لتنظيم المقالع والكسارات. كما تم نشر القرارات التفصيلية بحسب أنواع الاستثمارات الخمسة في الجريدة الرسمية (عدد 17 تاريخ 16/04/2009).
بالرغم من وجود مرسوم تطبيقي أساسي يراعي تنظيم قطاع المقالع والكسارات، إلى جانب استصدار قرارات تفصيلية تعالج كل نوع من أنواع المؤسسات العاملة في هذا القطاع، إلا أن الحاجة بقيت ملحة إلى “إطار عام” الذي ظل غائباً، لإعطاء الغطاء التشريعي والتوجيهي للمراسيم والقرارات، أيّ وجود قانون إطار لاستثمار المقالع والكسارات.لماذا الحاجة إلى قانون؟
– إن القوانين القديمة التي تلحظ الموضوع عديدة ومتناقضة أحياناً ولا يمكن إلغاؤها بمرسوم، فهي تتطلب قانوناً.
– إن المرسوم رقم 8803/2002 وتعديلاته قابل للطعن لأسباب معظمها شكلية تعود إلى ضرورة احترام ما نصّت عليه القوانين السابقة في ما يعود للإجراءات الواجب اتباعها (كقانون التنظيم المدني على سبيل المثال).
– إن المرسوم رقم 8803/2002 لم يشمل خطة التأهيل وإعادة التأهيل للمقالع المقفلة نهائياً وسياسة استعمال المقالع بعد إقفالها، خاصة تلك التي كانت قد استثمرت قبل صدور المرسوم المذكور أو حتى قبل إنشاء وزارة البيئة.
– لم يشمل المرسوم الموارد المالية أو آلية التمويل المحتملة (إنشاء صندوق تعاضدي لتوفير المصادر المالية اللازمة لتغطية نفقات خطة إعادة تأهيل مواقع المقالع القديمة المهجورة والمتوقفة عن العمل).
– درس إمكانية استيفاء رسوم دراسة الملفات المقدمة إلى وزارة البيئة أسوة بما يعمل به من قبل وزارة الصناعة لدى تسلّمها الملفات المقدّمة إليها والمتعلقة بالترخيص للمؤسسات الصناعية المصنفة.
– فرض عقوبات يسمح بها القانون لم تكن مأخوذة بعين الاعتبار، كون أن الاطار التشريعي الذي كان يعمل به هو مرسوم وليس قانوناً.
– فصل كلّ تشابك ممكن مع الإدارات المعنية بهذا الملف، ومنها نذكر وزارة الداخلية والبلديات ووزارة الطاقة والمياه ووزارة الزراعة…إلخ.
– إضافة تسميات وتعابير جديدة لم تكن ملحوظة في المرسوم رقم 88.3/2002 ومنها إعادة تأهيل المواقع والكسارات الصغيرة…إلخ.
– التغيير في نوعية الضريبة من الرسوم على الأمتار المربعة التي تسبّبت بتشويه المواقع إلى الرسوم على الأمتار المكعبة المستخرجة والتي تؤمّن مداخيل إضافية.
– إضافة إلى حصر الاستثمار في مشاعات الدولة أو في الأملاك التي يملكها مصرف لبنان وإيجاد آلية لتأجير هذه الأراضي واستصلاحها وتشجيرها.
أين طار مشروع «ابكار»؟
مشروع “ابكار” هو اختصار لعنوان: “مشروع إعادة تأهيل مواقع المقالع في لبنان”، الذي أدارته وزارة البيئة ونفذته بمساعدة تقنية من شركة الأرض للتنمية المتطورة للموارد. موّل المشروع الاتحار الأوروبي عبر برنامج لايف، بما يقارب 316000 يورو، و150000 دولار أميركي من وزارة البيئة. بدأ العمل بالمشروع في شهر آذار عام 2006، وانتهى في أيلول عام 2007. من دون أن يتم الإعلان عن نتائجه! مع العلم أنه كان يهدف إلى مسح مواقع المقالع والتشوهات وإعداد خطة وطنية لإعادة التأهيل مع الإطار المؤسساتي والقانوني والمالي اللازم لذلك. وربما تمّ التستر على هذا المشروع وهدر نتائجه لعدم “إزعاج” المشوّهين وتغريمهم، وتحميلهم مسؤولية جرائمهم البيئية تطبيقاً لمبدأ الملوث يدفع الذي أقر في قانون البيئة عام 2002. وقد تفتقت عبقرية البعض في وزارة البيئة، وتبعها تأييد بعض من جمعيات البيئة الطفيلية، بتحويل بعض هذه المواقع المشوهة إلى مراكز لمعالجة النفايات، يستثمر فيها الملوثون استثمارات إضافية!
كما بيّنت الدراسات اللاحقة أن قيمة الكفالات المصرفية التي دفعها بعض المستثمرين منذ البدء بعمليات ترخيص المقالع لا يعتد بها أبداً لإعادة تأهيل المواقع المشوهة التي يُجرى مسحها.
والمعلوم أيضاً، أن الكلفة السنوية للتدهور الناتج عن الاستثمار العشوائي وغير السليم للمقالع في لبنان قد بلغت ما يقارب خمسة وعشرين مليار ليرة لبنانية، وذلك استناداً إلى دراسة “كلفة التدهور البيئي في لبنان” الصادرة في حزيران عام 2005.
حجم التشويه وكلفته
بينت الصور الجوية أثناء القيام بمسح جوي عام 2006 لتبيان عدد المواقع المشوهة بفعل عمل المقالع (على أنواعها) والمرامل، أن العدد قد تجاوز 1200 موقع مشوه آنذاك!
فأين أصبح هذا الرقم بعد 11 سنة من الفوضى والتشويه؟!
وكانت دراسات أولية أجريت بين عامي 2000 و 2002 قد بينت أن مساحة التشويه في لبنان جراء العمل العشوائي وغير المرخص والمنظم للمقالع والكسارات والمرامل قد بلغت أكثر من ثلاثة آلاف هكتار. وقد تسببت بتدمير الموائل النباتية والطبيعية، إن بشكل مباشر عبر اقتلاع الصخور والأتربة والرمول، أو بشكل غير مباشر عبر انتشار الغبار الذي يتسبب باختناق الأشجار والنباتات. ما تسبّب بخسائر هائلة في التنوع البيولوجي وفي الموارد الطبيعية. بالإضافة إلى ما تسبّبت به التفجيرات من تشقّق في المنازل وخزانات المياه، وتصدع في طبقات الأرض وزحل أماكن سكنية وزراعية، بالإضافة إلى مشاكل الضجيج وتلوث الهواء والمياه الجوفية والسطحية وتشويه المناظر. بالإضافة إلى تخريب شبكات الطرقات وانخفاض في قيمة العقارات المجاورة. وقد قدرت دراسة للبنك الدولي عام 2004 كلفة تدهور أسعار الأراضي المجاورة للمقالع والكسارات بما يقارب 16 مليون دولار في السنة، كون هذه الأعمال قد تسببت بخفض سعر الأراضي بين 16 و71 في المئة من قيمتها الحقيقية. وانخفاض قيمة المباني بما يقارب 45 في المئة من قيمتها. وركزت الدراسة على خمسة مواقع في مقالع منطقة شننعير وابوميزان وانطلياس، وقد بلغت قيمة التدهور البيئي في أسعار الأراضي والعقارات المحيطة بهذه المواقع جراء تشويه المنظر فقط، ما يقارب المئة مليون دولار أميركي.