طالعتنا وسائل إعلام عالمية بأخبار عن أن الاختبارات كشفت أن جسد الحوت الأنثى من فصيلة الأوركا (الاسم العلمي orca Orcinus) يحتوي أعلى مستويات من مركبات ثنائي الفينيل متعدد الكلور PCBs تم تسجيله حتى الآن، وقد يكون وجود هذه المركبات بهذه الكميات الكبيرة المسجلة عالميا، السبب في جنوحها ونفوقها، وعلى الرغم من شيوع هذا النوع من الحيتان عالميا، إلا أن هذه الحادثة تهدد مجموعة هذا النوع الموجودة في مياه المملكة المتحدة بالإنقراض.
وكان العلماء يطلقون عليها تحببا اسم “لولو”، وهي حوت من مجموعة من ثمانية حيتان بقيت في المياه الإسكتلندية، منها 4 من الإناث بينهن “لولو”، وكانت قد جنحت في أوائل شهر كانون الثاني (يناير) من العام الحالي.
وكان الأخصائي في السموم ومستشار greenarea.info الدكتور ناجي قديح قد نشر مقالا حول مركبات متعددة الكلور ثنائية الفنيل Polychlorinated Biphenyls (PCBs)، ولفت إلى آثارها المدمرة خصوصا على الحياة البحرية.
“لولو” جانحة على ساحل جزيرة تيري
ووجد الباحثون جثة “لولو” جانحة على شاطئ جزيرة تيري Isle Tiree في اسكتلندا، ولم يكن واضحا ما حصل لها بالضبط، ولكن علماء من برنامج “مخطط اسكتلندا لجنوح الحيوانات البحرية الاسكتلندية” Scottish Marine Animal Stranding Scheme قرروا أنها غرقت حينها نتيجة التشابك بشباك صيادين.
ويتابع موقع هذا البرنامج حالات الجنوح ويوثقها، ويبحث في أسبابها، وورد في صفحته الخاصة على موقع الإنترنت “أن الأسباب الكامنة وراء أحداث الجنوح المحبطة للحيتان والدلافين وحيوانات الفقمة على سواحل المملكة المتحدة ليست واضحة دائما، ولا يزال الدور الذي يمكن أن يضطلع به النشاط البشري سواء بشكل مباشر أو غير مباشر في حالات الجنوح الفردية أو الجماعية أمرا مثيرا للجدل”.
وقد وجدت “لولو”، مصابة بجراح عند ذيلها، وكان الفحص الأولي قد أشار إلى أن جراحها تدل أنها تشابكت بعدة صيادين ما تسبب بجنوحها، وأخذ العلماء – وفقا لمقالة في الديلي ميل Daily Mail البريطانية – عينات منها للتأكد من عمرها ووضعها الإنجابي ونسب الملوثات، ما شكل جزءا من الدراسات في حالتها، وإن رجح سبب نفوقها نتيجة التشابك بعدة الصيادين.
فوت… الوقت قد انتهى
في هذا المجال، لفت العلماء إلى أنه لم تسجل حالات ولادات لهذا النوع من الحيتان وحيتان أخرى منذ عشرين عاما، وعزوا السبب إلى تلوث المياه المرتفع في هذه المنطقة، ما أدى إلى ارتفاع نسب نفوق الصغار، وأكد عالم البحار الدكتور أندي فوت Andrew Foote ومقره حاليا فى جامعة كوبنهاغن University of Copenhagen، وتابع الحيتان والدلافين في المياه الإقليمية البريطانية منذ العام 1992 “أن الوقت قد انتهى لهذا النوع من الأحياء البحرية”. وأضاف: “من المحزن جدا أن نفقد هذه المجموعة الفريدة، هناك الكثير من العوامل المساهمة المحتملة، وكثير منها من صنع الإنسان، وبالربط بين الحيوان الجانح ومجموعته من الممكن التحقيق في سبب النفوق”.
براونلو: أعلى نسبة من الملوثات
وأكد البحث الجديد نظرية العلماء، إذ قال الدكتور أندرو براونلو Andrew Brownlow، رئيس برنامج اسكتلندا للحيوانات الجانحة البحرية الاسكتلندية the Scottish Marine Animal Stranding Scheme، والباحث في الأمراض البيطرية Veterinary Pathologist في الكلية الريفية في اسكتلندا Scotland’s Rural College “كانت مستويات تلوث ثنائي الفينيل متعدد الكلور في جسد لولو مرتفعة بشكل لا يصدق، ومن المستغرب ذلك، فهي أعلى بـ 20 مرة من مستوى الأمان الذي نتوقعه لكي تتمكن هذه الحيتان من التعامل معه”. وأضاف: “هذا يجعلها واحدة من أكثر الحيوانات الملوثة على كوكب الأرض من حيث نسب ثنائي الفينيل متعدد الكلور، ويثير أسئلة خطيرة حيال البقاء على قيد الحياة على المدى الطويل لهذه المجموعة”.
وقدر عمر “لولو” بعشرين سنة عند نفوقها، وأكدت الفحوصات المخبرية أنها لم تنجب أبدا، وأن جهازها التناسلي لم يكن منتجا، وما استدعى قلق العلماء أنه لم يلاحظ أي صغار في المجموعة، ويشتبه في أن وجود ثنائي الفينيل متعدد الكلور قد لعب دور في العقم والقدرة الإنجابية لهذه المجموعة من الحيتان، وربما أسهمت أيضا في نفوق لولو.
مستويات عالية من PCBs
ويتم قياس مستويات ثنائي الفينيل متعدد الكلور بالمليغرام لكل كيلوغرام من الدهون أو الأحماض الدهنية Fatty acids في جسم الحيوان، وقال براونلو: “يقدر الحد الأعلى من كمية هذه المواد الكيميائية بحوالي 20-40 ملليغرام لكل كيلوغرام مخزنة داخل الأنسجة”، وأضاف: “قدرت النسبة في أنسجة “لولو” بـ 957 ملليغرام لكل كيلوغرام، وتعتبر بوجود هذه النسبة من أكثر الكائنات تلوثا حتى الآن”.
ويعتقد العلماء أن عمر “لولو” الطويل قد ساهم بتراكم هذه المواد في أنسجتها، ولهذه المواد الكيميائية مجموعة من الآثار، وهناك أدلة على أنها يمكن أن تضعف الجهاز المناعي، كما أنها تؤثر على التكاثر.
وأوضح براونلو أن “هذا بالتأكيد ما وجدناه في حالة لولو”، وقال: “بعد أن فحصت جهازها التناسلي وخصوصا المبيضين، لم يكن هناك أي دليل على أنها كانت نشطة تناسليا في أي وقت أو أنها حملت من قبل”، ومن المعروف أن هذه المواد يمكن أن تؤثر أيضا على الدماغ، ويعتقد العلماء ان التلوث قد يكون سببا في نفوق لولو.
وقال براونلو: “الحيتان القاتلة ذكية بشكل لا يصدق، فهي حيوانات واعية جدا، ولولو أمضت معظم حياتها، وربما فترة طويلة جدا حول مياه الساحل الغربي، ومن المحتمل أن يكون هناك بعض التأثيرات من ثنائي الفينيل متعدد الكلور الذي كان في بعض الأحيان يضعفها”.
قديح: الإمتناع عن استهلاك الأسماك الكبيرة
وقال الدكتور ناجي قديح عن هذه الحادثة: “استعملت مركبات متعدد الكلور ثنائي الفنيل لعقود طويلة كزيوت للعزل في محولات الكهرباء، وأنتج منها كميات هائلة تقاس بمليارات الأطنان عبر العالم، وهي كما نعرف تنتمي إلى مجموعة الملوثات العضوية الثابتة لأنها تتميز بثلاث ميزات عالية الخطورة: أولها أنها عالية السمية البشرية والبيئية، اي أنها تخرب الاتزان في المنظومات البيئية وتؤدي إلى خلل في غناها البيولوجي، ومعروفة اليوم أنواع آثارها السامة على البشر والثدييات، فهي تسبب إخلالات عميقة وواسعة في عمل العديد من أجهزة الجسم، وتحدث خللا في منظومة الغدد الصماء اي في عمل الهرمونات، وهذا يفسر تأثيرها على الوظيفة التناسلية والإنجابية وصولا للتسبب بالعقم”.
وأضاف قديح: “وثاني هذه الميزات الاستقرار والثبات الكيميائي، إذ أنها لا تتفكك ولا تنحل تحت تأثير الكثير من العوامل الفيزيائية والكيميائية في الأوساط البيئية المختلفة، وتحافظ على تركيبتها الكيميائية لعشرات السنين دون أن تتعرض لاي تغيير يضعف سميتها، وثالث هذه الميزات، أنها قابلة للتراكم الحيوي، اي أنها تتراكم في الأنسجة والأعضاء في جسم الحيوانات والنباتات، وهذا يعني أن تركيزها في أنسجة الأسماك مثلا يمكن أن يصل إلى مئات المرات أكبر من تركيزها في الوسط المائي الذي تعيش فيه”.
وأشار إلى أن “حالات انتقالها معروفة من وسط بيئي إلى آخر وصولا للشبكة الغذائية للإنسان، حيث وجودها في الهواء يؤدي إلى تلويث التربة وهذا بدوره يؤدي إلى تلوث الأعشاب والمزروعات في هذه المنطقة، وإذا تحولت هذه النباتات إلى علف للحيوانات أو الدجاج، انتقلت مركبات متعدد الكلور ثنائي الفنيل إلى لحوم الحيوانات وحليبها وبيض الدجاج وهكذا. أما في الوسط المائي في البحار والمحيطات فإنها بالإضافة إلى تراكمها في أنسجة الأسماك، يتزايد تراكمها لعدة مرات كلما انتقلنا من نوع سمك إلى نوع أكبر، لذلك لا يفاجئني ما جاء في المقالة من أن تراكيز هذه المركبات السامة يصل إلى عشرين مرة المعدلات المعروفة في جسم الاسماك الضخمة من نوع القرش والتونا وغيرها من الكائنات البحرية الضخمة، حيث تشكل قمة هرم السلسلة الغذائية”.
ونبه قديح المواطنين إلى “أن خطورة استهلاك هذه الأنواع من الأسماك، ليس فقط بالعلاقة مع مركبات متعددة الكلور ثنائية الفنيل، بل أيضا بالعلاقة مع تراكم المعادن الثقيلة مثل الزئبق والكادميوم والكروم والرصاص، لذا من الأفضل الإمتناع عن استهلاك الأسماك الكبيرة، وشخصيا فأنا مثلا ممتنع كليا عن استهلاك السوشي وما شابهها لأنها مصنعة من لحوم التونا، ومن الأسماك الضخمة التي تتراكم فيها الملوثات العضوية الثابتة والمعادن الثقيلة السامة، ومن الخطورة بالتأكيد استهلاكها من قبل الحوامل والأطفال”.
وقد تم حظر هذه المواد منذ سبعينيات القرن الماضي إلا أن آثارها مستمرة حتى الآن، وتتجه جهود البيئيين للتخلص منها وبأسرع وقت.