ليس من قبيل الصدفة أن تعترف “منظمة الصحة العالمية” الـ WHO، على لسان المديرة العامة المساعدة لشؤون صحة العائلة والمرأة والطفل Assistant-Director General, Family, Women and Children’s Health الدكتورة فلافيا بوستريو Flavia Bustreoأن “تلوث الهواء هو السبب الرئيسي للأمراض والوفاة عند البشر”، فيما نستمر نحن شعوب الدول الفقيرة والنامية، في العيش بالقرب من مصادر هذا التلوث التي تقتلنا يومياً، وخصوصا منها الخفية، كتلك التي تصدر الجسيمات الصغيرة والدقيقة TSP Total Suspended Particulates، ذات الأقطار المختلفة ما بين 0,1 و10 ميكروميرتات، والتي تحتوي على مركبات السلفات sulfate، الكربون الأسودblack carbon، والنيتراتnitrates ، وتعرف بـ “الملوثات المعلقة”، وذلك كونها تتصف بسقوطها البطيء على سطح الارض، ويرتبط هذا السقوط غالباً بالظروف المناخية من حرارة ورطوبة وغيرهما، غير أنها تصل بسرعة وبشكل مباشر إلى القلب والأوعية الدموية عبر الجهاز التنفسي، محدثةً أمراضاً مزمنة صعبة العلاج إن لم نقل مستحيلة.
وتنتج معظم الملوثات العالقة التي يبلغ قطرها أكثر من 2.5 ميكرومتر عن حركة السيارات على الطرق غير المعبدة، المقالع والمناجم والكسارات، وفوهات البراكين، في حين تنتج الجسيمات الدقيقة العالقة الأخرى عن احتراق وقود السيارات، محطات توليد الطاقة الكهربائية، مصانع الاسمنت والسيراميك ،مناجم الفوسفات والبوتاس وحرائق الغابات.
الملوثات في سوريا
ومن الشائع جداً انتشار هذا النوع من الملوثات بكثافة في مدن العالم الثالث الفقيرة وتلك النامية، ومنها بلدان البحر المتوسط وهنا سنتكلم عن سوريا بشكل خاص.
يعاني سكان مدينة دمشق – حيث الازدحام الأكبر لوسائل النقل في البلاد – من أعلى نسبة إصابة بسرطان الرئة وغيره من الأمراض التنفسية وأمراض القلب، فيما تعاني بلدة كفربهم في ريف حماة من انتشار حالات سرطانية بشكل فظيع، حيث تبلغ النسبة حوالي 1 بالمئة من عدد السكان، ويعود ذلك الى قربها من تجمع معامل الاسمنت (ثلاثة معامل متلاصقة) تطلق الغازات والأغبرة المليئة بالملوثات الدقيقة العالقة، مثل أكاسيد الكبريت الغازية SOx وكاسيد النتروجين NOx، أما في قطينة فالوضع أخطر حيث معمل السماد الكيماوي ومصفاة النفط يبثان مختلف أنواع السموم يومياً، ولاتقل الخطورة في طرطوس وبانياس.
ميكائيل: تسمم الخلايا الدماغية
حول هذا الموضوع تحدث لـ greenarea.info الاخصائي في أمراض الدم الدكتور وائل ميكائيل قائلاً: “يوجد في كل سنتمتر مكعب من الهواء مئات بل آلاف الجزيئات الملوثة سواء كانت صلبة أم سائلة، وبمجرد أن تعيش في هكذا جو فإنك تستنشق وبكل قوة هذه الجزيئات التي تتحد بالدم وتسبب امراضاً، سواء في الرئتين والجهاز التنفسي ام في القلب والاوعية الدموية، وقد تبين لنا من خلال نتائج التحاليل المخبرية التي اجريناها لاشخاص يعيشون في محيط معمل الاسمنت ان هناك نسبة من الرصاص”.
ويتابع ميكائيل: “هناك دراسة اجراها علماء بريطانيون مؤخراً، استنتجوا منها ان التلوث بالدقائق المعلقة له علاقة بمرض الزهايمر وتسمم الخلايا الدماغية، ومن وجهة نظري أرى أن هذا الاحتمال وارد جداً، كون كل الجزيئات الملوثة والتي يبلغ قطرها دون 200 نانومتر يمكنها دخول المخ مباشرة من خلال عصب الشم بعد استنشاق الهواء، وبعده تستقر هناك مكونة الجذور الحية التي بدورها تؤثر على الذاكرة بشكل مباشر”.
مصدر آخر للملوثات الدقيقة
ومن الجدير ذكره في هذا المجال، ان التلوث بالملوثات الدقيقة العالقة يصنف في المرتبة الرابعة بين مسببات الوفاة على مستوى العالم، بعد ضغط الدم المرتفع، التدخين والمخاطر المتعلقة بنوعية الطعام، ففي الصين وحدها تشير آخر التقارير (2013) الى وقوع 1,6 مليون حالة وفاة سنوياً نتيجة لاستنشاق الملوثات الدقيقة، بينما سجلت الهند 1,3 مليون حالة وفاة بنفس السبب (يستخدم الهنود الفقراء الخشب وروث الحيوانات كوقود).
تلك الملوثات الدقيقة الناجمة عن مصانع الاسمنت وعوادم السيارات وأغبرة المقالع والكسارات على امتداد المساحة السورية، تُدمر يومياً آلاف الخلايا من أجهزة تنفس القاطنين قربها، هذا وقد ظهر بفضل الحرب الدائرة في البلاد مصدر آخر للملوثات الدقيقة، ألا وهو دخان الطائرات، خصوصا عندما تحلق بكثافة في أجواء المدن.
أمام المواطن السوري هذه الأيام، خياران أحلاهما مُر، الأول الملوثات الناتجة عن الصناعة ووسائل النقل، والثاني مثيلاتها الناتجة عن عوادم الطيران الحربي، فإلى أن تتوقف الحرب سيتوقف الطيران، ولكن هل تتوقف مصادر التلوث الاخرى؟ لنـرَ.