يقاس نهوض شعب ما بالتنمية والتماسك الاجتماعي. تقاس التنمية بالنمو الاقتصادي. التماسك الاجتماعي مرهون بالسياسة التي تعني الحوار بين الطبقات العاملة والدولة (مع البيروقراطية) والرأسماليين اصحاب التثميرات. لا يخلو مجتمع من الصراع الطبقي. ومن المفيد قياس السياسة بالصراع الطبقي لأن الطبقات الدنيا التي تعمل وتنتج لا تحوز على أي من حقوقها من دون نضالها. من الواجب اذاً ادخال الصراع الطبقي (عن طريق النقابات) في حساب اي نظام لدولة يعبر وجودها عن ارادة الشعب. هذه الارادة هي ما يجعل النهوض ممكناً والدولة اطارا حاضناً. من دون هذا الدور المحفز والدافع الى الامام ومن دون اطار ينتج عنه وعاء لخطة نهوض تعبر عن ارادة النهوض، يبقى المجتمع متروكاً لقوى التحكم والاستتباع للخارج، ويبقى الفقر والبطالة والهجرة منتشرة، ويبقى المجتمع في مؤخرة المجتمعات على سلم التقدم.
لم يكن وضع العرب خلال القرنين الماضيين خالياً من محاولات النهوض الاقتصادي والسياسي. في كل مرة كان يوضع حد للمحاولة بتآمر خارجي – داخلي، قصة محمد علي في مصر معروفة. اجتمعت ضده دول اوروبا لالحاق الهزيمة به ومن داخل الاناضول. وكانت المعاهدة الجمركية في 1838 تتويجاً للدخول الراسمالي الغربي الى التجارة الداخلية في مصر وباقي الدولة العثمانية. ضربت محاولة النهوض عسكرياً ومالياً وسياسياً.
المحاولة الثانية كانت على يد الخديوي اسماعيل، وكانت ترتكز على المشاريع الضخمة في البنية التحتية، ومن ذلك الاحتفالية بشق القناة وافتتاحها بحضور ملوك اوروبا. الدور الاساسي كان للرساميل الاجنبية. اغرقت مصر بالديون، وفقدت ما تبقى من استقلاليتها. وانشئت هيئة ادارة الدين. واستتبعت مصر لقرارات خارجية، وحدثت ثورة عرابي في 1882.
المحاولة الثالثة كانت محاولة عبد الناصر التي جمعت النواحي الانتاجية، مثل محمد علي، والمشاريع الكبرى في البنى التحتية مثل الخديوي اسماعيل. قضي على هذه التجربة بالحرب التي شاركت فيها بريطانيا وفرنسا واسرائيل (1956) ثم حرب اليمن المنهكة، ثم الهزيمة الفاجعة في 1967.
قضي على هذه المحاولة الثالثة (عبد الناصر) بالحرب اولاً، وبالعقوبات الاقتصادية ثانياً، والانفتاح على الرساميل الغربية ثالثاً (في ايام السادات بعد وفاة عبد الناصر) والتلاعب بالدين رابعاً. لم يكن السادات سيء النية بقدر ما كان ساذجاً يهوى الاستعراضات ولا يبالي بالقيود المالية والسياسية على مصر. فكان اتفاق كامب دايفد الذي بدأ الوصول اليه بزيارة استعراضية الى اسرائيل.
في كل هذه المحاولات كان التفوق العسكري وتدفق الاستثمارات الخارجية وسيلتين للغلبة الغربية والاسرائيلية ثم الاستتباع (كامب دايفد). هذا من الخارج، اما من الداخل فقد خلا الموقف، او الوعي العربي، من الهزيمة. نهضت المانيا واليابان، وحتى دول آسيا بعد الحرب العالمية الثانية، بالاقرار بالهزيمة. حصلت انتصارات عسكرية هنا وهناك (فيتنام مثلاً)، لكن موقع الهزيمة كان في الانقسام الداخلي الاميركي قبل ما حدث على ارض فيتنام وجنوب شرق آسيا.
يبدأ النهوض من تقيضة، أي الاقرار بالهزيمة. يقود البحث في الهزيمة الى البحث عن العوامل التي أدت اليها واهمها التأخر الاقتصادي – السياسي، وتقود الارادة السياسية الى الاقرار بالهزيمة والخروج منها.. لا بدّ من ارادة النهوض بعد الاقرار بالهزيمة. يتحقق ذلك بتدخل الدولة ورسم خطط للنمو يشارك فيها جميع الفاعلين الاقتصاديين، خاصة الشغيلة عندما يصيرون مواطنين، اي مشاركين في القرار وفي العمل. من دون المشاركة السياسية يتراجع العمل، ومَن غير الطبقات الدنيا يعمل؟. الاستثمارات والمستثمرون لا يعملون (لا غرابة في القول ان ربحهم نهب لكن يجوز التعامل معه بايجابية جدية من أجل التضامن الاجتماعي في سبيل النهوض). الشروط العامة يفرضها النظام العالمي، وهو نظام رأسمالي مهمته الاولى الربح والنهب. ولا ربح من دون نهب. التضامن الاجتماعي هنا هو سياسة التناقضات لا طمسها كما تفعل انظمة الطغاة الديكتاتورية.
الاقرار بالهزيمة ووعي التخلف صنوان لا يفترقان. بدلاً من ذلك كانت المقاومة من فدائيي عبد الناصر، الى المقاومة الفلسطينية، الى المقاومة الاسلامية. حققت المقاومة الاسلامية انتصاراً على اسرائيل. لكن اسرائيل امتداد للامبريالية الغربية، والمقاومة القادرة على دحرها يتوجب ان تكون مقاومة مجتمعية (فرض عين لا فرض كفاية اذا اردنا استخدام تعابير قديمة). ما هو فرض عين هنا يوجب نهوض المجتمع ووحدة نظامه العربي.
ثورة 2011 كانت تعبيراً عن وحدة لدى شعوب عربية قامت هبة واحدة من الاطلسي الى الهندي. نهوض المجتمع حيل بينه وبين التحقق عن طريق الاسلام السياسي الذي كان رديفاً للانظمة العربية في الثورة المضادة. اغرقت المجتمعات العربية في حروب اهلية مدمرة. كل منها حرب اهلية، تجسيد لهزيمة لا تقر بها. مهما كان الانتصار لفريق او لآخر في المشرق العربي او في خارجه، الا ان الخراب والقتل وتدمير الوعي هو انهزام غير ضروري لو كان في الامر سياسة وتشبث بفكرة الدولة، من دون الاقرار بالهزيمة والخروج من الحروب الاهلية فالعرب في وضع استسلام. استسلام للقدر. المقدر يقرره النظام العالمي.
لا يرتبط النهوض بالمقاومة، ربما كان نقيضها. اشكال المقاومة التي تكررت برتابة كانت وما تزال تخلو من الاقرار بالهزيمة، تخلو من الوعي بالاسباب والنتائج، تخلو من التحليل الواقعي والجدي لموازين القوى، تخلو من اعتبار أن السياسة جوهرها الاقتصاد، والاقتصاد معناه العمل والانتاج. دونهما لا تماسك في المجتمع ولا مشاركة للمواطن. من دون اقتصاد منتج لا شيء يشارك فيه المواطن. المشاركة الجماعية هي المطلوبة، وهذه غير ممكنة من دون اطار ناظم منتج متقدم، قائم على السياسة والاستبداد.
يرتبط النهوض بالاعتراف بالهزيمة، اي النظر الى الامور بعقلانية وواقعية. تقدير ميزان القوى كما هو، وانتهاج اشكال المقاومة التي تتناسب مع موازين القوى العسكرية والاقتصادية، والمضي في الانتاج على اساس ان يكون قاعدة للقوة العسكرية. نحن في القرن الحادي والعشرين، والمجتمع الذي لا ينتج ما يحتاجه، او لا ينتج ما يمكن المبادلة به كما يحتاجه سيبقى ضعيفاً امام الاخرين. المهم هنا هو العمل والانتاج. ان المجتمع الذي يتكل على الهبات الارضية (النفط) او السماوية لا يستطيع الانتصار مهما كان شكل المقاومة. يضاف الى ذلك ان تماسك المجتمع، والقدرة على التنظيم يعكسان نفسيهما على الانضباط العسكري وعلى ما يتعلق بالانضباط الاجتماعي والاخلاقي. مجتمع من دون قيم عمل هو من دون قيم اخلاقية. الانضباط هو القيمة الاخلاقية الاساسية. وهذه تنشأ بالعمل والسعي والانتاج، ولا تحدث بين العسكر الا عندما يكون حصيلة مجتمع من هذا النوع. المجتمع المنتج يقاتل. والمجتمع المتكل على الهبات يستسلم حتى وان قاوم.
تتعدد الاوجه او المجالات في مجتمع واحد. لكل مجال شروطه وقيم العدالة فيه. الرابط بين مختلف الاوجه والمجالات هو العمل والانتاج. استخدام تعبير التنمية والعرب في العنوان معناه ان الانتاج ينتج الامة كما ينتج السلع، من بين أمور اخرى ينتجها. لا الهبات السماوية والارضية، ولا الاستثمارات، خاصة الخارجية، تنتج تماسكا في المجتمع.
ليس المطلوب ان يكون المجتمع ذا صوت واحد، بل التعددية هي الاجدر والاجدى. تعدد الاصوات، وما تعبر عنه من طوائف واتنيات، لا يلغي وحدة المجتمع بل يغنيها. هذا اذا كانت السياسة تمارس بعكس الاستبداد. الاستبداد يطمس التعددية ان لم يلغها. ينتهي الى انفجار المجتمع. السياسة توحد بالتسوية بين الاصوات المتناقضة. والسياسة هي في جوهر الديمقراطية. وكل ذلك يكون غير مجدٍ اذا لم يعتمد على العمل والانتاج وعلى ان يكون العمل جوهر الديمقراطية.
من يعمل وينتج يناضل في سبيل حقوقه. الحقوق تنتزع. الطبقات العليا لا تتخلى عن مكاسبها، وان لم تتخل تسقط امام شعب يعمل. هي تبقى وتؤيد نفسها في مجتمع طائفي لا يعمل (معظم الطائفيات تتناقض وواجب العمل). للأسف اننا ما زلنا بحاجة الى هذا الكلام في بداية القرن الحادي والعشرين، ولم نستفد من تجربة اسيا الشرقية، ولا من تجربة اليابان والمانيا بعد الحرب العالمية الثانية.
لا حلول قصيرة المدى لمشاكل عميقة التجذر في التاريخ. ولا حلول قصيرة الأجل الا بالسياسة. تسويات السياسة قصيرة الامد، تتراكم وتحدث تغييرات على المدى الطويل. التسويات بين التناقضات وكل مجتمع يحوي عدداّ لامتناهياً من التناقضات. مهمة شاقة، ولا يجيد السياسة الا ذوو الصبر والاناة ومن هم على استعداد للتنازل.
الفساد هو تغليب المصلحة الخاصة، او مصلحة الفريق الذي ينتمي اليه الفرد، على المصلحة العامة. التناقض اذاً يحوي بذور الفساد، او هو الفساد بعينه. الاخلاق هي الالتزام بمبادىء الاخلاق على الصعيد الفردي، والالتزام بمصير المجتمع في كل الاحوال. بذلك يتحول الفساد الى وضع اخلاقي. نقيض الفساد هو السياسة. الاخلاق تنقل الامر من حالة فساد الى توحد اجتماعي يكون حصيلة اخلاقية واقعية. ليست المبادىء نقيض الفساد، بل التنازل عن المبادىء هو ذلك النقيض. السياسة، بما انها تراكم تفترض التسويات، تتلاقى مع الاخلاق وتندمج بها. كثيراً ما يؤدي التمسك بالمبادىء الى نتائج غير اخلاقية.
حصيلة القول ان التنمية هي بناء مجتمع منتج، منتج للسلع المادية وليس فقط الاكتفاء بالبنى التحتية يستفيد منها الرأسمال والاستثمارات الخارجية من دون ان تقدم شيئاً بالمقابل. الانتاج حصيلة عمل البروليتاريا وبقية الطبقات التي لا تملك وسائل عملها. هذه الطبقات لها حق بانتاجها، كما للرأسمالية المحلية حق بالربح، كما للدولة حق بالضرائب. بانتظام العمل والتسوية بين هذه الاطراف الثلاثة تكون الدولة قد أدّت دورها كإطار للمجتمع. لا حاجة لتكرار ان انتظام التناقضات لا يعني الغاءها وطمسها. المجتمع ليس وحدة مصالح، والشعب ليس وحدة ميتافيزيقية، بل كل منهما مليء بالمصالح المتناقضة والاطراف المتناحرة. التنافس على المكاسب يمكن ان يأخذ اشكالاً طائفية او اتنية لكنه في حقيقة الامر تنافس على المصالح المادية، تنافس يمكن ان يتخذ اشكالاً غير عقلانية وينتهي الى حروب اهلية.
لدى العرب أمة يطغى عليها وجود الدولة. بناء الدولة مهما كانت، قطرية او غير ذلك هو طريق العروبة الحقة. لا خوف على العرب وعروبتهم. مع بناء الدولة يؤكدون عروبتهم، اذ يصبحون مواطنين مشاركين. المشاركة في الدولة والاقتصاد والانتاج مشاركة في عروبة جدية غير ميتافيزيقية. الامة ليست كياناً غيبياً يتجلى، بل هي كيان نصنعه في دولة. بناء الدولة (الدول) يؤدي حتماً الى عروبة قادرة على النهوض. وقد صار مستحيلاً الانتصارمن دون النهوض الاقتصادي. ولا يظنن أحد ان النهوض الاقتصادي يحدث من دون ارادة، ومن دون نهوض روحي، وهذا يعني في النهاية فكرة الدولة، الدولة التي يكون الناس فيها شركاء حقيقيين في نتاج عملهم؛ شركاء لا تقتصر مكاسبهم على الحد الادنى للاجور. المكاسب الحقيقية هي ما يفيض عن ذلك. هم شركاء في فائض القيمة. لا يكتفون من الاجور على ما يسد رمقهم ويجعلهم قادرين على التناسل فقط.
الاستبداد في البلدان العربية مهمته الاساسية نزع مشاركة الناس في نتاج عملهم، اي نزع مواطنيتهم. وهذا ما تفعله النيوليبرالية عندنا وفي العالم.