الخصخصة هي نقل ملكية الاشياء من المجال العام الى المجال الخاص. تملك الانسان للافراد (الرق او الاستعباد) صار محرماً. صارت الملكية مقتصرة على الاشياء والحيوانات، اي خضوع الشيء او الاشياء والحيوانات لارادة الفرد او الفرد المعنوي (الشركة وهي مجموعة اشخاص) او الدولة، خضوعاً تاماً، يسمى الحق لمن يتملك.

     يعتبر ادعياء الخصخصة ان الدولة تاجر فاشل، او رجل اعمال فاشل، وبالتالي التعميم بأن ملكية الاشياء يجب ان ينقل ما تبقى منها لدى الدولة او المجتمع او المشاعات الى المجال الخاص. يعتبر هؤلاء ان الخصخصة تتعلق بالقطاع الخاص، بالتفوق الدائم للقطاع الخاص. الحقيقة ان الامر يتعلق، بنظر النيوليبرالية، بدور الدولة. الدولة القوية تستطيع حتماً ادارة القطاع العام. الدولة الضعيفة تفشل حتماً في ادارة القطاع العام، كما فشلت في ادارة المجال العام. دولة النيوليبرالية يراد لها ان تكون اعجز من القدرة على ادارة القطاع العام. ذلك ليس نابعاً من طبيعة الدولة، بل من قرار لدى السلطة الحاكمة والطبقة المسيطرة من ورائها، ان تكون الدولة ضعيفة. المسألة لا تتعلق بالقطاع الخاص وبراعته المبالغ فيها، بل بالدولة وبرامج نهب اموال الدولة وأموال القطاع العام.

     العقارات المبنية وغير المبنية هي أهم استثمار للقطاع الخاص. فيه تكتنز أموال القطاع الخاص. الحق ان تملك القطاع الخاص لأملاك القطاع العام نوع من النهب المنهجي، نوع من التراكم البدائي الذي يبنى عليه. كما تريد اطراف القطاع الخاص الاكتناز في المصارف، تبغي الاكتناز في العقارات. ارتفاع اسعار العقارات يوفر لها ارباحاً اعلى وعلى مدى أطول. من المناسب في لبنان اعتبار خرافة ان اسعار العقارات المبنية واللامبنية لا تنخفض. هذا الاعتبار مؤداه ان الازمة العالمية التي أصابت العالم لا تصيب لبنان. لبنان محمي منها. انكار أننا جزء من العالم، يصيبنا ما لا يصيبه، ويتطور لبنان الى الوراء او الامام كما لا يتطور العالم. لكن خرافة العنجهية اللبنانية تنطوي بالطبع على عنصرية ترى النفس على غير ما هو العالم عليه. غريب ان هذا اللبناني المهاجر يندمج في العالم والعالم يندمج فيه، وعندما يعود الى لبنان يسترجع استعلاءه واعتبار نفسه مميزاً، جزءاً خاصاً من العالم؛ مغايرا للبشرية، مغايرا لما يجب ان يكون او يمكن ان يكون. هو مميز وحسب. يتقيد بالقوانين في الخارج، يحتال في الداخل. عادي في الخارج، خاص في الداخل. طائفيته تملأ كيانه. هو محكوم اصلاً بالطائفية. أو ليس التطبع ملك الزعيم. الزعيم يملكه. ما ينقصه هو دمغة على القفا لتمييز قطيع عن غيره، كما في الافلام.

      واضح ان السطو من اجل التراكم البدائي (تشليح ومغانم) يبدأ بالاراضي في المشاع او اراضي الدولة (في الجنوب وبيروت مثلاً)، وان استثمار القطاع الخاص في هذا المجال صفر. نقل الملكية (الخصخصة) يتم من دون مقابل ولذلك يسمى تراكماً اولياً. من ناحية أخرى، يريد القطاع الخاص ان يستثمر قليلاً، او لا يستثمر مطلقاً وان يسير القطاع العام على الرغم من بقاء الملكية لهذا الاخير، كالكهرباء مثلاً. بدأت الخصخصة لا بالانتاج، ولا بالنقل عالي التوتر، بل بالتوزيع، حيث شرعت سيطرة شركات خاصة من دون التزام بأي استثمار؛ بينما الشركات الخاصة تجني ثمار نقل ادارة هذا القطاع اليها. كذلك ادارة معامل الانتاج. لم تساهم الشركات الخاصة بقرش في بنائها بينما هي تديرها، وتستفيد من ارباحها، بشكل او بآخر (مرة أخرى: من دون ان تستثمر شيئاً).   

     الموضوع ليس السماح او عدم السماح للقطاع الخاص بالاستثمار في منشآت جديدة. من الطبيعي ان تكون بادارته عندما يستثمر. لكن الموضوع هو ان تبني الدولة المنشآت وتصير الادارة بيد القطاع الخاص. هذا القطاع الذي لا يجني الارباح من اموال كان هو السبب في تثميرها واخذ المخاطر في سبيل ذلك، بل يفضل ان تستثمر الدولة وان يقتطع هو الارباح.

     في الخصخصة بيع وشراء. لا شيء يمنع الدولة القوية، ذات الهيبة، من البيع والشراء حسب المصلحة. لكن الدولة الضعيفة لا بدّ ان تبيع بأسعار رخيصة. العكس ينطبق على الدولة القوية. لا مغالاة اذاً في القول ان اضعاف الدولة هو برنامج للنيوليبرالية (الرأسمال المالي) من أجل شراء موجودات الدولة بأسعار بخسة.

في جميع الاحوال يسيطر رأس المال المالي على الدولة وعلى القطاع العام. هو يملكه وان بشكل غير مباشر. واذا قيل ان الدولة “تاجر فاشل” او صاحب اعمال فاشل فإن المسؤولية في ذلك تقع على عاتق القطاع الخاص، لو أراد القطاع الخاص دولة قوية لفعل ذلك. فشل الدولة هو فشل القطاع الخاص في ادارة الدولة وفي جعل الدولة تدير الاقتصاد. معنى الفساد الحقيقي هو ان القطاع الخاص يسيطر على الدولة. مصلحة خاصة وحدها، من دون مصالح الفئات الاجتماعية الاخرى، تسيطر على الدولة. اذا كان هناك تنافس بين اطراف القطاع الخاص فهو تنافس على الحصص لا على دور الدولة. يجمعون على ان يبقى دورها في الاقتصاد ضعيفاً. وعندما يقع القطاع الخاص في مأزق او أزمة يطلبون من الدولة انقاذه. الربح له والعبء على الدولة.

     الدولة الضعيفة هي التي تفتقر الى سلطة القرار (لبنان مثل على ذلك). الدولة الاستبدادية هي التي تلغي مصالح تختلف عما يريد اهل السلطة. الدولة القوية هي التي تأخذ جميع المصالح بعين الاعتبار في جميع القرارات التي تتخذها، هي الدولة السياسية. في الدولة الضعيفة والدولة الاستبدادية تكون السياسة ملغاة. يظن البعض ان الدولة الضعيفة كلها سياسة، وان السياسة “خربتنا”. لا سياسة من دون ارادة، ولا ارادة من دون قرار. الدولة السياسية هي وحدها الدولة القوية.

     الخصخصة هي سيطرة راس المال الخاص على املاك المجال العام، سواء كان ذلك املاك الدولة أو الاملاك المشاعية. لم ينج بلد من هذا المصير منذ انطلاقة الراسمالية في القرن السادس عشر. كان الأمر سرقة ونهباً وتراكماً اولياً، وصار ايديولوجيا الليبرالية الجديدة مع تطوره ليشمل كل المنشآت العامة التي تقيمها الدولة، ثم تحال الى القطاع الخاص ليملكها أو يديرها.

     تسعى الراسمالية دائماُ الى تضييق المجال العام وتوسيع المجال الخاص، سواء كان ذلك في السياسة او في الاقتصاد، في الحوار او في التملك. ما تفعله النيوليبرالية الآن هو تضييق المجال العام الى جمل قصيرة تختصر المعنى والمغزى، وتسطح المعرفة وتحولها الى معلومات، كما تحول التفكير بالعموميات الى تفكير بالتفاصيل والخصوصيات. تسطيح معرفي كامل يؤدي الى الاقتصار على وسائل الاتصال الاجتماعي. لكن ما هو اجتماعي ينعكس الى ضده. كان المجتمع علاقات بين الناس. تذرر المجتمع واصبح كل من الناس يحاور الآلة الذكية التي بيده. صار الفرد يدور حول نفسه، وجرى تدمير العلاقات. حلّ المباشر مكان التطلعات طويلة المدى، وقصر النظر مكان الرؤيا. ثم جاءت خصخصة الفضاء العام الذي بعد ان كان مجالاً للتواصل صار مجالاً مذرراً مقسماً للتقوقع الفردي. الفرد يدفع ثمنه لقاء الآلة الذكية التي بيده. هي لا تصله بالناس بل بمركز يبث معلومات وصورا. يعيد تشكيل الانسان. لا تتوقف الخصخصة عند مصادرة الاملاك العامة والمشاعات، بل تصادر النفس البشرية.

     ناضلت البشرية قروناً من أجل الحرية. بلغ ذلك قمته في الفردية التي تعتبر اختصاراً للحداثة. صار الفرد مصادراً في مجاله الخاص، والحياة الخاصة به مصادرة، عقله مفكك، معلوماته يحملها في جيبه، في تلك الآلة الذكية. لا يحتاج الى تشغيل ذاكرته. مع قرب الفردية من الاكتمال تم تفريغها من ملكة التفكير والربط بين الاشياء. بذلك تكتمل حلقات الخصخصة.  

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This