رغم الفشل في ايجاد مطمر صحي لنفايات قضائي الشوف وعاليه، فان سكة المناقصات التي انطلقت في آذار (مارس) العام 2016 بإدارة مجلس الإنماء والاعمار قد نجحت حتى اللحظة في ترسيه عقود عدد كبير من الشركات التي باتت تتولى جمع ونقل وفرز ومعالجة وطمر كمية كبيرة من النفايات الناتجة عن محافظتي بيروت وجبل لبنان.
القاسم المشترك في جميع هذه المناقصات ان شركتي سوكلين وسوكومي (مجموعة افيردا) باتت كلياً خارج المعادلة، بعد ان تولت لفترة تزيد عن عقد ونصف خدمات النظافة في هذه المنطقة التي تعد الاعلى بالنسبة لكثافة السكان، وتنتج يومياً ما يقارب 3500 طن من النفايات. حتى اعمال التتريب والتعشيب والتأهيل لمطمر الناعمة – عين درافيل، الذي يفترض ان تنجز ضمن العقد الاساسي لشركة سوكومي، بعد ان طمر فيه قرابة 19 مليون طن، قد جرى تلزيمها من الباطن لمتعهد من بلدة الناعمة، ما يؤشر الى ان الشركة قد آثرت الانسحاب كلياً من ادارة النفايات في لبنان.
لماذا وصلت سوكلين الى هذا المصير ؟ وهي التي نجحت في التوسع خارج لبنان من دول الخليج الى المغرب العربي وصولاً الى اوروبا. وهل فعلاً ان ثمة “مؤامرة” سياسية قد افضت الى خسارة الشركة لهذا القطاع ؟
لنعد الى اصل المشكلة. دأبت الشركة على امتداد السنوات الماضية وتحديداً منذ العام 1998 على تنفيذ العقود الموقعة مع مجلس الانماء والاعمار، بمنطق دفن الرأس في الرمل. كانت تعرف منذ البداية انه لا يمكن لهذه العقود ان تستمر بالطريقة التي انطلقت بها، لكن التوافق السياسي على اعتماد مطمر الناعمة – عين درافيل كمنشاة اساسية للتخلص النهائي من قرابة 85 بالمائة من النفايات التي يتم جمعها، دفعت الشركة الى الركون للأمر الواقع، ولم تبادر الى تحسين هذه المعادلة ورفع نسبة استرداد النفايات بدل طمرها بما يكفل انخفاض معدل استخدام الاراضي للطمر.
تقول الشركة في جميع البيانات التي اصدرتها، وخصوصاً عقب اندلاع ازمة النفايات في تموز العام 2015 ، انها لطالما احترمت العقود الموقعة مع مجلس الانماء والاعمار ولم تخالفها، وان مسؤولية عدم توسيع وتطوير معمل المعالجة في الكورال او بناء معمل اضافي في موقع آخر يقع على الطبقة السياسية ولا تتحمل الشركة مسؤوليته. في الشكل هذا الكلام دقيق. لكن الجميع يعرف ان الشركة تدخلت وبكل قوة في سبيل انجاح عملية استملاك اراضي اضافية في مطمر الناعمة – عين درافيل، عندما لجأ اصحاب الاراضي المستمكلة في عين درافيل عام 2007 الى الطعن بمراسيم الاستملاك امام مجلس شورى الدولة. وهذا يؤشر على ان الشركة عندما كانت تستشعر بخطر انهيار منشأة التخلص النهائي من النفايات، كانت تدفع بكل ما تملك من نفوذ، خصوصاً عند الممسكين بقرار الحل والربط، من مجلس الانماء والاعمار الى الامانة العامة لمجلس الوزراء الى مختلف الادارات المعنية ، من أجل ابتداع “حل سحري” يسمح باستمرار العمل بمطمر الناعمة عين درافيل، لكنه لم تبادر بالحماسة نفسها الى تحسين وتطوير مراكز الفرز في الكرنتينا والعمروسية، حيث كانت تفيض مئات الاطنان من النفايات المكدسة فوق الجرارات الميكانكية ليفرز منها ما خف وزنه وارتفع ثمنه، وليكدس ما بقي من النفايات ويغلف وينقل بالشاحنات الى الناعمة – عين درافيل حيث يستقر تحت التراب. اما معمل تسبيخ المواد العضوية في الكورال، فبقي على حاله من الانتاج الذي لا يتجاوز 20 بالمائة من الكمية المطلوب معالجتها (300 طن من اصل 2800 طن من المواد العضوية) التي يفترض ان تعالج وتذهب الى الاراضي الزراعية كمواد محسنة للتربة. كانت الحجة في بدايات العام 2000 ان الارض المستخدمة هناك لا تتسع لكميات اضافية. لكن ماذا عن المواقع الاخرى ؟ وماذا عن التقنيات الاخرى في معالجة المواد العضوية وغير العضوية، من التخمير اللاهوائي الى انتاج الوقود البديل RDF ؟ وصولاً الى التخلص من مواد غير قابلة للتدوير والتسبيخ ويمكن التخلص منها بطرق وتقنيات متعددة بدل طمرها.
تثبت المراسلات بين الشركة ومجلس الانماء والاعمار، انها لطالما سعت الى تعديل معادلة الاسعار التي نصت عليها بنود عقد كنس وجمع ونقل النفايات في بيروت وجبل لبنان. وكان جواب مجلس الانماء والاعمار ، خصوصاً بعد العام 2010 انه مستعد لتفاوض على تعديل اسعار هذا العقد، اذا قبلت الشركة بالتفاوض ايضاَ على تعديل وتقييم عقد الفرز المعالجة في الكرنتينا والعمروسية، وعقد الطمر في الناعمة – عين درافيل وبصاليم. حينها كان الشركة لا تنبس ببنت شفة، وتفضل ابقاء الحال على ما هو عليه ، طالما ان خدمة الفرز تشمل كامل الكمية المرفوعة، وخدمة المعالجة تشمل فقط 20 بالمائة من الكمية المرفوعة والقابلة للمعالجة، وطالما ان الكميات المرفوعة تنقل بين مركز وآخر وتكبس وتغلف ثم تنقل الى مطمر الناعمة – عين درافيل، حيث تطمر هناك وايضاً بأكلاف مرتفعة. المعادلة التي حكمت صناعة القرار في سوكلين تقوم على التالي: مطمر الناعمة ماشي ، والشغل ماشي ولا يهمك”!
حدثت مجموعة من الهزات الارتدادية الاحتجاجية في الناعمة – عين درافيل، مع التمديدات المتلاحقة لطمر النفايات في هذا الموقع، عام 2003 و 2006 و 2010 وصولاً الى تصاعد حملات الاحتجاج مع التمديد عام 2014، لكن سوكلين بقيت تراهن على ان القرار السياسي لن يسمح بالتخلي عن هذا الموقع، وان فشل ادارة المناقصات في مجلس الانماء والاعمار ووزارة البيئة باطلاق مناقصة للتفكك الحراري عام 2010 يسمح للشركة ان تبقى اللاعب الوحيد في الميدان، حيث لن يجرأ احد على المنافسة. تزامن ذلك مع اشارة بالغة الاهمية بدخول لاعبين جدد الى الميدان مع تلزيم اعمال التخلص من جبل النفايات في صيدا الى المتعهد “السوبر” جهاد العرب. لكن الشركة كانت تبلغ من يراجعها انها باقية وان احداً لن يستطيع زحزحتها.
جاء الزلال الكبير في تموز 2015 حيث نجحت الحركة الاحتجاجية في الناعمة في احراج مختلف القوى السياسية المكونة لحكومة الرئيس تمام سلام، التي فشلت او افشلت جميع الخيارات المتاحة لانتقال هادئ وعلني وصريح من الناعمة – عين درافيل الى موقع آخر، ودفع الغضب الشعبي من جهة والحسابات السياسية من جهة اخرى، الى اتخاذ قرار باقفال المطمر نهائياً دون ان يتم ايجاد بديل، كان الجميع مستعد للتضحية بسوكلين ودفع شظايا الأزمة الى صدرها ليمزقه ارباً.
خرج اللبنانيون الى اعمالهم صبيحة يوم 16 تموز 2015 على مشهد النفايات المتكدسة في الطرقات في عز موجة الحر، وما تبع ذلك من حركات احتجاجية لم يشهدها لبنان سابقاً. اخطر ما انتجته هذه الازمة تصاعد موجة رفض السكان لاي حل مقترح للنفايات، او ما يعرف بظاهرة “ليس في حديقتي الخلفية” والذي يطلق عليه تسميه NIMBY اي NOT IN MY BACK YARD .
ومع اغراق سوكلين بالدعاوى القضائية وبالحملات الاعلامية وتصاعد الاتهامات التي وجهت لها بمخالفة العقود وبالفساد، كانت شركة تعرف ان جميع هذه الحملات لن تستطيع ازاحتها عن المشهد، لو انها استطاعت ان تؤسس خلال سنوات توليها لهذا القطاع، لقاعدة راسخة في ادارة النفايات تقوم على رفع مستوى المعالجة قبل الطمر. ولم ينفع صدور القرار القضائي مؤخراً بتبرئة الشركة من التهم الموجهه اليها، من تغير واقع المعادلة الجديدة التي تم تكريسها، “لا مطمر … لا سوكلين”.
اختارت حكومة الرئيس سلام التي استمرت بفعل تعثر الانتخابات الرئاسية في البحث عن الحلول الترقيعية، من جولة المناقصات الأولى التي افشلت، الى خيار الترحيل الى الارياف ومناطق الاطراف، وصولاً الى خوض عباب البحار “وحلم” الترحيل الى افريقيا وروسيا، الذي راود البعض وسرعان ما اثبت ابعاده الفضائحية ومخالفته لاتفاقية بازل.
عاد الجميع الى طاولة مجلس الوزراء، وجرى التوافق السياسي بصفقة وافق عليها جميع الافرقاء باستثناء حزب الكتائب، على انشاء مطمرين في برج حمود – الجديدة ومصب نهر الغدير (الشويفات)، ومطمر آخر في الشوف كان الجميع يعرف انه لن يبصر النور. كما تقرر اطلاق مناقصات لتلزيم مختلف خدمات ادارة النفايات في بيروت وجبل لبنان.
تعاطت شركة سوكلين مع صفقة المطامر البحرية منذ البداية ، على قاعدة انها خارج المعادلة، وظلت تناور وتفاوض من اجل موقع آخر في الشوف، لكن افشال اهالي اقليم الخروب لهذا الخيار قطع الطريق على سوكلين وجميع اللاعبين الجدد، وابرزهم جهاد العرب من نقل مطمر الناعمة الى منطقتهم.
توالت هزائم الشركة، باتت خارج معادلة الطمر، وسعت الى المنافسة في مناقصة الفرز والمعالجة، فقوبلت بسياسة حرق اسعار غير قابلة للتنافس، فخسرت مجدداً، ولم تفلح حتى في الفوز بمناقصة كنس وجمع النفايات في الشوف وعاليه وبعبدا. اما بيروت التي جرى تحييدها عن المناقصات بقرار من تيار المستقبل، فان جميع المؤشرات تدل على انها تتجه الى صفقة تلزيم لمحرقة لن تكون سوكلين في عداد المنافسين للمشاركة فيها مع متعهد اجنبي يمتلك الخبرة في هذا النوع من التقنيات.
نورد كل هذه الوقائع ، بالتزامن مع اهمية التذكير بان ما اصاب سوكلين سيصيب من ورثها ايضاً، فالمعادلة مع المناقصات الجديدة لم تتغير، طمر ما يقارب 85 بالمائة من النفايات، وعدم تطوير او انشاء معامل جديدة بما يكفي لضمان حسن استخدام الاراضي المخصصة للطمر، والتي ضاقت على اليابسة فاتجه “عباقرة” التخطيط الى رميها في البحر. ومع اقتراب موعد فقدان الطاقة الاستيعابية لمطمري برج حمود والشويفات، ستعود الازمة بقوة أكبر، واكثر خطورة. لكن من اجترح الحلول لسوكلين على امتداد 18 عاماً سيكون جاهزاً للاستمرار بنفس الإداء ولو على حساب البيئة وصحة اللبنانيين. انه لبنان بلد الصفقات الذي تسقط فيه الكثير من الرؤوس، لكن زعماء الطوائف ينجحون في المحصلة في الابقاء على استمرار مصالحهم ويبدلون يافطة باخرى وشركة بأخرى.

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This