المصلحة تعبير يكثر تداوله في الحديث اليومي وفي التصريحات وفي سياسات الدول. محاولة التعريف بهذا التعبير تقود الى اعتبارات عديدة متناقضة.

     المصلحة تصُّور حول فعل ما او حدث ما او شيء ما. نتيجته اعتبار ان هذا الفعل او الشيء مناسب. على اساس تناسب الامر مع الذات او مع المزاج، ترى ان لك فيه مصلحة. تشبه المصلحة حب التملّك. تبدأ بفرض السيطرة وتنتهي الى القول إنه يجب ان يكون ملكك، اي انه يجب ان يخضع لارادتك خضوعاً كلياً. الملكية هي فرض الارادة على الشيء، ارادة كاملة، فيصير حقاً من حقوقك. ليست المصلحة الا رغبة في ان يصير الفعل او الشخص حقاً لك، خاضعاً لارادتك، ممتلكاً لك.

     المصلحة ليست موضوعية، ليست شيئاً قابعاً خارج ذاتك. هي تصورك أنت عما هو خارج نفسك، سواء كنت فرداً او دولة، هي ما تريده انت مما هو خارجك. هي ذاتك المسقطة على خارجها اسقاط النفس على ما هو خارجها، بهدف السيطرة او التملك.

      ليست المصلحة أمراً موضوعياً ما دامت هي رغبة. الموضوعي هو ما يقبع خارج الذات، يخضع لها بالقسر والاكراه. تنتفي المصلحة عندما تغيب القدرة على السيطرة او التملك. المصلحة رغبة، ليست بالضرورة ان تكون موضوعية، وليس بالضرورة ان تكون علاقة اختيارية. لك مصلحة في الشيء، تحاول اذاً فرض نفسك عليه، تحاول تملكه. الخيار لك لا للشيء.

     الولايات المتحدة لها مصالح حول العالم. يصرّ رؤساؤها وسياسيوها على التصريح بأن ما يحدث في أي من أنحاء الكرة الارضية يتناول مصلحة قومية اميركية. ليس لشعوب هذه المناطق قول (او ارادة) في هذا الامر. المصلحة الاميركية تقررها الذات الاميركية، الدولة الاميركية. من أجل ذلك تنتشر اساطيلها وجيوشها وقواعدها حول العالم. لذلك تسمى دولة عظمى. ربما كانت الوحيدة. بالطبع، تحاول دول اخرى منافستها على ذلك. لكن الرغبة الاميركية مدعومة بالقوى البحرية والجوية والارضية تفوق ما لدى كل البلدان الاخرى. تنفق الدولة الاميركية سنوياً على الشؤون العسكرية ما يفوق ضعف انفاق العالم كله. ما هو مصلحة اميركية في مختلف انحاء العالم تقرره القوة الاميركية وحسب. دول اخرى لها مصالح في أجزاء  من العالم تحاول منافسة الولايات المتحدة. ان يكون مصير القوة الاميركية الى أفول فهذا أمر يستحق نقاش. لا شك في ان الكثيرين حول العالم يضيق صدرهم بهذه القوة وهذه المصلحة.

     المصلحة رغبة، وبالتالي هي ليست اختيارية. الرغبة يقررها الدين والمال ووسائل الاعلام. الدين بالنيابة عن الله، المال بالنيابة عن الطبقة العليا، ووسائل الاعلام (الصحافة، الاذاعات، الفضائيات، الخ) موجودة لخدمة الله والمال. ليس صدفة أنه في الفضاء العربي مئات بل الآف المحطات الفضائية الدينية. هي لتقرير الدين والمصلحة. هي لاعادة تشكيل الوعي بما يناسب مصلحة او مصالح يراد لها ان تصبح اشبه بالغرائز عند من يتلقونها. يصير الدين مصلحة مثل المصالح المادية او المالية. يقاتل الناس من أجله كما يقاتلون من أجل المال. كلاهما طريق الى السلطة أو الخضوع.

     تتناقض المصلحة او الرغبة مع الاخلاق. الاخلاق هي القيام بما يجب ان تقوم به او لا تقوم به. الاخلاق اختيارية، تؤدي الى مجال الحرية. المصلحة قسرية تؤدي الى عكس ذلك. تُمارس الملذات بالاستناد الى الرغبة او المصلحة، خاصة عندما تصبح هذه او تلك غريزة او ما يشابهها. لذة السيطرة او التملك تنبع من تصورها في النفس، وهي ما يشكله الفضاء الاعلامي. وهي ما تقاد انت الى فعله او تمنّيه.

     ليست المصلحة تعاقدية. لا يمكن ان تشكل عقدا، او تؤدي الى عقد بين طرفين، احدهما يرفض العلاقة التعاقدية. العقد لا يحصل الا بين طرفين بالتراضي. لا يمكن اعتبار المصلحة الا من خلال السيطرة والتملك. على صعيد الدول تصير نوعاً من الاستعمار او الامبريالية. تتعلق المصلحة كما الاخلاق بما يجب ان يكون من علاقة او سيطرة او تملّك. لكن العلاقة الاخلاقية تقوم على الرضا المتبادل. علاقة المصلحة تقوم على القسر والاكراه.

     يفعل الناس في سلوكهم اليومي أموراً كثيرة بحكم العادة، كالنزول الى الشارع والسير الى المكتب، والشراء من الدكان، والقاء التحية. ما يحدث بحكم العادة يصير أمراً غريزياً أو شبه غريزي. يصير جزءاً من نفسك. انت تقوم به، تفعله، لأنك يجب ان تفعله من دون تفكير او اختيار.

     يفعل الاشخاص أموراً كثيرة في اليوم كالتدخين وتعاطي الكحول. ليس لهم مصلحة صحية في ذلك. لكن الرغبة تدفعهم. يدّعي المرتكبون ان ذلك يصلح المزاج، او يساعد المزاج على التناسب. وهم موروث، لكنه مستحب عند الكثيرين. مصلحة معنوية غريزية اجبارية لا خيار فيها. يظن الناس ان المصلحة أمر مادي،اي الحصول على المال. تختصر كل المصالح الى مال، او ما يشابهه. لكن أكثر المصالح معنوي لا مادي، هي رغبات أو تصورات ذاتية عما هو في النفس أو خارجها. نرغب أحياناً بارتكاب أفعال معيّنة ليس لنا فيها مصلحة صحية أو مادية. نفعلها من أجل النفس لا من أجل ذاتها. ما نفعله هنا ليس موضوعياً، واحياناً ضد المصلحة الصحية، لكننا نفعله. تصوّرنا عن المصلحة يفوق المنافع (او عدم المنافع) المادية            والمعنوية.

     في مجتمع يسيطر المال على التداول فيه، فانه يسيطر على كل المجالات الاخرى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والروحية، يصير المال محور كل مصلحة. يقيّم الانسان بالمال. عندما تقتل انساناً أو تقطع بعض أطرافه، تقيّم حياة القتيل بكمية من المال كعقاب على الجريمة، ناهيك عن انّ السجن او القصاص وقطع الاعضاء تقيّم بالمال. يصير المال مصدر كل قيمة. ويصير المال هدف كل سعي وعمل. وتقيّم افعال البشر بالمال، وهو وسيط التداول ليس فقط بما يتعلق بما يباع ويشترى من الاشياء، بل وسيط التداول الذي تقرر حيوات الناس على اساسه. قيمة الشخص او الاشخاص تحتسب بالمقابل المادي. حياة الانسان واحدة، لكن أسعارها تختلف حسب تقلبات سوق القطع، أو سوق تبادل العملات بين البلدان. تزداد قيمة الحياة بحسب ارتفاع سوق القطع او هبوطها.

     المهم ان المصلحة ليست أمراً موضوعياً نطبق عليه حسابات العقلانية (او اللاعقلانية). المصلحة في شيء ليست شيئاً. بالتالي لا تقييم حسابياً لها. هي تصوّر، هي ما في النفس، هي رغبة. هي ما نحسب اننا نريده لأنه يلبي رغبة لدينا. ليس فيها تعاقد ولا اختيار ولا حرية. تناقض المصلحة والاخلاق أمر بديهي، هو حصيلة التناقض بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي.

     يفترض ان تكون السياسة تسوية، او تراكم تسويات، بين مصالح مختلفة او متناقضة. هي تسوية بين رؤى مختلفة حيث يرى كل طرف ان رؤيته هي المصلحة الحقيقية له وللاخرين. كي يكون للسياسة مكان يجب التنازل عن بعض المصلحة او الحقيقة. ما دامت هناك حقيقة واحدة (نسبية او مطلقة) فهناك مصلحة واحدة، ولا مجال للتسوية. كل مجتمع يتشكل من اطراف متعددة، مصالح متناقضة. الفساد هو اعلاء المصلحة الشخصية، او مصلحة الفريق الذي ننتمي اليه، على المصالح الوطنية الجامعة، على مصلحة المجتمع. لذلك فإن كل دولة مرتع للفساد بما هي مرتع للتناقض. تعلو السياسة بما هي تسوية على المصالح المتناقضة، كذلك تعلو على الصراعات من أجل السلطة. لا سياسة حقيقية الا بما يكون لمصلحة المجتمع ككل، وفي خدمة الدولة كإطار ناظم للمجتمع. كل المصالح الجزئية، لهذا الطرف أو ذاك، ومهما كانت تدعي الحقيقة الابدية الازلية، هي مصالح فاسدة. ليس الصراع في المجتمع (خاصة من أجل المصالح الفئوية) هو بين الفساد والاستقامة. هو كله فساد بما انه يهدف الى تقديم مصلحة على اخرى وليس التسوية بينهما في سبيل تسوية عليا تعبر عن مصلحة عليا. ادعاء فريق ما امتلاك الحقيقة ليس ابتعاداً عن الفساد، هو الفساد بعينه. يحاول فرسان مواجهة الفساد فرض اقتصار امره على الرشوات وتبادل المنافع. هذا جزء من القضية. هو جزء هامشي. الفساد العام هو خروج عام عن المصلحة العامة، وهو خروج عام عن الاخلاق. الخروج عن السياسة، بمعنى ادارة المجتمع، هو خروج عن الاخلاق. حملة القضاء على الفساد الراهنة تسخّف الموضوع وتهمّشه كي يبقى الفساد العام هو الاساس.

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This