الخامس من حزيران (يونيو)، يوم البيئة العالمي. هل هو يوم للإحتفالات وشرب الأنخاب، مدّ الولائم وتسخير الإعلام لإطلاق التصريحات والخطب والأقاويل الاحتفالية، أم هو يوم لتقييم الإنجازات والإخفاقات ووضع جردة حساب، في ما قمنا به لتخفيف التدهور البيئي، الذي يطاول بلدنا في كل أبعاد ووجوه وملفات البيئة؛ وفي ما يتعلق بكل الأوساط البيئية: هواء، تربة، مياها، بحرا وسلسلة غذائية؛ وفي إدارة الملفات الساخنة والضاغطة بقوة، على اتزان منظوماتنا البيئية المتنوعة؛ وعلى الصحة البشرية، حيث تتزايد، بتسارع مرعب، وتائر التعرض للأمراض الخطيرة والمزمنة والمميتة. وفي كل الحالات، ضغطها الشديد على المال العام، لما يرافق الهدر البيئي الشامل من فساد وصفقات مريبة، بطرق تلتف على القانون وآلياته ومساراته؟
في خانة الإنجازات، يمكن بخفر كبير، ذكر المحاولة الخجولة لتنظيم ملف الصيد؛ ولو ليس في أوانه المنصوص عنه في القانون؛ وفي ظل ضعف صارخ لمراقبة حسن تطبيق التزاماته ومندرجاته. وفي وقت تستمر المماطلة والتأجيل لإطلاق: الضابطة العدلية البيئية، المحكمة البيئية والشرطة البيئية، التي لا تزال أمنيات عصية على التطبيق الفعلي.
وفي خانة الإنجازات أيضاً، يمكننا ذكر الاهتمام بالمحميات الطبيعية، التي لا تزال تحتاج إلى الكثير من العمل والجهد والمبادرات، لكي يرتقي العمل فيها إلى المستوى الذي تستحقه مواردنا الطبيعية، الفريدة بجمالها وقيمتها البيئية العالية؛ وبثراء وغنى تنوعها البيولوجي.
ولا ننسى في خانة الإنجازات أيضاً، ما تحقق مؤخراً من إنجاز لتحديث الخطة التنفيذية الوطنية، بشأن الملوثات العضوية الثابتة؛ وما يجري من تقدم في مشروع التخلص من مركبات متعددة الكلور، ثنائية الفنيل PCBs. يتم هذا بالطبع، بفضل التعاون الوثيق مع الأمم المتحدة للبيئة. وبتمويل من المرفق العالمي للبيئة. لكن في هذا المقام وإن كنا نسوّقه مع الإنجازات، لا بد من المطالبة بالانتقال من التخطيط ووضع الدراسات إلى وضع الخطط التنفيذية وتطبيقها. ووضع الموازنات الوطنية، التي تضاف إلى الهبات والقروض الدولية، لإحداث التقدم المطلوب في تطوير السلامة الكيميائية؛ والإدارة السليمة بيئياً والآمنة صحياً، للكيماويات والنفايات السامة على أنواعها، تشريعات وخططا تنفيذية وإجراءات عملية تتحقق على أرض الواقع.
هذه الإنجازات المتواضعة والمحدودة الفعالية والأثر، لا تقارن بما لحق بكل الأوساط والملفات البيئية من تدهور وتراجع وخراب.
فالأزمة الوطنية الكبرى لإدارة النفايات، لا تزال تنتقل من حلقة إلى أخرى، أكثر سوءاً وأكثر أثراً تدميرياً على البيئة. وأكثر تهديداً لصحة المواطنين. وأكثر صلافة في الفساد وهدر المال العام. وأشد وقاحة في وضع اليد على الأملاك العامة ومصادرتها، خصوصا منها الشاطئية والبحرية.
لا تزال الحكومات المتعاقبة تتخبط في أزمة إدارة النفايات. ولا يزال مكب “الكوستاربافا” يستقبل ألوف الأطنان يومياً، من النفايات الغنية بالمكونات القابلة للتحلل والتعفن، مخالفاً بذلك، كل المعايير الدولية المتعلقة بأمان وسلامة الطيران المدني، في المطارات. ومهدداً سلامة الطيران في “مطار رفيق الحريري” الدولي في بيروت. وذلك لاعتبار منشآت النفايات، التي تحتوي على مكونات قابلة للتحلل والتعفن، تجتذب طيور النورس، التي تشكل خطرا على سلامة الطيران، في محيط المطارات ومدرجات الإقلاع والهبوط. ولا يزال هذا الموقع عاملاً، على الرغم من القرارات القضائية بإقفاله. مكب “الكوستابرافا”، يهدد سلامة الطيران ويلغي شاطئاً رملياً من أجمل شواطئ لبنان، حيث توجد آثار بيزنطية جرى طمرها بالنفايات.وحيث يخطط لردم البحر. وهذا، كما يبدو، الهدف الحقيقي لاختيار هذا الموقع مكبا للنفايات. يطلقون عليه زوراً إسم مطمر صحي، فهو لا يراعي الحد الأدنى من الشروط البيئية للمطمر. ولا هو يطمر صحياً النفايات التي تنقل إليه، حيث ترك الجدار الغربي للحفرة، المسماة مطمراً، غير محكمة العزل. مما يدل على نية لترك عصارة النفايات الغنية بالسموم، قصدا وعمدا، أن تتسرب إلى البحر. في حين تساق الأكاذيب، في الإعلام، عن معالجتها قبل رميها. وهذا يجافي كل الوقائع. هذا الموقع، تحوّل مؤخراً، إلى مصدر لإطلاق الروائح الكريهة والغازات الضارة. ويسبب قلقاً لراحة أكثر من مليون مواطن، يسكنون المنطقة، في: الشويفات، عرمون، بشامون، الحدث، بعبدا والضاحية. ويعرّض صحتهم وصحة أطفالهم لأكبر المخاطر.
ما يجري في مكب برج حمود، هو في السياق نفسه. والعمل فيه نسخة مكبرة عما يجري في “الكوستابرافا”، حيث حجم الكارثة البيئية هناك أكبر بأضعاف عدّة. إستقبل المكبّ العشوائي في برج حمود، كل أنواع النفايات، بما فيها النفايات الخطرة، على مدى عقود من الزمن، ما جعل من الأعمال الجارية هناك، مصدراً لتلويث خطير للبحر؛ وتهديدا كبيراً للصحة العامة ولرفاه كل القاطنين في المنطقة.
نسأل في يوم البيئة العالمي، في الخامس من حزيران، ماذا فعلتم في مسألة إدارة النفايات الخطرة، من كل المصادر، الصناعية وغير الصناعية؟ فالنفايات التي تتولد في لبنان، ليس فقط نفايات منزلية، ينصبّ الجهد على الإمساك بها، مصدراً لحلب مئات ملايين الدولارات من المال العام، دون إرساء إدارة سليمة بيئياً لها، آمنة صحياً ومقبولة اقتصاديا واجتماعيا. هناك كميات كبيرة من النفايات الخطرة، تتوّلد من بعض الأنشطة الصناعية، بكميات متفاوتة الأهمية، من مختبرات التحليل الطبي والكيميائي؛ ومن عيادات الطب البشري، البيطري، طب الأسنان، المراكز الطبية والمستوصفات ومصادر أخرى. ليس كل النفايات الطبية الخطرة نفايات ملوثة، بل هناك أيضاً، فئات أخرى، لا يغطيها النظام المعمول به حالياً لإدارة النفايات الطبية الملوثة، الذي يحتاج أيضاً، إلى تطوير كي يشمل كل المؤسسات الطبية وكل مؤسسات الرعاية الصحية؛ وليس فقط المستشفيات الكبرى في لبنان.
وكذلك، ماذا فعلنا بالنفايات الصناعية الأخرى، السائلة والصلبة. وما هي خطتنا للتعامل مع هذا الملف الهام؟ حيث أن النفايات الصناعية تشكل مصدرا هاماً لتلويث الثروة المائية والأنهر، لا سيما النهر الأبرز والأكثر أهمية في لبنان، نهر الليطاني وبحيرة القرعون.
ونسأل في هذا اليوم، الذي نريده يوماً للمراجعة وجردة الحساب، علّنا نضع مجموعة أولويات نعمل على معالجتها وطنياً، في العام المقبل. ماذا فعلنا بالنفايات الإلكترونية وقد تزايدت كمياتها في لبنان، في السنوات الأخيرة؟ ومن المعروف أنها تصنف نفايات خطرة. وهي تسمم البيئة، إذا لم تتم إدارتها بشكل سليم. وإذا لم نقم بوضع نظام منفصل لجمعها والتعامل معها.
ملف التلوّث؟
ماذا فعلنا بتلوّث الهواء في المدن الكبرى، من مصادر قطاع النقل ومن المصادر الصناعية والمنزلية. وتلوّث هواء المناطق الصناعية الكبرى، في لبنان. هل آن الأوان لكي نعيد النظر بالقرار 1/8 وقد تجاوز عمره الإفتراضي، بأكثر من عقد ونصف من الزمن؟
ماذا فعلنا لتفادي ومعالجة تلوث البحر على طول ساحلنا اللبناني، المثقل بأنابيب ضخ المياه المبتذلة، غير المعالجة؛ وبالتدفقات الصناعية، مباشرة، أو غير مباشرة، إلى البحر؟ ماذا فعلنا لحماية بحرنا من أسباب التلوث؛ وشواطئنا، من أسباب التدهور والدمار؛ وأملاكنا البحرية من المصادرة ووضع اليد ومشاريع الردم وتغيير المعالم وحرمان اللبنانيين من حق الوصول لبحرهم بحرّية ومجاناً؟
ماذا فعلنا لحماية أنهرنا وثروتنا المائية السطحية، التي تركناها عقودا عرضة للتلوث الخطير، من كل المصادر، فأدرنا عليها تدفقات شبكات صرفنا الصحي غير المعالجة، في ممارسة غبية، تتعارض كلياً مع أدنى مفاهيم التنمية وحماية البيئة؟ وتركنا المصانع ترمي تدفقاتها غير المعالجة، في النهر وفي فروعه ورافده وفي حوضه المائي. وها نحن اليوم، أمام كارثة تلوث الليطاني وبحيرة القرعون، حيث خرجا كلياً من احتساب الثروة المائية العذبة اللبنانية، لسنوات طويلة، باعتبار الماء فيهما لا يستجيب لمواصفات كل الاستخدامات المفترضة، إلى حين يتم التنفيذ الكامل لخطة معالجة المياه المبتذلة، التي تصب فيه وتلوث حوضه؛ ومعالجة التدفقات الصناعية ومكبّات النفايات العشوائية القريبة منه؛ وإقفال المرامل على ضفتيه؛ ووضع وتنفيذ إجراءات حماية هندسية فعالة، للمرامل الموجودة في حوضه والمرتبطة به مائياً، عبر الينابيع والمجاري الشتوية.
ماذا فعلنا لحماية ينابيعنا وأحواضنا للمياه الجوفية، التي هي عرضة لكل أسباب ومصادر التلوث: بالصرف الصحي، بالنفايات الصناعية، بالمكبات العشوائية. وبفوضى استخدام الأدوية والأسمدة الكيميائية في الزراعة؟
ماذا فعلنا لحماية السلسلة الغذائية من التعرض للتلوث، من كل المصادر؟ ولترشيد فعّال ومراقبة موثوقة، لاستعمال المبيدات الزراعية وكلها مواد كيميائية متفاوتة السميّة البيئية والبشرية؟ هذا ضروري طبعا، ليس فقط لتلبية متطلبات بيئية وصحية، بل واقتصادية أيضاً، لأننا لن نتمكن من تصدير محاصيلنا الزراعية إذا استمرينا في هذه الفوضى العارمة، في إستخدام الأدوية والأسمدة الكيميائية، دون إرشاد أو مراقبة حقيقية.
ماذا فعلنا لحماية مواردنا الطبيعية؟ وقد تركت المقالع والكسارات والمرامل تنهش الجبال وتمحي غابات الصنوبر من الوجود؛ وتدمر التلال والهضاب وتشوهها، بغياب كامل لتطبيق الأنظمة والقوانين والمراسيم المنظمة لهذا القطاع؛ مع استفحال المهل الإدارية ورخص استصلاح الأراضي الكاذبة، المترافقة مع دفع أموال طائلة لإدارات رسمية بشكل دوري؟
هذا جزء يسير من جردة الحساب، التي ينبغي على كل مسؤول جاد أن يبحث بها ويناقشها ويطرحها على الطاولة، لوضع أولويات برنامج العمل للسنة المقبلة، كي نبدأ بمراكمة الإنجازات في معالجة تدهور بيئتنا خطوة خطوة، بدل ترك مسار التدهور مستمراً بتسارع مخيف، مع كل ما يشكله من مخاطر وتهديدات على السلامة البيئية، الآمان الصحي والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في لبنان.