لم تحقق المجتمعات العربية سيادتها بعد الاستقلال، بل بقيت تابعة لقوى خارجية بشكل او بآخر. ذلك ان الاستثمارات الاجنبية، اذا تدفقت، تتملّك البلد ولا تساهم في الاستقلال، دافعة باتجاه التبعية. ما يحقق الاستقلال الحقيقي، ومن ضمن ذلك الديمقراطية والحرية، هو العمل والانتاج. في حين ان الشركات الاجنبية واستثماراتها وسيلة استتباع لا استقلال.
يتصالح المجتمع مع نفسه بالعمل والانتاج، فيرتفع منسوب الكرامة والاعتزاز بالذات. يتداخل المجتمع ويتماسك، يتكل على نفسه ولا ينتظر الهبات والمعونات وافضال المستثمرين. يخلق الاستثمارات من ادخاراته ليستطيع الاستيراد والتصدير حسب امكاناته. هذه يقررها هو ولا تفرضها عليه شركات وقوى اجنبية.
عندما يتصالح المجتمع مع نفسه تنشأ النخبة الثقافية. ولا تنشأ هذه النخبة الاّ من خلال العمل والانتاج. فعلى قاعدة الاقتصاد المحلي تنشأ نخبة ثقافية قادرة على تشكيل وعي مستقل، وبالاحرى وعي مناسب، لا انسجاماً مع مقولات سامية، بل مع حاجات حقيقية وارادة داخلية. وعي داعش واخواتها والوعي الداعي لاستثمارات الشركات الأجنبية، كلاهما إقرار بالعجز والتبعية لقوة خارجية، سواء كانت الشركات والدول الخارجية او الارادة السماوية. كلاهما يجعل البشري أداة لا هدفاً. الأداة تموت في عمليات انتحارية عشوائية كالقتل والتدمير، او تموت موتاً بطيئاً بسبب البطالة والاجور الزهيدة.
الوعي السائد عربياً وعي منسلخ، سواء كان دينياً او قومياً او اقتصادياً. محوره الخارج لا قوى المجتمع الذاتية. لا ينشأ الوعي في فراغ تأملي، ولا بمجرد ارادة الاستهلاك وتقليد الغير. التقليد للغير واجب من اجل التقدم والنمو، نمو القدرات المحلية والاقتصاد المحلي. ليست المسألة تبشيراً بنموذج مثالي خارجي، بل بناء نموذج داخلي يكون فيه الاقتداء بالنماذج العالمية المتقدمة حجر أساس من أجل بناء نموذج محلي مؤسّس على القدرات والقوى العاملة المحلية.
كان الوعي السائد في القرن التاسع عشر والنصف الاول من القرن العشرين منفتحاً. كما كان تقدّم قوى الانتاج ممكناً. ولكن، وبسبب الاستبداد ثم الانفتاح والتشنجات الدينية، صادرت القوى اجنبية ذاك الوعي. وليس صدفة أن “الانفتاح” الاقتصادي الذي أطلقه انورالسادات وبقية الأنظمة الاستبدادية العربية، في بداية السبعينات، أدّى الى ازدهار الحركات الدينية التي تسمّى الآن متطرفة وجهادية وارهابية وتكفيرية الخ.
الانتاج الاقتصادي هو في آن معاً انتاج للوعي المناسب. انه مسألة تنموية ايضاً. هو انتاج نخبة ثقافية تتجاوز التراث، تدرسه جيداً، تقف خارجه، لتصير قادرة على فهمه وتقييمه. فالانخراط في العالم يختم واجب التقليد. بالانتاج تعود السياسة. ومحور السياسة يجب ان يكون ادارة الاقتصاد. اذ عندما ينعدم الاقتصاد والانتاج تنعدم معهما السياسة.
الاستبداد، والدين بما هوسائد، والاستثمارات الاجنبية، كلها الغت السياسة. صارت مجتمعاتنا محض استهلاكية وتعتمد على التسوّل والمساعدات. الحروب الاهلية التي تشنّها المنظومة الحاكمة العربية ضد شعوبها، للثأر من ثورة 2011، جعلت الحاجة الى المساعدات الاجنبية والتسول حاجة ملحة، وان لم تكن ضرورية.
الوعي ايضا وأيضا مسألة تنموية، وهذا الوعي مأزوم لان المجتمع مأزوم. في الازمة تزدهر القوى الظلامية والاستسلامية والراسمالية المضاربة. لا اقتصاد مجرداً عن السياسة، بل هناك اقتصاد سياسي وحسب. مع الغاء السياسة يصير الاقتصاد مبتذلاً وطريقاً للتبعية لأن السياسة تقبع في خارج المجتمع.