الوعي التنموي معني بالرؤى حول المستقبل، وبالارادة حول صنع المستقبل. لا يمكن أن تكون رؤى حول المستقبل من دون سعي من أجل التجاوز؛ تجاوز عما نحن منه، تجاوز عما كنا فيه، تجاوز عما يراد أن نبقى فيه – أي التراث وما يصاغ لنا من قرارات تراثية مشكوك في صحتها.
الوعي التنموي يعنى أيضا بالانخراط في العالم. لا يمكن أن ننخرط في العالم بينما نشيّد سورا ثقافيا حول أنفسنا؛ وأن نتفرج عند تشييد الأميركيين جدارا ماديا ويتركون لنا الجدار المعنوي. الانخراط في العالم طريقنا الوحيد الى الدخول في العالم والى الدخول في عروبتنا. عروبتنا لا يمكن أن تكون الا كونية.
في التجاوز والانخراط في العالم تمرّد على ما نحن فيه؛ هو تمرّد سياسي بالدرجة الأولى. هو تمرّد على الدّين وعلى السّلطة، وعلى تحالفها مع الدين. والتحالف قائم منذ بداية السبعينات وما زال مستمرا.
الوعي التنموي معني بالناس، بحاجاتهم ووجدانهم؛ مرجعيته هي المجتمع بما هو كائن، وكما يجب أن يكون. ولا ينبغي الا أن يكون التطور مما هو كائن الى ما يجب ان يكون تطورا تلقائيا حرّا، متحررا على الأقل من تدخل الدين والسلطة السياسية.
مرجعية الدين هي الله، أو السماء وحساباتها. تحصى الأعمال الحسنة والسيئة لكل انسان، فيقرر مصير الانسان في السماء بناء على فعله في الأرض، ويحفظ مكان له في الجنة أو في النار بناء على هذه الحسابات. لا يهم أصحاب الدين ما يجري على الأرض. لا يمانعون أن تكون هناك ملايين الضحايا، ناهيك عن الخراب والدمار. ما يهمهم أن يرضوا ما يعتبرونه الله، فهم ممثلو الله على الأرض ويعتقدون أن لهم الحق في النطق بالنيابة عنه، فما يقولونه هم هو وحي من الله. كيف لا نعرف داعش وأخواتها؟ هم الطرف الأقصى لهذا الوعي الديني. هم الوعي الديني الراهن مدفوعا الى أقصاه المنطقي والفعلي.
في الدين عبادات ومعاملات. العبادة تعنى بالعلاقة مع السماء. وعلى المؤمن أن يخضع، وان يؤدي واجباته ليرضى عنه من في السماء. الأرض دار فناء ولا يهم ما فيها من قتل وتشريد وخراب وتدمير. اذا كانت هذه مشيئة الله فليكن. المهم ما يحصل في السماء، الأرض تحضير للسماء. داعش وأخواتها، القاعدة وأخواتها، وغيرهما، فجروا منطق الدين بتركيزهم على السماء. تطرّف داعش يفضح اعتدال الدين، بالأحرى يفضح اعتدال الحقيقة. ستار الاعتدال يخفي أن كل دين يمر من داخله داعش معينة وذلك مادام معنيا بالحقيقة والدفاع عنها أو الهجوم من أجلها.
يصطدم الوعي التنموي أيضا بالسلطة السياسية. تضع السلطة مكان الاله طاغية يوصي ويصدر مراسيم هي بمثابة الكتاب المقدس. الطاغية حيّ في نظر اتباعه من الأزل حتى الأبد. هو عليّ القدرة مطلق الارادة. يحكم المجتمع، ويتحكم به؛ يعيد تشكيله. يعيد رواية التاريخ لتتناسب مع الصورة التي في ذهنه. خلق الله الانسان على شاكلته. فاذا كانت هذه هي شاكلته فذلك يعطينا فكرة عن الذي صدرت الصورة عنه.
تعمل السلطة السياسية بالقمع وتمارس الرقابة وتعتقد أنها تراقب الجميع. ويعتبر المراقبون أن العيون عليهم، وان المطلوب هو الخضوع اراديا؛ أو بما يسمى الانقماع الذاتي. لكن العقل الاستبدادي المخابراتي لا يتوقف عن تصور المؤامرات. يعرف ذلك. هو قد جاء الى السلطة بمؤامرة. يعتقد أن كل مواطن يتآمر. كل مواطن متهم حتى يثبت براءته. الكل متهمون والكل يسير الى بيته متلطّيا من جدار الى جدار. أفضل ما للمواطن هو أن لا يُرى. عندما يُرى يتذكره الرقيب ويفبرك له مؤامرة.
يتناقض الوعي التنموي مع الدين والسلطة. مرجعية الوعي التنموي هو المجتمع وحاجاته ووجدانه. في الوعي التنموي يلتزم الواحد منا بالناس، بعجرهم وبجرهم.
مرجعية الدين أكداس وأكداس من الكتب والتفسيرات التي يدّعي أصحابها أنها ارادة الله. وكلما توغل الانسان في دراستها يصير أكثر علما، هكذا يتوهمون. صاحب الدين لا يهمه المجتمع وقضاياه، هو مكرس نفسه للسماء.
مرجعية اتباغ الطاغية، أهل السلطة، ليس المجتمع وحاجاته بل مرضاة الطاغية. هو الذي يقرر
وهو الذي يطاع، من لا يطيع ويخضع يتولى أمره الرقيب والأرجح أنه يرقد في السجن مرجعية الوعي التنموي هو المجتمع وحاجاته والعمل على تطوير المجتمع. أسلوبه هو التجاوز بمعنى العمل والنضال والحوار والنقاش لتوليد أفكار واقتناعات جديدة يؤدي مجملها الى التجاوز والتمرد، والى الانخراط في العالم وازاحة السور الثقافي الذي فرضه الدينيون, هؤلاء الذين يمارسون دونية ثقافية ويفترضون عنصرية معكوسة حيث يمارسون التمييز العنصري ضد انفسهم وضد مجتمعهم. كل العمليات الانتحارية والقتل العشوائي ينمّ عن شعور بالعزلة وعدم الفهم للمجتمعات التي يلجؤون اليها، وعدم تحمل اسلوب الحياة فيها، وعدم القدرة على الارتقاء الى العيش المألوف. هذا الكلام يأخذ بالاعتبار حاجة المجتمعات الغربية الى خزان عمال أجانب للعمل في الوظائف والأعمال الدونية التي يأنف منها أهل البلاد. تتولد الدونية الثقافية من دونية أخرى مادية وفعلية.
ليس صدفة أن يتحالف أصحاب الدين مع أهل السلطة ( المنظومة الحاكمة العربية). ثورة 2011 جعلت كل السلطات تخاف من انفجارات شعبية تتوسع وتدوم. الحروب الأهلية الراهنة هي حروب أهلية تشنها السلطات ضد شعوبها. الخلافات بين أهل المنظومة العربية الحاكمة ليست قليلة الأهمية، لكن يجب أن تعمى الأبصار عن الصراع الحقيقي: بين الشعب وحكامه. يستمر هذا الصراع وان بدا بهيئات مختلفة.
ليس من شأن المثقفين العرب أخذ مواقف مع هذا الفريق أو ذاك. الموقف السليم يكون بين الشعب والطغاة، بين الشعب من جهة وكثرة أطراف السلطة المتحاربين من جهة أخرى.