انشغلت الأوساط الاعلامية قبل يومين بخبر منسوب الى “مصادر مطلعة” أن دولة اليونان رفعت كتابا رسميا الى لبنان عن طريق وزارة الخارجية تطالبه فيه بتحديد المواد التي يتم ألقاؤها في البحر ما يؤدي إلى تلويث البحر الأبيض المتوسط. وأشارت “المصادر المطلعة” إلى أن هذه خطوة أولى يليها تقديم شكوى ضد الدولة اللبنانية قد تعرضها لدفع غرامات مالية طائلة.
يؤكد مصدر سياسي رفيع المستوى لموقع greenarea.info ان وزارة الخارجية اللبنانية لم تتلق اي كتاب رسمي من الحكومة اليونانية سواء عبر سفارة لبنان في اليونان او السفارة اليونانية في بيروت. ويشير المصدر الى انه استفسر من دبلوماسي يوناني رفيع المستوى حول صحة هذه المعلومات، فنفى الدبلوماسي اليوناني نفياً قاطعاً ان تكون بعثة بلاده قد تلقت شكوى او رسالة من هذا النوع، كما نفى علمه ان يكون هناك نية لدى الحكومة اليونانية بتوجيه رسالة تتعلق بمسؤولية لبنان عن احداث تلوث في البحر المتوسط. ويختم المصدر بالتأكيد الى ان هذا النوع من الشكاوى يجب ان تسلك مسار دبلوماسي وقانوني وفق الاصول المتعبة والمرعية الاجراء. ويتضح من جولة في محركات البحث باللغتين الإنكليزية واليونانية ان هذا الخبر لم يرد ذكره في اي من وسائل الاعلام اليونانية او الدولية.
الخبر اليقين الصادر عن اليونان ان البلد يعاني لليوم الثالث على التوالي من ارتفاع نسبة تلوث الجو، حسب ما أعلنت وزارة البيئة اليونانية. وطلبت الوزارة من المواطنين “الذين يعانون من أمراض تنفسية ومن الذين لديهم حساسية ازاء التلوث، تجنّب الخروج من المنزل”.
هل نفي خبر الشكوى اليونانية يعني انسداد خيارات تحميل الحكومة اللبنانية المسؤولية حول التلوث الناتج عن انشاء مطامر للنفايات على شاطئ البحر، ودعوتها الى وقفه ؟ والبدء فوراً بتبني خيار المعالجة الجدية للتلوث الناتج عن الصرف الصحي والصناعي والزراعي، والذي يعتبر المصدر الاكبر والاخطر لتلويث البحر المتوسط من قبل لبنان؟
من المعلوم ان الشكاوى القضائية امام القضاء العادي والعاجل لا تزال قيد النظر سواء في مطمر مصب نهر الغدير في الشويفات (الكوستابرافا) او في مطمر برج حمود – الجديدة، وبمعزل عن القرارات النهائية التي ستصدر عن القضاء، يبدو واضحاً ان الحكومة اللبنانية لم تؤمن حتى اللحظة بديل اقل تلويثاً من المطامر الشاطئية، التي ستستنفذ طاقتها الاستيعابية منتصف العام المقبل، ما ينبئ بازمة كبرى خصوصاً في المدن الساحلية في محافظتي بيروت وجبل لبنان.
ما الجدوى من التلويح بشكاوى دولية ؟ وهل من المجدي فعلاً تحريك هذا النوع من الاجراءات، سواء عبر حث الدول الاوروبية على الضغط على الحكومة اللبنانية، او من خلال رفع دعاوى وشكاوى امام المنظمات الاقليمية والدولية من خلال الاتفاقيات الملزمة والنافذة ؟
لا يبدو مجدياً على الاطلاق خيار اللجوء الى المحكمة الجنائية الدولية، كون لبنان ليس عضواً في اتفاقية روما، ولكون التلوث الناتج عن النفايات الصلبة والسائلة لا ينطبق عليه التعريف المعتمد للنظر في القضايا التي ترفع أمام المحكمة باعتبارها جرائم حرب. وكانت المحكمة الجنائية الدولية أعلنت في أيلول (سبتمبر) الماضي انها سوف تضع في قائمة أولوياتها النظر الى الجرائم المصنفة في خانة “تدمير البيئة، استغلال المصادر الطبيعية، والسلب غير القانوني للاراضي”. وقدمت المحكمة اشارة صريحة الى ان الجرائم البيئية تشمل ايضاً الاستيلاء على الاراضي، لكن ذلك لا يعني ان هذه المحكمة صالحة للنظر في قضايا من قبيل تلوث مياه البحر بالنفايات.
يجري تكرار التداول في ان المطامر التي انشاتها الحكومة اللبنانية على الشاطئ تمثل انتهاكاً صارخاً لمندرجات اتفاقية برشلونة وبرتوكولاتها الستة. ومعلوم ان هذه الاتفاقية التي ابصرت النور عام 1976 اعتمدت الأطراف المتعاقدة فيها نسخة معدلة في العام 1995 وجرى تعديل اسمها ليصبح اتفاقية حماية البيئة البحرية والمنطقة الساحلية للبحر المتوسط. ولقد وصل عدد الأطراف المتعاقدة في الاتفاقية إلى 22 طرفا، بينها لبنان. ولكن الى أي مدى استفاد البحر المتوسط من هذه الاتفاقية؟ اذ يسود هذه الاتفاقية نقاط ضعف عديدة كونها لا تلحظ بصورة كافية التفاوت الشديد بين مصادر انبعاث الملوثات الواقعة على البر المحيط بالبحر المتوسط. فعل سبيل المثال وقعت اسرائيل كونها طرف في الاتفاقية بروتوكول حماية البحر المتوسط من التلوث من مصادر برية، لكن الاتفاقية وبروتوكولاتها لم تردع دولة الاحتلال عن ارتكاب جرائم خطيرة في تلويث البحر المتوسط، اذ انها تسمح برمي النفايات الصناعية إلى عرض البحر قبالة حيفا بشكل روتيني، ويحملها تيار شرق المتوسط الجنوبي شمالا إلى المياه البحرية والشواطئ اللبنانية.
واسرائيل هي ضمن مجموعة بلدان الأكثر تلويثاً للمتوسط والتي تضم (فرنسا وإيطاليا وإسبانيا) فقد لوثت هذه البلدان المتوسط تراكمياً. وما زالت تلوثه راهناً بالجزء الأكبر، كما مارست أو ما تزال أعمالاً عدوانية أو استغلالية شملت غيرها من بلدان المتوسط. بحسب ما يشير حسني العظمة في كتابه “تلوث البحر الأبيض المتوسط” الصادر عام 2006. في المقابل فان لبنان ينتسب الى المجموعة الثانية من الاتفاقية والتي تضم (ليبيا وتونس والأراضي الفلسطينية المحتلة والجزائر وسوريا ومصر والمغرب والبوسنة والهرسك وألبانيا وتركيا). هذه البلدان متضررة من التلوث وذات مساهمة ضئيلة في التسبب فيه تراكميا وراهنا، لكنها مرشحة مستقبلاً لمزيد من المساهمة مع نموها السكاني والاقتصادي الضاغط، دون أن تمتلك القدرات اللازمة لتطبيق تدابير المكافحة. نقدم هذا التصنيف للقول ان الدول الاعضاء في اتفاقية برشلونة ليسوا في وارد تحريك دعاوى او شكاوى تتعلق بلبنان او بغيره من البلدان كون مسؤولية تحويل البحر الابيض المتوسط الى بحيرة مليئة بالقمامة وبالملوثات الكيميائية والبيولوجية والنووية هي مسؤولية مشتركة ولكن متفاوتة، ولا يحتل لبنان فيها موقعاً متقدماً بالمقارنة مع باقي الدول خصوصاً الاوروبية.
يبقى هناك منفذاً واحداً للضغط على الحكومة اللبنانية من أجل وقف تلويث المتوسط بالنفايات، وذلك من خلال ما يسمى بالاجراءات الخاصة المعتمدة ضمن آليات مجلس حقوق الإنسان التابع للامم المتحدة. وتضم الإجراءات الخاصة لمجلس حقوق الإنسان خبراء مستقلون في مجال حقوق الإنسان مكلفون بولايات لتقديم تقارير ومشورة بشأن حقوق الإنسان من منظور مواضيعي أو خاص ببلدان محددة. ونظام الإجراءات الخاصة عنصر أساسي في آليات الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ويغطي جميع حقوق الإنسان: المدنية والثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وتوجد، حتى 30 أيلول(سبتمبر) 2016، 43 ولاية مواضيعية و14 ولاية قطرية. ابرز هذه الولايات المواضيعية التي يمكن تقديم تقارير اليها حول تلويث البحر المتوسط بالنفايات، تلك التي يتولاها الخبير المستقل المعني بمسألة التزامات حقوق الإنسان المتعلقة بالتمتع ببيئة آمنة ونظيفة وصحية ومستدامة، والمقرر الخاص المعني بالآثار المترتبة في مجال حقوق الإنسان على إدارة المواد والنفايات الخطرة والتخلص منها بطريقة سليمة بيئياً. ويمكن لاي جهة لبنانية سواء على مستوى الافراد او الجمعيات والنقابات وتجمعات الصيادين وغيرهم من اصحاب المصلحة ان يقدموا تقرير الى المقرر الخاص ويطلبون منه التحقق من المعلومات التي وردت فيه وتضمينها في تقريره السنوي بعد الحصول على ردود من الحكومة المعنية. وفي حال اعتبر المقرر ان المعلومات الواردة في التقرير المرفوع اليه تستدعي زيارة خاصة الى البلد المعني، فيمكن له ان يطلب الحضور وبشكل عاجل بالتنسيق مع المفوضية السامية لحقوق الإنسان والحكومة اللبنانية التي قبلت منذ العام 2011 ان توجه دعوة مفتوحة وغير مشروطة لجميع المقررين الخاصين التابعين للامم المتحدة لزيارة لبنان في اي وقت يريدون. لكن هذه الدعوة لا تعني ان الحكومة اللبنانية قد لبت جميع طلبات الزيارة، ففي العام 2015 طلبت المقررة الخاصة المعنية باستقلالية القضاة والمحامين زيارة لبنان لكن الخارجية اللبنانية لم تتجاوب مع طلبها رغم تكراره في العام 2016. ولا زال لبنان رافضاً ايضاً لدخول عدد من المقررين الخاصين الى الاراضي اللبنانية. ففي العام 2012 تقدم الخبير المستقل المعني بآثار الديون الخارجية وما يتصل بها من التزامات مالية دولية أخرى في التمتع الكامل بجميع حقوق الإنسان، وخصوصا الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بطلب لزيارة لبنان لكن الحكومات المتعاقبة لم تستجب لهذا الطلب، ولقد كرر الخبير طلبه بزيارة لبنان في 3 آب (أغسطس) 2016، وهو لا يزال ينتظر جواباً حول هذا الطلب المكرر. كما تقدم المقرر الخاص المعني بالسكن اللائق كعنصر من عناصر الحق في مستوى معيشي مناسب بطلب لزيارة لبنان في النصف الاول من العام 2016، لكن هذه الزيارة لم يتم الموافقة عليها بعد.

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This