تسببت التغيرات المناخية الشديدة، التي ضربت كوكب الأرض عبر التاريخ، بتجمد نهر التايمز، خلال العصر الجليدي المصغر؛ وقبله نهر النيل 829 (للميلاد) ونهر الفرات 608. وفي العام 865 تجمدت مياه الممرات البحرية في إيسلندا بشكل مفاجىء، ماحدى برعاة البقر، الذين خسروا مواشيهم فجأة، إلى تسميتها بــ”ايسلندا” وتعني أرض الجليد. وما يثير الدهشة أكثر، أنه عندما اكتشف الفايكنج جزيرة غرينلاند (المتجمدة حالياً) في عام 982، سموها بذلك نسبة إلى الأراضي والمروج الخضراء، التي كانت تشير إلى دفء مناخها. فالجزيرة كانت خالية تماماً من الجليد، خلال العصور الوسطى.
مماسبق، نجد أن تأثير التغير المناخي على الإنسان، كبير وقوي، لكن هل يؤثر ذلك في ولادة أو موت الحضارات؟
آكاد وبلاد الرافدين
يتناول الفصل الخامس من كتاب “البابليون: حضارة العراق القديمة”، لمؤلفه هاري ساكز، أسباب إنهيار إمبراطورية أكاد(سوريا حالياً). من بين تلك الاسباب، يذكر التغيرات المناخية خارج بلاد الرافدين، التي أدت إلى حدوث هجرات جماعية من سوريا إلى أكاد الخصيبة، بسبب الجفاف، ما أدى إلى إنهيار الإمبراطورية على يد الكوتيين. كذلك، تظهر الدراسات الأثرية، أن فترة العبيد (حقبة حضارية طويلة الأمد، تنتمي إلى العصر الحجري النحاسي) إنتهت بشكل مفاجئ في منطقة الخليج العربي وشبه جزيرة عُمان، حوالى عام 3800 ق.م. بسبب إنخفاض مستوى مياه الخليج وبداية نشاط الكثبان الرملية، أي الجفاف، الذي أدى إلى نهاية حياة البداوة (شبه الصحراوية). واختفاء كل أشكال الظهور البشري، من تلك المنطقة ولمدة ألف عام، تلك الفترة المسماة الألفية المظلمة.
إنهيار الحضارة الفرعونية
ويرى العلماء، أن سبب نزوح الإنسان المصري القديم إلى ضفاف نهر النيل، هو التغيرات المناخية، حيث بينت أبحاث نيك بروكس (دكتور محاضر في قسم الكيمياء، لدى أمبريال كوليدج لندن)، أنه قبل الحضارة الفرعونية على ضفاف النيل، كانت صحراء شمال أفريقيا، مليئة بأشكال ومظاهر الحياة، فكانت غابات وحشائش السافانا؛ وكان الإنسان المصري القديم، يعيش في صحراء مصر الكبرى، لكن التغير المناخي أدى إلى تراجع الرياح الموسمية، ما أدى إلى إنقطاع الأمطار. وبالتالي، إنهار نظام الزراعة ونزح الفلاحون حينها، إلى ضفاف النيل وهم أساس الحضارة المصرية الفرعونية العظيمة. فلولا التغير المناخي، ما قامت الحضارة الفرعونية.
لتأكيد تلك المعلومات، استخرج الباحثون، من أعماق مكان كان يقع على مجرى نهر النيل، عينات من التربة تعود إلى زمن انهيار مملكة الفراعنة القديمة. وقاموا بتحليل هذه العينات، فكانت نتائج التحليل مفاجأة جداً، تدل على تعرض المنطقة لموجة جفاف كارثية، إستمرت لمدة جيل كامل!
يعتبر العلماء، أن الجفاف الرهيب حدث نتيجة تغّير اتجاه الرياح، فبدلاً من الرياح الحارة، التي كانت تهب على القارة الأفريقية، مسببةً أمطاراً غزيرة في أثيوبيا ومن ثم فيضان للنيل، هبت رياح باردة، مما أدى إلى انحسار مياه النيل وعدم حدوث الفيضان.
المايا: قرن من الجفاف
إزدهرت حضارة المايا (حوالى عام 2000 قبل الميلاد)، التي قامت أساساً على الزراعة، بعد معاناتها من فترة جفاف طويلة لحقت بها. هذا ما أثبته في العام 2003 العالم جيرالد هاغ، من المعهد الفدرالي السويسري للتكنولوجيا. مشيراً إلى أنه بحلول عام 830 ق .م. واجهت حضارة المايا موجة جفاف شديدة، دامت قرابة قرن. تواكبت هذه الموجة، مع بداية إنهيار تلك الحضارة، تدريجياً.
ولتأكيد ذلك، قام عالم المناخ الكورو هلينج، من جامعة ساوثهامبتون الإنجليزية، بتحليل بعض الترسبات المستخرجة من قاع بحيرات أمريكا الوسطى، حيث ازدهرت “المايا”. فأكدت كل تحليلاته، أن معدل هطول الأمطار تقلص بنسبة 40 في المائة عن المعدل الطبيعي للأمطار، خلال آخر قرن فى تاريخ تلك الحضارة. وأن شعوب المايا، عانوا خلال حوالى مائة عام متواصلة، من ندرة المطر.
الصين
إستعان عالم التاريخ في جامعة هونغ كونغ، ديفيد زانج، بدراسات دقيقة للتغيرات المناخية، التي حصلت خلال الـــ 1200 عام، التي سبقت إانهيار الحضارة الصينية. وربط تلك التغيرات بالأحداث التاريخية المواكبة لها، فكانت النتيجة مفاجأة جداً، حيث أثبت أن الإنتاج الزراعي تراجع كثيراً، عندما كان المناخ بارداً. ونتيجة لنقص الموارد الغذائية، إزادت الحروب التي خاضها الصينيون. كما لاحظ أن عدد سكان الصين، إنخفض بين أعوام 1400 و1900 قبل الميلاد.
التغير المناخي، يمكنه أيضاً أن يهدد أي حضارة في زماننا هذا، فهل نتعظ؟